الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِن جِنَّةٍ إنْ هو إلّا نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾ واعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا بالَغَ في تَهْدِيدِ المُعْرِضِينَ عَنْ آياتِهِ، الغافِلِينَ عَنِ التَّأمُّلِ في دَلائِلِهِ وبَيِّناتِهِ، عادَ إلى الجَوابِ عَنْ شُبَهاتِهِمْ. فَقالَ: ﴿أوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِن جِنَّةٍ﴾ والتَّفَكُّرُ طَلَبُ المَعْنى بِالقَلْبِ؛ وذَلِكَ لِأنَّ فِكْرَةَ القَلْبِ هو المُسَمّى بِالنَّظَرِ، والتَّعَقُّلِ في الشَّيْءِ والتَّأمُّلِ فِيهِ والتَّدَبُّرِ لَهُ، وكَما أنَّ الرُّؤْيَةَ بِالبَصَرِ حالَةٌ مَخْصُوصَةٌ مِنَ الِانْكِشافِ والجَلاءِ، ولَها مُقَدِّمَةٌ وهي تَقْلِيبُ الحَدَقَةِ إلى جِهَةِ المَرْئِيِّ: طَلَبًا لِتَحْصِيلِ تِلْكَ الرُّؤْيَةِ بِالبَصَرِ، فَكَذَلِكَ الرُّؤْيَةُ بِالبَصِيرَةِ، وهي المُسَمّاةُ بِالعِلْمِ واليَقِينِ حالَةٌ مَخْصُوصَةٌ في الِانْكِشافِ والجَلاءِ، ولَها مُقَدِّمَةٌ وهي تَقْلِيبُ حَدَقَةِ العَقْلِ إلى الجَوانِبِ طَلَبًا لِذَلِكَ الِانْكِشافِ والتَّجَلِّي، وذَلِكَ هو المُسَمّى بِنَظَرِ العَقْلِ وفِكْرَتِهِ، فَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿أوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا﴾ أمْرٌ بِالفِكْرِ والتَّأمُّلِ والتَّدَبُّرِ والتَّرَوِّي لِطَلَبِ مَعْرِفَةِ الأشْياءِ كَما هي عِرْفانًا تامًّا، وفي اللَّفْظِ مَحْذُوفٌ والتَّقْدِيرُ: أوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فَيَعْلَمُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِن جِنَّةٍ، والجِنَّةُ حالَةٌ مِنَ الجُنُونِ، كالجِلْسَةِ والرِّكْبَةِ ودُخُولُ ”مِن“ في قَوْلِهِ: ﴿مِن جِنَّةٍ﴾ يُوجِبُ أنْ لا يَكُونَ بِهِ نَوْعٌ مِن أنْواعِ الجُنُونِ. واعْلَمْ أنَّ بَعْضَ الجُهّالِ مِن أهْلِ مَكَّةَ كانُوا يَنْسُبُونَهُ إلى الجُنُونِ لِوَجْهَيْنِ: الأوَّلُ: أنَّ فِعْلَهُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - كانَ مُخالِفًا لِفِعْلِهِمْ، وذَلِكَ لِأنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - كانَ مُعْرِضًا عَنِ الدُّنْيا مُقْبِلًا عَلى الآخِرَةِ، مُشْتَغِلًا بِالدَّعْوَةِ إلى اللَّهِ، فَكانَ العَمَلُ مُخالِفًا لِطَرِيقَتِهِمْ، فاعْتَقَدُوا فِيهِ أنَّهُ مَجْنُونٌ. قالَ الحَسَنُ وقَتادَةُ: «إنَّ النَّبِيَّ ﷺ قامَ لَيْلًا عَلى الصَّفا يَدْعُو فَخِذًا فَخِذًا مِن قُرَيْشٍ. فَقالَ يا بَنِي فُلانٍ يا بَنِي فُلانٍ، وكانَ يُحَذِّرُهم بَأْسَ اللَّهِ وعِقابَهُ، فَقالَ قائِلُهم: إنَّ صاحِبَكم هَذا لَمَجْنُونٌ، واظَبَ عَلى الصِّياحِ طُولَ هَذِهِ اللَّيْلَةِ»، فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى هَذِهِ الآيَةَ وحَثَّهم عَلى التَّفَكُّرِ في أمْرِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلامُ -، لِيَعْلَمُوا أنَّهُ إنَّما دَعا لِلْإنْذارِ لا لِما نَسَبَهُ إلَيْهِ الجُهّالُ. الثّانِي: أنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - كانَ يَغْشاهُ حالَةٌ عَجِيبَةٌ عِنْدَ نُزُولِ الوَحْيِ فَيَتَغَيَّرُ وجْهُهُ ويَصْفَرُّ لَوْنُهُ، وتَعْرِضُ لَهُ حالَةٌ شَبِيهَةٌ بِالغَشْيِ، فالجُهّالُ كانُوا يَقُولُونَ إنَّهُ جُنُونٌ فاللَّهُ تَعالى بَيَّنَ في هَذِهِ الآيَةِ أنَّهُ لَيْسَ بِهِ نَوْعٌ مِن أنْواعِ الجُنُونِ، وذَلِكَ لِأنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - كانَ يَدْعُوهم إلى اللَّهِ، ويُقِيمُ الدَّلائِلَ القاطِعَةَ والبَيِّناتِ الباهِرَةَ، بِألْفاظٍ فَصِيحَةٍ بَلَغَتْ في الفَصاحَةِ إلى حَيْثُ عَجَزَ الأوَّلُونَ والآخَرُونَ عَنْ مُعارَضَتِها، وكانَ حَسَنَ الخُلُقِ، طَيِّبَ العِشْرَةِ، مَرْضِيَّ الطَّرِيقَةِ نَقِيَّ السِّيرَةِ، مُواظِبًا عَلى أعْمالٍ حَسَنَةٍ صارَ بِسَبَبِها قُدْوَةً لِلْعُقَلاءِ العالِمِينَ، ومِنَ المَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أنَّ مِثْلَ هَذا الإنْسانِ لا يُمْكِنُ وصْفُهُ بِالجُنُونِ، وإذا ثَبَتَ هَذا ظَهَرَ أنَّ اجْتِهادَهُ عَلى الدَّعْوَةِ إلى الدِّينِ إنَّما كانَ لِأنَّهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ، أرْسَلَهُ رَبُّ العالَمِينَ لِتَرْهِيبِ الكافِرِينَ، وتَرْغِيبِ المُؤْمِنِينَ، ولَمّا كانَ النَّظَرُ في أمْرِ النُّبُوَّةِ مُفَرَّعًا عَلى تَقْرِيرِ دَلائِلِ التَّوْحِيدِ، لا جَرَمَ ذُكِرَ عَقِيبَهُ ما يَدُلُّ عَلى التَّوْحِيدِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب