الباحث القرآني

اعْلَمْ أنَّ هَذا نَوْعٌ آخَرُ مِنَ الدَّلِيلِ في بَيانِ أنَّهُ يَقْبُحُ مِنَ الإنْسانِ العاقِلِ أنْ يَشْتَغِلَ بِعِبادَةِ هَذِهِ الأصْنامِ، وتَقْرِيرُهُ أنَّهُ تَعالى ذَكَرَ في هَذِهِ الآيَةِ أعْضاءً أرْبَعَةً، وهي الأرْجُلُ والأيْدِي والأعْيُنُ والآذانُ، ولا شَكَّ أنَّ هَذِهِ الأعْضاءَ إذا حَصَلَ في كُلِّ واحِدَةٍ مِنها ما يَلِيقُ بِها مِنَ القُوى المُحَرِّكَةِ والمُدْرِكَةِ تَكُونُ أفْضَلَ مِنها إذا كانَتْ خالِيَةً عَنْ هَذِهِ القُوى، فالرِّجْلُ القادِرَةُ عَلى المَشْيِ واليَدُ القادِرَةُ عَلى البَطْشِ أفْضَلُ مِنَ اليَدِ والرِّجْلِ الخالِيَتَيْنِ عَنْ قُوَّةِ الحَرَكَةِ والحَياةِ، والعَيْنُ الباصِرَةُ والأُذُنُ السّامِعَةُ أفْضَلُ مِنَ العَيْنِ والأُذُنِ الخالِيَتَيْنِ عَنِ القُوَّةِ الباصِرَةِ والسّامِعَةِ، وعَنْ قُوَّةِ الحَياةِ، وإذا ثَبَتَ هَذا ظَهَرَ أنَّ الإنْسانَ أفْضَلُ بِكَثِيرٍ مِن هَذِهِ الأصْنامِ، بَلْ لا نِسْبَةَ لِفَضِيلَةِ الإنْسانِ إلى فَضْلِ هَذِهِ الأصْنامِ البَتَّةَ، وإذا كانَ كَذَلِكَ فَكَيْفَ يَلِيقُ بِالأفْضَلِ الأكْمَلِ الأشْرَفِ أنْ يَشْتَغِلَ بِعِبادَةِ الأخَسِّ الأدْوَنِ الَّذِي لا يُحِسُّ مِنهُ فائِدَةً البَتَّةَ، لا في جَلْبِ المَنفَعَةِ ولا في دَفْعِ المَضَرَّةِ. هَذا هو الوَجْهُ في (p-٧٦)تَقْرِيرِ هَذا الدَّلِيلِ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعالى في هَذِهِ الآيَةِ، وقَدْ تَعَلَّقَ بَعْضُ أغْمارِ المُشَبِّهَةِ وجْهًا لَهم بِهَذِهِ الآيَةِ في إثْباتِ هَذِهِ الأعْضاءِ لِلَّهِ تَعالى فَقالُوا: إنَّهُ تَعالى جَعَلَ عَدَمَ هَذِهِ الأعْضاءِ لِهَذِهِ الأصْنامِ دَلِيلًا عَلى عَدَمِ إلَهِيَّتِها، فَلَوْ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ الأعْضاءُ مَوْجُودَةً لِلَّهِ تَعالى لَكانَ عَدَمُها دَلِيلًا عَلى عَدَمِ الإلَهِيَّةِ وذَلِكَ باطِلٌ، فَوَجَبَ القَوْلُ بِإثْباتِ هَذِهِ الأعْضاءِ لِلَّهِ تَعالى. والجَوابُ عَنْهُ مِن وجْهَيْنِ: الوَجْهُ الأوَّلُ: أنَّ المَقْصُودَ مِن هَذِهِ الآيَةِ بَيانُ أنَّ الإنْسانَ أفْضَلُ وأكْمَلُ حالًا مِنَ الصَّنَمِ، لِأنَّ الإنْسانَ لَهُ رِجْلٌ ماشِيَةٌ، ويَدٌ باطِشَةٌ، وعَيْنٌ باصِرَةٌ، وأُذُنٌ سامِعَةٌ، والصَّنَمُ رِجْلُهُ غَيْرُ ماشِيَةٍ، ويَدُهُ غَيْرُ باطِشَةٍ، وعَيْنُهُ غَيْرُ مُبْصِرَةٍ، وأُذُنُهُ غَيْرُ سامِعَةٍ، وإذا كانَ كَذَلِكَ كانَ الإنْسانُ أفْضَلَ وأكْمَلَ حالًا مِنَ الصَّنَمِ، واشْتِغالُ الأفْضَلِ الأكْمَلِ بِعِبادَةِ الأخَسِّ الأدْوَنِ جَهْلٌ، فَهَذا هو المَقْصُودُ مِن ذِكْرِ هَذا الكَلامِ، لا ما ذَهَبَ إلَيْهِ وهْمُ هَؤُلاءِ الجُهّالِ. الوَجْهُ الثّانِي في الجَوابِ: أنَّ المَقْصُودَ مِن ذِكْرِ هَذا الكَلامِ تَقْرِيرُ الحُجَّةِ الَّتِي ذَكَرَها قَبْلَ هَذِهِ الآيَةِ وهي قَوْلُهُ: ﴿ولا يَسْتَطِيعُونَ لَهم نَصْرًا ولا أنْفُسَهم يَنْصُرُونَ﴾ يَعْنِي كَيْفَ تَحْسُنُ عِبادَةُ مَن لا يَقْدِرُ عَلى النَّفْعِ والضَّرَرِ ؟، ثُمَّ قَرَّرَ تَعالى ذَلِكَ بِأنَّ هَذِهِ الأصْنامَ لَمْ يَحْصُلْ لَها أرْجُلٌ ماشِيَةٌ، وأيْدٍ باطِشَةٌ، وأعْيُنٌ باصِرَةٌ، وآذانٌ سامِعَةٌ، ومَتى كانَ الأمْرُ كَذَلِكَ لَمْ تَكُنْ قادِرَةً عَلى الإنْفاعِ والإضْرارِ، فامْتَنَعَ كَوْنُها آلِهَةً، أمّا إلَهُ العالَمِ تَعالى وتَقَدَّسَ فَهو وإنْ كانَ مُتَعالِيًا عَنْ هَذِهِ الجَوارِحِ والأعْضاءِ إلّا أنَّهُ مَوْصُوفٌ بِكَمالِ القُدْرَةِ عَلى النَّفْعِ والضَّرَرِ، وهو مَوْصُوفٌ بِكَمالِ السَّمْعِ والبَصَرِ فَظَهَرَ الفَرْقُ بَيْنَ البابَيْنِ. أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكم ثُمَّ كِيدُونِ﴾ قالَ الحَسَنُ: إنَّهم كانُوا يُخَوِّفُونَ الرَّسُولَ عَلَيْهِ السَّلامُ بِآلِهَتِهِمْ، فَقالَ تَعالى: ﴿قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكم ثُمَّ كِيدُونِ﴾ لِيَظْهَرَ لَكم أنَّهُ لا قُدْرَةَ لَها عَلى إيصالِ المَضارِّ إلَيَّ بِوَجْهٍ مِنَ الوُجُوهِ، وأثْبَتَ نافِعٌ وأبُو عَمْرٍو الياءَ في (كِيدُونِي) والباقُونَ حَذَفُوها، ومِثْلُهُ في قَوْلِهِ: ﴿فَلا تُنْظِرُونِ﴾ قالَ الواحِدِيُّ، والقَوْلُ فِيهِ أنَّ الفَواصِلَ تُشْبِهُ القَوافِيَ، وقَدْ حَذَفُوا هَذِهِ الياءاتِ إذا كانَتْ في القَوافِي كَقَوْلِهِ: ؎يَلْمِسُ الأحْلاسَ في مَنزِلِهِ بِيَدَيْهِ كاليَهُودِيِّ المُمِلِّ والَّذِينَ أثْبَتُوها فَلِأنَّ الأصْلَ هو الإثْباتُ، ومَعْنى قَوْلِهِ: ﴿فَلا تُنْظِرُونِ﴾ أيْ لا تُمْهِلُونِي واعْجَلُوا في كَيْدِي أنْتُمْ وشُرَكاؤُكم.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب