الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿خُذِ العَفْوَ وأْمُرْ بِالعُرْفِ وأعْرِضْ عَنِ الجاهِلِينَ﴾ .
اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا بَيَّنَ في الآيَةِ الأُولى أنَّ اللَّهَ هو الَّذِي يَتَوَلّاهُ، وأنَّ الأصْنامَ وعابِدِيها لا يَقْدِرُونَ عَلى الإيذاءِ والإضْرارِ، وبَيَّنَ في هَذِهِ الآيَةِ ما هو المَنهَجُ القَوِيمُ والصِّراطُ المُسْتَقِيمُ في مُعامَلَةِ النّاسِ فَقالَ: ﴿خُذِ العَفْوَ وأْمُرْ بِالعُرْفِ﴾ قالَ أهْلُ اللُّغَةِ: العَفْوُ الفَضْلُ وما أتى مِن غَيْرِ كُلْفَةٍ.
إذا عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ: الحُقُوقُ الَّتِي تُسْتَوْفى مِنَ النّاسِ وتُؤْخَذُ مِنهم، إمّا أنْ يَجُوزَ إدْخالُ المُساهَلَةِ والمُسامَحَةِ فِيها، وإمّا أنْ لا يَجُوزَ.
أمّا القِسْمُ الأوَّلُ: فَهو المُرادُ بِقَوْلِهِ: ﴿خُذِ العَفْوَ﴾ ويَدْخُلُ فِيهِ تَرْكُ التَّشَدُّدِ في كُلِّ ما يَتَعَلَّقُ بِالحُقُوقِ المالِيَّةِ؛ ويَدْخُلُ فِيهِ أيْضًا التَّخَلُّقُ مَعَ النّاسِ بِالخُلُقِ الطَّيِّبِ، وتَرْكُ الغِلْظَةِ والفَظاظَةِ كَما قالَ تَعالى: ﴿ولَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ القَلْبِ لانْفَضُّوا مِن حَوْلِكَ﴾ [آلِ عِمْرانَ: ١٥٩] ومِن هَذا البابِ أنْ يَدْعُوا الخَلْقَ إلى الدِّينِ الحَقِّ بِالرِّفْقِ واللُّطْفِ، كَما قالَ تَعالى: ﴿وجادِلْهم بِالَّتِي هي أحْسَنُ﴾ [النَّحْلِ: ١٢٥] .
وأمّا القِسْمُ الثّانِي: وهو الَّذِي لا يَجُوزُ دُخُولُ المُساهَلَةِ والمُسامَحَةِ فِيهِ، فالحُكْمُ فِيهِ أنْ يَأْمُرَ بِالمَعْرُوفِ، والعُرْفُ والعارِفَةُ والمَعْرُوفُ هو كُلُّ أمْرٍ عُرِفَ أنَّهُ لا بُدَّ مِنَ الإتْيانِ بِهِ، وأنَّ وُجُودَهُ خَيْرٌ مِن عَدَمِهِ، وذَلِكَ لِأنَّ هَذا القِسْمَ لَوِ اقْتَصَرَ عَلى الأخْذِ بِالعَفْوِ ولَمْ يَأْمُرْ بِالعُرْفِ ولَمْ يَكْشِفْ عَنْ حَقِيقَةِ الحالِ، لَكانَ ذَلِكَ سَعْيًا في تَغْيِيرِ الدِّينِ وإبْطالِ الحَقِّ وأنَّهُ لا يَجُوزُ، ثُمَّ إنَّهُ إذا أمَرَ بِالعُرْفِ ورَغَّبَ فِيهِ ونَهى عَنِ المُنْكَرِ ونَفَّرَ عَنْهُ، فَرُبَّما أقْدَمَ بَعْضَ الجاهِلِينَ عَلى السَّفاهَةِ والإيذاءِ فَلِهَذا السَّبَبِ قالَ تَعالى في آخِرِ الآيَةِ: ﴿وأعْرِضْ عَنِ الجاهِلِينَ﴾ وقالَ في آيَةٍ أُخْرى: ﴿وإذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرامًا﴾ [الفُرْقانِ: ٧٢] وقالَ: ﴿والَّذِينَ هم عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ﴾ [المُؤْمِنُونَ: ٣] وقالَ في صِفَةِ أهْلِ الجَنَّةِ: ﴿لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْوًا ولا تَأْثِيمًا﴾ [الواقِعَةِ: ٢٥] وإذا أحاطَ عَقْلُكَ بِهَذا التَّقْسِيمِ عَلِمْتَ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ مُشْتَمِلَةٌ عَلى مَكارِمِ الأخْلاقِ فِيما يَتَعَلَّقُ بِمُعامَلَةِ الإنْسانِ مَعَ الغَيْرِ. قالَ عِكْرِمَةُ: لَمّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ «قالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: ”يا جِبْرِيلُ ما هَذا ؟ قالَ: يا مُحَمَّدُ إنَّ رَبَّكَ يَقُولُ هو أنْ تَصِلَ مَن قَطَعَكَ، وتُعْطِيَ مَن حَرَمَكَ، وتَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَكَ“» قالَ أهْلُ العِلْمِ: تَفْسِيرُ جِبْرِيلَ مُطابِقٌ لِلَفْظِ الآيَةِ؛ لِأنَّكَ لَوْ وصَلْتَ مَن قَطَعَكَ، فَقَدْ عَفَوْتَ عَنْهُ، وإذا آتَيْتَ مَن حَرَمَكَ فَقَدْ آتَيْتَ بِالمَعْرُوفِ، وإذا عَفَوْتَ عَمَّنْ ظَلَمَكَ فَقَدْ أعْرَضْتَ عَنِ الجاهِلِينَ، وقالَ جَعْفَرٌ الصّادِقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: ولَيْسَ في القُرْآنِ آيَةٌ أجْمَعُ لِمَكارِمِ الأخْلاقِ مِن هَذِهِ الآيَةِ. ولِلْمُفَسِّرِينَ في تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ طَرِيقٌ آخَرُ فَقالُوا: ﴿خُذِ العَفْوَ وأْمُرْ بِالعُرْفِ﴾ أيْ ما عَفا لَكَ مِن أمْوالِهِمْ، أيْ ما أتَوْكَ بِهِ عَفْوًا فَخُذْهُ، ولا تَسْألْ عَمّا وراءَ ذَلِكَ، قالُوا: كانَ هَذا قَبْلَ فَرِيضَةِ الصَّدَقَةِ، فَلَمّا نَزَلَتْ (p-٧٩)آيَةُ وُجُوبِ الزَّكاةِ صارَتْ هَذِهِ الآيَةُ مَنسُوخَةً إلّا قَوْلَهُ: ﴿وأْمُرْ بِالعُرْفِ﴾ أيْ بِإظْهارِ الدِّينِ الحَقِّ وتَقْرِيرِ دَلائِلِهِ،﴿وأعْرِضْ عَنِ الجاهِلِينَ﴾ أيِ المُشْرِكِينَ، قالُوا: وهَذا مَنسُوخٌ بِآيَةِ السَّيْفِ، فَعَلى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ جَمِيعُ الآيَةِ مَنسُوخَةٌ إلّا قَوْلَهُ: ﴿وأْمُرْ بِالعُرْفِ﴾ .
واعْلَمْ أنَّ تَخْصِيصَ قَوْلِهِ: ﴿خُذِ العَفْوَ﴾ بِما ذَكَرَهُ تَقْيِيدٌ لِلْمُطْلَقِ مِن غَيْرِ دَلِيلٍ، وأيْضًا فَهَذا الكَلامُ إذا حَمَلْناهُ عَلى أداءِ الزَّكاةِ لَمْ يَكُنْ إيجابُ الزَّكاةِ بِالمَقادِيرِ المَخْصُوصَةِ مُنافِيًا لِذَلِكَ، لِأنَّ آخِذَ الزَّكاةِ مَأْمُورٌ بِأنْ لا يَأْخُذَ كَرائِمَ أمْوالِ النّاسِ، ولا يُشَدِّدِ الأمْرَ عَلى المُزَكِّي، فَلَمْ يَكُنْ إيجابُ الزَّكاةِ سَبَبًا لِصَيْرُورَةِ هَذِهِ الآيَةِ مَنسُوخَةً.
أمّا قَوْلُهُ: ﴿وأعْرِضْ عَنِ الجاهِلِينَ﴾ فالمَقْصُودُ مِنهُ أمْرُ الرَّسُولِ ﷺ بِأنْ يَصْبِرَ عَلى سُوءِ أخْلاقِهِمْ، وأنْ لا يُقابِلَ أقْوالَهُمُ الرَّكِيكَةَ ولا أفْعالَهُمُ الخَسِيسَةَ بِأمْثالِها، ولَيْسَ فِيهِ دَلالَةٌ عَلى امْتِناعِهِ مِنَ القِتالِ، لِأنَّهُ لا يَمْتَنِعُ أنْ يُؤْمَرَ عَلَيْهِ السَّلامُ بِالإعْراضِ عَنِ الجاهِلِينَ مَعَ الأمْرِ بِقِتالِ المُشْرِكِينَ فَإنَّهُ لَيْسَ مِنَ المُتَناقِضِ أنْ يُقالَ الشّارِعُ لا يُقابِلُ سَفاهَتَهم بِمِثْلِها ولَكِنْ قاتَلَهم؛ وإذا كانَ الجَمْعُ بَيْنَ الأمْرَيْنِ مُمْكِنًا فَحِينَئِذٍ لا حاجَةَ إلى التِزامِ النَّسْخِ، إلّا أنَّ الظّاهِرِيَّةَ مِنَ المُفَسِّرِينَ مَشْغُوفُونَ بِتَكْثِيرِ النّاسِخِ والمَنسُوخِ مِن غَيْرِ ضَرُورَةٍ ولا حاجَةٍ.
{"ayah":"خُذِ ٱلۡعَفۡوَ وَأۡمُرۡ بِٱلۡعُرۡفِ وَأَعۡرِضۡ عَنِ ٱلۡجَـٰهِلِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق