الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئًا وهم يُخْلَقُونَ﴾ ﴿ولا يَسْتَطِيعُونَ لَهم نَصْرًا ولا أنْفُسَهم يَنْصُرُونَ﴾ ﴿وإنْ تَدْعُوهم إلى الهُدى لا يَتَّبِعُوكم سَواءٌ عَلَيْكم أدَعَوْتُمُوهم أمْ أنْتُمْ صامِتُونَ﴾ ﴿إنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أمْثالُكم فادْعُوهم فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكم إنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾ . اعْلَمْ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ مِن أقْوى الدَّلائِلِ عَلى أنَّهُ لَيْسَ المُرادُ بِقَوْلِهِ: ﴿فَتَعالى اللَّهُ عَمّا يُشْرِكُونَ﴾ ما ذَكَرَهُ مِن قِصَّةِ إبْلِيسَ إذْ لَوْ كانَ المُرادُ ذَلِكَ لَكانَتْ هَذِهِ الآيَةُ أجْنَبِيَّةً عَنْها بِالكُلِّيَّةِ، وكانَ ذَلِكَ غايَةَ الفَسادِ في النَّظْمِ والتَّرْتِيبِ، بَلِ المُرادُ ما ذَكَرْناهُ في سائِرِ الأجْوِبَةِ مِن أنَّ المَقْصُودَ مِنَ الآيَةِ السّابِقَةِ الرَّدُّ عَلى عَبَدَةِ الأوْثانِ. وفي الآيَةِ مَسائِلُ: (p-٧٤)المَسْألَةُ الأُولى: المَقْصُودُ مِن هَذِهِ الآيَةِ إقامَةُ الحُجَّةِ عَلى أنَّ الأوْثانَ لا تَصْلُحُ لِلْإلَهِيَّةِ فَقَوْلُهُ: ﴿أيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئًا وهم يُخْلَقُونَ﴾ مَعْناهُ أيَعْبُدُونَ ما لا يَقْدِرُ عَلى أنْ يَخْلُقَ شَيْئًا وهم يُخْلَقُونَ ؟ أيْ وهم مَخْلُوقُونَ يَعْنِي الأصْنامَ. فَإنْ قِيلَ: كَيْفَ وحَّدَ﴿يَخْلُقُ﴾ ثُمَّ جَمَعَ فَقالَ: ﴿وهم يُخْلَقُونَ﴾ وأيْضًا فَكَيْفَ ذَكَرَ الواوَ والنُّونَ في جَمْعِ غَيْرِ النّاسِ ؟ . والجَوابُ عَنِ الأوَّلِ: أنَّ لَفْظَ﴿ما﴾ تَقَعُ عَلى الواحِدِ والِاثْنَيْنِ والجَمْعِ، فَهَذِهِ مِن صِيَغِ الوِحْدانِ بِحَسَبِ ظاهِرِ لَفْظِها ومُحْتَمِلَةٌ لِلْجَمْعِ؛ فاللَّهُ تَعالى اعْتَبَرَ الجِهَتَيْنِ فَوَحَّدَ قَوْلَهُ: ﴿يَخْلُقُ﴾ رِعايَةً لِحُكْمِ ظاهِرِ اللَّفْظِ وجَمَعَ قَوْلَهُ: ﴿وهم يُخْلَقُونَ﴾ رِعايَةً لِجانِبِ المَعْنى. والجَوابُ عَنِ الثّانِي: وهو أنَّ الجَمْعَ بِالواوِ والنُّونِ في غَيْرِ مَن يَعْقِلُ كَيْفَ يَجُوزُ ؟ فَنَقُولُ: لَمّا اعْتَقَدَ عابِدُوها أنَّها تَعْقِلُ وتُمَيِّزُ فَوَرَدَ هَذا اللَّفْظُ بِناءً عَلى ما يَعْتَقِدُونَهُ ويَتَصَوَّرُونَهُ، ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وكُلٌّ في فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ [يس: ٤٠] وقَوْلُهُ: ﴿والشَّمْسَ والقَمَرَ رَأيْتُهم لِي ساجِدِينَ﴾ [يُوسُفَ: ٤] وقَوْلُهُ: ﴿ياأيُّها النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ﴾ [النَّمْلِ: ١٨] . المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قَوْلُهُ: ﴿أيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئًا وهم يُخْلَقُونَ﴾ احْتَجَّ أصْحابُنا بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى أنَّ العَبْدَ غَيْرُ مُوجِدٍ ولا خالِقٍ لِأفْعالِهِ، قالُوا: لِأنَّهُ تَعالى طَعَنَ في إلَهِيَّةِ الأجْسامِ بِسَبَبِ أنَّها لا تَخْلُقُ شَيْئًا، وهَذا الطَّعْنُ إنَّما يَتِمُّ لَوْ قُلْنا إنَّ بِتَقْدِيرِ أنَّها كانَتْ خالِقَةً لِشَيْءٍ لَمْ يَتَوَجَّهِ الطَّعْنُ في إلَهِيَّتِها، وهَذا يَقْتَضِي أنَّ كُلَّ مَن كانَ خالِقًا كانَ إلَهًا، فَلَوْ كانَ العَبْدُ خالِقًا لِأفْعالِ نَفْسِهِ كانَ إلَهًا، ولَمّا كانَ ذَلِكَ باطِلًا عَلِمْنا أنَّ العَبْدَ غَيْرُ خالِقٍ لِأفْعالِ نَفْسِهِ. * * * أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولا يَسْتَطِيعُونَ لَهم نَصْرًا﴾ يُرِيدُ أنَّ الأصْنامَ لا تَنْصُرُ مَن أطاعَها ولا تَنْتَصِرُ مِمَّنْ عَصاها، والنَّصْرُ: المَعُونَةُ عَلى العَدُوِّ، والمَعْنى أنَّ المَعْبُودَ يَجِبُ أنْ يَكُونَ قادِرًا عَلى إيصالِ النَّفْعِ ودَفْعِ الضَّرَرِ، وهَذِهِ الأصْنامُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ، فَكَيْفَ يَلِيقُ بِالعاقِلِ عِبادَتُها ؟ . ثُمَّ قالَ: ﴿ولا أنْفُسَهم يَنْصُرُونَ﴾ أيْ ولا يَدْفَعُونَ عَنْ أنْفُسِهِمْ مَكْرُوهًا فَإنَّ مَن أرادَ كَسْرَهم لَمْ يَقْدِرُوا عَلى دَفْعِهِ. ثُمَّ قالَ: ﴿وإنْ تَدْعُوهم إلى الهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ﴾ واعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا أثْبَتَ بِالآيَةِ المُتَقَدِّمَةِ أنَّهُ لا قُدْرَةَ لِهَذِهِ الأصْنامِ عَلى أمْرٍ مِنَ الأُمُورِ، بَيَّنَ بِهَذِهِ الآيَةِ أنَّهُ لا عِلْمَ لَها بِشَيْءٍ مِنَ الأشْياءِ، والمَعْنى أنَّ هَذا المَعْبُودَ الَّذِي يَعْبُدُهُ المُشْرِكُونَ مَعْلُومٌ مِن حالِهِ أنَّهُ كَما لا يَنْفَعُ ولا يَضُرُّ، فَكَذا لا يَصِحُّ فِيهِ إذا دَعا إلى الخَيْرِ الِاتِّباعُ، ولا يُفَصِّلُ حالَ مَن يُخاطِبُهُ مِمَّنْ يَسْكُتُ عَنْهُ، ثُمَّ قَوّى هَذا الكَلامَ بِقَوْلِهِ: ﴿سَواءٌ عَلَيْكم أدَعَوْتُمُوهم أمْ أنْتُمْ صامِتُونَ﴾ وهَذا مِثْلُ قَوْلِهِ: ﴿سَواءٌ عَلَيْهِمْ أأنْذَرْتَهم أمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ﴾ [البَقَرَةِ: ٦] وذَكَرْنا ما فِيهِ مِنَ المَباحِثِ في تِلْكَ الآيَةِ إلّا أنَّ الفَرْقَ في تِلْكَ الآيَةِ عَطْفُ الفِعْلِ عَلى الفِعْلِ، وهَهُنا عَطَفَ الِاسْمَ عَلى الفِعْلِ، لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿أدَعَوْتُمُوهُمْ﴾ جُمْلَةٌ فِعْلِيَّةٌ: وقَوْلَهُ: ﴿أمْ أنْتُمْ صامِتُونَ﴾ جُمْلَةٌ اسْمِيَّةٌ. واعْلَمْ أنَّهُ ثَبَتَ أنَّ عَطْفَ الجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ عَلى الفِعْلِيَّةِ لا يَجُوزُ إلّا لِفائِدَةٍ وحِكْمَةٍ، وتِلْكَ الفائِدَةُ هي أنَّ (p-٧٥)صِيغَةَ الفِعْلِ مُشْعِرَةٌ بِالتَّجَدُّدِ والحُدُوثِ حالًا بَعْدَ حالٍ، وصِيغَةُ الِاسْمِ مُشْعِرَةٌ بِالدَّوامِ والثَّباتِ والِاسْتِمْرارِ. إذا عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ: إنَّ هَؤُلاءِ المُشْرِكِينَ كانُوا إذا وقَعُوا في مُهِمٍّ وفي مُعْضِلَةٍ تَضَرَّعُوا إلى تِلْكَ الأصْنامِ، وإذا لَمْ تَحْدُثْ تِلْكَ الواقِعَةُ بَقُوا ساكِتِينَ صامِتِينَ، فَقِيلَ لَهم لا فَرْقَ بَيْنَ إحْداثِكم دُعاءَهم وبَيْنَ أنْ تَسْتَمِرُّوا عَلى صَمْتِكم وسُكُوتِكم، فَهَذا هو الفائِدَةُ في هَذِهِ اللَّفْظَةِ، ثُمَّ أكَّدَ اللَّهُ بَيانَ أنَّها لا تَصْلُحُ لِلْإلَهِيَّةِ، فَقالَ: ﴿إنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أمْثالُكُمْ﴾ وفِيهِ سُؤالٌ: وهو أنَّهُ كَيْفَ يَحْسُنُ وصْفُها بِأنَّها عِبادٌ مَعَ أنَّها جَماداتٌ ؟ وجَوابُهُ مِن وُجُوهٍ: الأوَّلُ: أنَّ المُشْرِكِينَ لَمّا ادَّعَوْا أنَّها تَضُرُّ وتَنْفَعُ، وجَبَ أنْ يَعْتَقِدُوا فِيها كَوْنَها عاقِلَةً فاهِمَةً، فَلا جَرَمَ ورَدَتْ هَذِهِ الألْفاظُ عَلى وفْقِ مُعْتَقَداتِهِمْ، ولِذَلِكَ قالَ: ﴿فادْعُوهم فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ﴾ ولَمْ يَقُلْ فادْعُوهم فَلْيَسْتَجِبْنَ لَكم وقالَ: ﴿إنَّ الَّذِينَ﴾ ولَمْ يَقُلِ الَّتِي. والجَوابُ الثّانِي: أنَّ هَذا اللَّغْوَ أُورِدَ في مَعْرِضِ الِاسْتِهْزاءِ بِهِمْ أيْ قُصارى أمْرِهِمْ أنْ يَكُونُوا أحْياءً عُقَلاءَ، فَإنْ ثَبَتَ ذَلِكَ فَهم عِبادٌ أمْثالُكم ولا فَضْلَ لَهم عَلَيْكم، فَلِمَ جَعَلْتُمْ أنْفُسَكم عَبِيدًا وجَعَلْتُمُوها آلِهَةً وأرْبابًا ؟ ثُمَّ أبْطَلَ أنْ يَكُونُوا عِبادًا أمْثالَكم. فَقالَ: ﴿ألَهم أرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها﴾ ثُمَّ أكَّدَ هَذا البَيانَ بِقَوْلِهِ: ﴿فادْعُوهم فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ﴾ ومَعْنى هَذا الدُّعاءِ طَلَبُ المَنافِعِ وكَشْفُ المَضارِّ مِن جِهَتِهِمْ، واللّامُ في قَوْلِهِ: ﴿فَلْيَسْتَجِيبُوا﴾ لامُ الأمْرِ عَلى مَعْنى التَّعْجِيزِ، والمَعْنى أنَّهُ لَمّا ظَهَرَ لِكُلِّ عاقِلٍ أنَّها لا تَقْدِرُ عَلى الإجابَةِ ظَهَرَ أنَّها لا تَصْلُحُ لِلْمَعْبُودِيَّةِ، ونَظِيرُهُ قَوْلُ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ لِأبِيهِ: ﴿لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ ولا يُبْصِرُ ولا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا﴾ [مَرْيَمَ: ٤٢] وقَوْلُهُ: ﴿إنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾ أيْ في ادِّعاءِ أنَّها آلِهَةٌ ومُسْتَحِقَّةٌ لِلْعِبادَةِ، ولَمّا ثَبَتَ بِهَذِهِ الدَّلائِلِ الثَّلاثَةِ اليَقِينِيَّةِ أنَّها لا تَصْلُحُ لِلْمَعْبُودِيَّةِ، وجَبَ عَلى العاقِلِ أنْ لا يَلْتَفِتَ إلَيْها، وأنْ لا يَشْتَغِلَ إلّا بِعِبادَةِ الإلَهِ القادِرِ العالِمِ الحَيِّ الحَكِيمِ الضّارِّ النّافِعِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب