الباحث القرآني
(p-٣٩)قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وإذْ أخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهم وأشْهَدَهم عَلى أنْفُسِهِمْ ألَسْتُ بِرَبِّكم قالُوا بَلى شَهِدْنا أنْ تَقُولُوا يَوْمَ القِيامَةِ إنّا كُنّا عَنْ هَذا غافِلِينَ﴾ ﴿أوْ تَقُولُوا إنَّما أشْرَكَ آباؤُنا مِن قَبْلُ وكُنّا ذُرِّيَّةً مِن بَعْدِهِمْ أفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ المُبْطِلُونَ﴾ ﴿وكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ ولَعَلَّهم يَرْجِعُونَ﴾
فِي الآيَةِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا شَرَحَ قِصَّةَ مُوسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - مَعَ تَوابِعِها عَلى أقْصى الوُجُوهِ ذَكَرَ في هَذِهِ الآيَةِ ما يَجْرِي مَجْرى تَقْرِيرِ الحُجَّةِ عَلى جَمِيعِ المُكَلَّفِينَ، وفي تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ قَوْلانِ:
الأوَّلُ: وهو مَذْهَبُ المُفَسِّرِينَ وأهْلِ الأثَرِ ما رَوى مُسْلِمُ بْنُ يَسارٍ الجُهَنِيُّ أنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الآيَةِ، فَقالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ سُئِلَ عَنْها فَقالَ: «إنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ وتَعالى خَلَقَ آدَمَ ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ، فاسْتَخْرَجَ مِنهُ ذُرِّيَّةً، فَقالَ: خَلَقْتُ هَؤُلاءِ لِلْجَنَّةِ وبِعَمَلِ أهْلِ الجَنَّةِ يَعْمَلُونَ، ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ فاسْتَخْرَجَ مِنهُ ذُرِّيَّةً، فَقالَ: خَلَقْتُ هَؤُلاءِ لِلنّارِ وبِعَمَلِ أهْلِ النّارِ يَعْمَلُونَ. فَقالَ رَجُلٌ: يا رَسُولَ اللَّهِ فَفِيمَ العَمَلُ ؟ فَقالَ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ -: إنَّ اللَّهَ إذا خَلَقَ العَبْدَ لِلْجَنَّةِ اسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أهْلِ الجَنَّةِ حَتّى يَمُوتَ عَلى عَمَلٍ مِن أعْمالِ أهْلِ الجَنَّةِ فَيَدْخُلَ الجَنَّةَ، وإذا خَلَقَ العَبْدَ لِلنّارِ اسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أهْلِ النّارِ حَتّى يَمُوتَ عَلى عَمَلٍ مِن أعْمالِ أهْلِ النّارِ فَيُدْخِلَهُ اللَّهُ النّارَ» .
وعَنْ أبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لَمّا خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ مَسَحَ ظَهْرَهُ فَسَقَطَ مِن ظَهْرِهِ كُلُّ نَسَمَةٍ مِن ذُرِّيَّتِهِ إلى يَوْمِ القِيامَةِ» وقالَ مُقاتِلٌ: إنَّ اللَّهَ مَسَحَ صَفْحَةَ ظَهْرِ آدَمَ اليُمْنى فَخَرَجَ مِنهُ ذُرِّيَّةٌ بَيْضاءُ كَهَيْئَةِ الذَّرِّ تَتَحَرَّكُ، ثُمَّ مَسَحَ صَفْحَةَ ظَهْرِهِ اليُسْرى، فَخَرَجَ مِنهُ ذُرِّيَّةٌ سَوْداءُ كَهَيْئَةِ الذَّرِّ فَقالَ يا آدَمُ هَؤُلاءِ ذُرِّيَّتُكَ.
ثُمَّ قالَ لَهم: ﴿ألَسْتُ بِرَبِّكم قالُوا بَلى﴾ فَقالَ لِلْبِيضِ هَؤُلاءِ في الجَنَّةِ بِرَحْمَتِي وهم أصْحابُ اليَمِينِ، وقالَ لِلسُّودِ هَؤُلاءِ في النّارِ ولا أُبالِي وهم أصْحابُ المَشْأمَةِ، ثُمَّ أعادَهم جَمِيعًا في صُلْبِ آدَمَ، فَأهْلُ القَبُولِ مَحْبُوسُونَ حَتّى يَخْرُجَ أهْلُ المِيثاقِ كُلُّهم مِن أصْلابِ الرِّجالِ، وأرْحامِ النِّساءِ. وقالَ تَعالى فِيمَن نَقَضَ العَهْدَ الأوَّلَ﴿وما وجَدْنا لِأكْثَرِهِمْ مِن عَهْدٍ﴾ [الأعراف: ١٠٢] وهَذا القَوْلُ قَدْ ذَهَبَ إلَيْهِ كَثِيرٌ مِن قُدَماءِ المُفَسِّرِينَ كَسَعِيدِ بْنِ المُسَيَّبِ، وسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، والضَّحّاكِ، وعِكْرِمَةَ، والكَلْبِيِّ، وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: أنَّهُ أبْصَرَ آدَمَ في ذُرِّيَّتِهِ قَوْمًا لَهم نُورٌ. فَقالَ يا رَبِّ مَن هم ؟ فَقالَ: الأنْبِياءُ، ورَأى واحِدًا هو أشَدُّهم نُورًا فَقالَ مَن هو ؟ قالَ: داوُدُ، قالَ: فَكَمْ عُمْرُهُ ؟ قالَ: سَبْعُونَ سَنَةً قالَ آدَمُ: هو قَلِيلٌ قَدْ وهَبْتُهُ مِن عُمُرِي أرْبَعِينَ سَنَةً، وكانَ عُمُرُ آدَمَ ألْفَ سَنَةٍ، فَلَمّا تَمَّ عُمُرُ آدَمَ تِسْعَمِائَةٍ وسِتِّينَ سَنَةً أتاهُ مَلَكُ المَوْتِ لِيَقْبِضَ رُوحَهُ، فَقالَ بَقِيَ مِن أجَلِي أرْبَعُونَ سَنَةً، فَقالَ: ألَسْتَ وقَدْ وهَبْتَهُ مِنَ ابْنِكَ داوُدَ ؟ فَقالَ: ما كُنْتُ لِأجْعَلَ لِأحَدٍ مِن أجَلِي شَيْئًا، فَعِنْدَ ذَلِكَ كُتِبَ لِكُلِّ نَفْسٍ أجَلُها. أمّا المُعْتَزِلَةُ: فَقَدْ أطْبَقُوا عَلى أنَّهُ لا يَجُوزُ تَفْسِيرُ هَذِهِ الآيَةِ بِهَذا الوَجْهِ. واحْتَجُّوا عَلى فَسادِ هَذا القَوْلِ بِوُجُوهٍ.
الحُجَّةُ الأُولى لَهم قالُوا: قَوْلُهُ: ﴿مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ﴾ لا شَكَّ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿مِن ظُهُورِهِمْ﴾ بَدَلٌ مِن قَوْلِهِ: ﴿بَنِي آدَمَ﴾ فَيَكُونُ المَعْنى: وإذْ أخَذَ رَبُّكَ مِن ظُهُورِ بَنِي آدَمَ. وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ: فَلَمْ يَذْكُرِ اللَّهُ تَعالى أنَّهُ أخَذَ مِن ظَهْرِ آدَمَ شَيْئًا.
الحُجَّةُ الثّانِيَةُ: أنَّهُ لَوْ كانَ المُرادُ أنَّهُ تَعالى أخْرَجَ مِن ظَهْرِ آدَمَ شَيْئًا مِنَ الذُّرِّيَّةِ لَما قالَ: ﴿مِن ظُهُورِهِمْ﴾ بَلْ كانَ يَجِبُ أنْ يَقُولَ: مِن ظَهْرِهِ، لِأنَّ آدَمَ لَيْسَ لَهُ إلّا ظَهْرٌ واحِدٌ، وكَذَلِكَ قَوْلُهُ:(ذُرِّيَّتَهم) لَوْ كانَ آدَمُ لَقالَ: ذُرِّيَّتَهُ.
(p-٤٠)الحُجَّةُ الثّالِثَةُ: أنَّهُ تَعالى حَكى عَنْ أُولَئِكَ الذُّرِّيَّةِ أنَّهم قالُوا: ﴿إنَّما أشْرَكَ آباؤُنا مِن قَبْلُ﴾ وهَذا الكَلامُ يَلِيقُ بِأوْلادِ آدَمَ؛ لِأنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - ما كانَ مُشْرِكًا.
الحُجَّةُ الرّابِعَةُ: أنَّ أخْذَ المِيثاقِ لا يُمْكِنُ إلّا مِنَ العاقِلِ، فَلَوْ أخَذَ اللَّهُ المِيثاقَ مِن أُولَئِكَ الذَّرِّ لَكانُوا عُقَلاءَ، ولَوْ كانُوا عُقَلاءَ وأُعْطُوا ذَلِكَ المِيثاقَ حالَ عَقْلِهِمْ لَوَجَبَ أنْ يَتَذَكَّرُوا في هَذا الوَقْتِ أنَّهم أُعْطُوا المِيثاقَ قَبْلَ دُخُولِهِمْ في هَذا العالَمِ؛ لِأنَّ الإنْسانَ إذا وقَعَتْ لَهُ واقِعَةٌ عَظِيمَةٌ مَهِيبَةٌ، فَإنَّهُ لا يَجُوزُ مَعَ كَوْنِهِ عاقِلًا أنْ يَنْساها نِسْيانًا كُلِّيًّا لا يَتَذَكَّرُ مِنها شَيْئًا لا بِالقَلِيلِ ولا بِالكَثِيرِ، وبِهَذا الدَّلِيلِ يَبْطُلُ القَوْلُ بِالتَّناسُخِ. فَإنّا نَقُولُ لَوْ كانَتْ أرْواحُنا قَدْ حَصَلَتْ قَبْلَ هَذِهِ الأجْسادِ في أجْسادٍ أُخْرى؛ لَوَجَبَ أنْ نَتَذَكَّرَ الآنَ أنّا كُنّا قَبْلَ هَذا الجَسَدِ في جَسَدٍ آخَرَ، وحَيْثُ لَمْ نَتَذَكَّرْ ذَلِكَ كانَ القَوْلُ بِالتَّناسُخِ باطِلًا. فَإذا كانَ اعْتِمادُنا في إبْطالِ التَّناسُخِ لَيْسَ إلّا عَلى هَذا الدَّلِيلِ، وهَذا الدَّلِيلُ بِعَيْنِهِ قائِمٌ في هَذِهِ المَسْألَةِ، وجَبَ القَوْلُ بِمُقْتَضاهُ، فَلَوْ جازَ أنْ يُقالَ إنّا في وقْتِ المِيثاقِ أُعْطِينا العَهْدُ والمِيثاقُ مَعَ أنّا في هَذا الوَقْتِ لا نَتَذَكَّرُ شَيْئًا مِنهُ، فَلِمَ لا يَجُوزُ أيْضًا أنْ يُقالَ إنّا كُنّا قَبْلَ هَذا البَدَنِ في بَدَنٍ آخَرَ مَعَ أنّا في هَذا البَدَنِ لا نَتَذَكَّرُ شَيْئًا مِن تِلْكَ الأحْوالِ. وبِالجُمْلَةِ فَلا فَرْقَ بَيْنَ هَذا القَوْلِ وبَيْنَ مَذْهَبِ أهْلِ التَّناسُخِ، فَإنْ لَمْ يَبْعُدِ التِزامُ هَذا القَوْلِ لَمْ يَبْعُدْ أيْضًا التِزامُ مَذْهَبِ التَّناسُخِ.
الحُجَّةُ الخامِسَةُ: أنَّ جَمِيعَ الخَلْقِ الَّذِينَ خَلَقَهُمُ اللَّهُ مِن أوْلادِ آدَمَ عَدَدٌ عَظِيمٌ وكَثْرَةٌ كَثِيرَةٌ، فالمَجْمُوعُ الحاصِلُ مِن تِلْكَ الذُّرِّيّاتِ يَبْلُغُ مَبْلَغًا عَظِيمًا في الحَجْمِيَّةِ والمِقْدارِ، وصُلْبُ آدَمَ عَلى صِغَرِهِ يَبْعُدُ أنْ يَتَّسِعَ لِذَلِكَ المَجْمُوعِ.
الحُجَّةُ السّادِسَةُ: أنَّ البِنْيَةَ شَرْطٌ لِحُصُولِ الحَياةِ والعَقْلِ والفَهْمِ، إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَمْ يَبْعُدْ في كُلِّ ذَرَّةٍ مِن ذَرّاتِ الهَباءِ أنْ يَكُونَ عاقِلًا فاهِمًا مُصَنِّفًا لِلتَّصانِيفِ الكَثِيرَةِ في العُلُومِ الدَّقِيقَةِ. وفَتْحُ هَذا البابِ يُفْضِي إلى التِزامِ الجَهالاتِ. وإذا ثَبَتَ أنَّ البِنْيَةَ شَرْطٌ لِحُصُولِ الحَياةِ، فَكُلُّ واحِدٍ مِن تِلْكَ الذَّرّاتِ لا يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ عالِمًا فاهِمًا عاقِلًا؛ إلّا إذا حَصَلَتْ لَهُ قُدْرَةٌ مِنَ البِنْيَةِ واللَّحْمِيَّةِ والدَّمِيَّةِ، وإذا كانَ كَذَلِكَ فَمَجْمُوعُ تِلْكَ الأشْخاصِ الَّذِينَ خَرَجُوا إلى الوُجُودِ مَن أوَّلِ تَخْلِيقِ آدَمَ إلى آخِرِ قِيامِ القِيامَةِ لا تَحْوِيهِمْ عَرْصَةُ الدُّنْيا، فَكَيْفَ يُمْكِنُ أنْ يُقالَ إنَّهم بِأسْرِهِمْ حَصَلُوا دُفْعَةً واحِدَةً في صُلْبِ آدَمَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - ؟
الحُجَّةُ السّابِعَةُ: قالُوا هَذا المِيثاقُ إمّا أنْ يَكُونَ قَدْ أخَذَهُ اللَّهُ مِنهم في ذَلِكَ الوَقْتِ لِيَصِيرَ حُجَّةً عَلَيْهِمْ في ذَلِكَ الوَقْتِ، أوْ لِيَصِيرَ حُجَّةً عَلَيْهِمْ عِنْدَ دُخُولِهِمْ في دارِ الدُّنْيا. والأوَّلُ باطِلٌ لِانْعِقادِ الإجْماعِ عَلى أنَّ بِسَبَبِ ذَلِكَ القَدْرِ مِنَ المِيثاقِ لا يَصِيرُونَ مُسْتَحِقِّينَ لِلثَّوابِ والعِقابِ والمَدْحِ والذَّمِّ ولا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ المَطْلُوبُ مِنهُ أنْ يَصِيرَ ذَلِكَ حُجَّةً عَلَيْهِمْ عِنْدَ دُخُولِهِمْ في دارِ الدُّنْيا؛ لِأنَّهم لَمّا لَمْ يَذْكُرُوا ذَلِكَ المِيثاقَ في الدُّنْيا فَكَيْفَ يَصِيرُ ذَلِكَ حُجَّةً عَلَيْهِمْ في التَّمَسُّكِ بِالإيمانِ ؟
الحُجَّةُ الثّامِنَةُ: قالَ الكَعْبِيُّ: إنَّ حالَ أُولَئِكَ الذُّرِّيَّةِ لا يَكُونُ أعْلى في الفَهْمِ والعِلْمِ مِن حالِ الأطْفالِ، ولَمّا لَمْ يَكُنْ تَوْجِيهُ التَّكْلِيفِ عَلى الطِّفْلِ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ تَوْجِيهُهُ عَلى أُولَئِكَ الذَّواتِ ؟
وأجابَ الزَّجّاجُ عَنْهُ فَقالَ: لَمّا لَمْ يَبْعُدْ أنْ يُؤْتِيَ اللَّهُ النَّمْلَ العَقْلَ كَما قالَ: ﴿قالَتْ نَمْلَةٌ ياأيُّها النَّمْلُ﴾ [النمل: ١٨] وأنْ يُعْطِيَ الجَبَلَ الفَهْمَ حَتّى يُسَبِّحَ كَما قالَ: ﴿وسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الجِبالَ يُسَبِّحْنَ﴾ [الأنبياء: ٧٩] وكَما أعْطى اللَّهُ العَقْلَ لِلْبَعِيرِ حَتّى سَجَدَ لِلرَّسُولِ، ولِلنَّخْلَةِ حَتّى سَمِعَتْ وانْقادَتْ حِينَ دُعِيَتْ فَكَذا هَهُنا.
(p-٤١)الحُجَّةُ التّاسِعَةُ: أنَّ أُولَئِكَ الذَّرِّ في ذَلِكَ الوَقْتِ إمّا أنْ يَكُونُوا كامِلِي العُقُولِ والقَدْرِ أوْ ما كانُوا كَذَلِكَ، فَإنْ كانَ الأوَّلُ كانُوا مُكَلَّفِينَ لا مَحالَةَ وإنَّما يَبْقُونَ مُكَلَّفِينَ إذا عَرَفُوا اللَّهَ بِالِاسْتِدْلالِ ولَوْ كانُوا كَذَلِكَ لَما امْتازَتْ أحْوالُهم في ذَلِكَ الوَقْتِ عَنْ أحْوالِهِمْ في هَذِهِ الحَياةِ الدُّنْيا، فَلَوِ افْتَقَرَ التَّكْلِيفُ في الدُّنْيا إلى سَبْقِ ذَلِكَ المِيثاقِ لافْتَقَرَ التَّكْلِيفُ في وقْتِ ذَلِكَ المِيثاقِ إلى سَبْقِ مِيثاقٍ آخَرَ ولَزِمَ التَّسَلْسُلُ وهو مُحالٌ. وأمّا الثّانِي: وهو أنْ يُقالَ إنَّهم في وقْتِ ذَلِكَ المِيثاقِ ما كانُوا كامِلِي العُقُولِ ولا كامِلِي القَدْرِ، فَحِينَئِذٍ يَمْتَنِعُ تَوْجِيهُ الخِطابِ والتَّكْلِيفُ عَلَيْهِمْ.
الحُجَّةُ العاشِرَةُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَلْيَنْظُرِ الإنْسانُ مِمَّ خُلِقَ﴾ ﴿خُلِقَ مِن ماءٍ دافِقٍ﴾ [الطارق: ٥ - ٦] ولَوْ كانَتْ تِلْكَ الذَّرّاتُ عُقَلاءَ فاهِمِينَ كامِلِينَ، لَكانُوا مَوْجُودِينَ قَبْلَ هَذا الماءِ الدّافِقِ، ولا مَعْنى لِلْإنْسانِ إلّا ذَلِكَ الشَّيْءُ فَحِينَئِذٍ لا يَكُونُ الإنْسانُ مَخْلُوقًا مِنَ الماءِ الدّافِقِ وذَلِكَ رَدٌّ لِنَصِّ القُرْآنِ.
فَإنْ قالُوا: لِمَ لا يَجُوزُ أنْ يُقالَ إنَّهُ تَعالى خَلَقَهُ كامِلَ العَقْلِ والفَهْمِ عِنْدَ المِيثاقِ ثُمَّ أزالَ عَقْلَهُ وفَهْمَهُ وقُدْرَتَهُ، ثُمَّ إنَّهُ خَلَقَهُ مَرَّةً أُخْرى في رَحِمِ الأُمِّ وأخْرَجَهُ إلى هَذِهِ الحَياةِ ؟ .
قُلْنا: هَذا باطِلٌ لِأنَّهُ لَوْ كانَ الأمْرُ كَذَلِكَ لَما كانَ خَلَقَهُ مِنَ النُّطْفَةِ خَلْقًا عَلى سَبِيلِ الِابْتِداءِ بَلْ يَجِبُ أنْ يَكُونَ خَلْقًا عَلى سَبِيلِ الإعادَةِ. وأجْمَعَ المُسْلِمُونَ عَلى أنَّ خَلْقَهُ مِنَ النُّطْفَةِ هو الخَلْقُ المُبْتَدَأُ فَدَلَّ هَذا عَلى أنَّ ما ذَكَرْتُمُوهُ باطِلٌ.
الحُجَّةُ الحادِيَةَ عَشْرَةَ: هي أنَّ تِلْكَ الذَّرّاتِ إمّا أنْ يُقالَ هي عَيْنُ هَؤُلاءِ النّاسِ أوْ غَيْرِهِمْ، والقَوْلُ الثّانِي باطِلٌ بِالإجْماعِ، بَقِيَ القَوْلُ الأوَّلُ. فَنَقُولُ: إمّا أنْ يُقالَ إنَّهم بَقُوا فُهَماءَ عُقَلاءَ قادِرِينَ حالَ ما كانُوا نُطْفَةً وعَلَقَةً ومُضْغَةً أوْ ما بَقُوا كَذَلِكَ، والأوَّلُ باطِلٌ بِبَدِيهَةِ العَقْلِ، والثّانِي يَقْتَضِي أنْ يُقالَ الإنْسانُ حَصَلَ لَهُ الحَياةُ أرْبَعَ مَرّاتٍ: أوَّلُها وقْتَ المِيثاقِ، وثانِيها في الدُّنْيا، وثالِثُها في القَبْرِ، ورابِعُها في القِيامَةِ. وأنَّهُ حَصَلَ لَهُ المَوْتُ ثَلاثَ مَرّاتٍ. مَوْتٌ بَعْدَ الحَياةِ الحاصِلَةِ في المِيثاقِ الأوَّلِ، ومَوْتٌ في الدُّنْيا، ومَوْتٌ في القَبْرِ، وهَذا العَدَدُ مُخالِفٌ لِلْعَدَدِ المَذْكُورِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿رَبَّنا أمَتَّنا اثْنَتَيْنِ وأحْيَيْتَنا اثْنَتَيْنِ﴾ [غافر: ١١] .
الحُجَّةُ الثّانِيَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولَقَدْ خَلَقْنا الإنْسانَ مِن سُلالَةٍ مِن طِينٍ﴾ [المؤمنون: ١٢] فَلَوْ كانَ القَوْلُ بِهَذا الذَّرِّ صَحِيحًا لَكانَ ذَلِكَ الذَّرُّ هو الإنْسانُ؛ لِأنَّهُ هو المُكَلَّفُ المُخاطَبُ المُثابُ المُعاقَبُ، وذَلِكَ باطِلٌ؛ لِأنَّ ذَلِكَ الذَّرَّ غَيْرُ مَخْلُوقٍ مِنَ النُّطْفَةِ، والعَلَقَةِ، والمُضْغَةِ، ونَصُّ الكِتابِ دَلِيلٌ عَلى أنَّ الإنْسانَ مَخْلُوقٌ مِنَ النُّطْفَةِ والعَلَقَةِ، وهو قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولَقَدْ خَلَقْنا الإنْسانَ مِن سُلالَةٍ مِن طِينٍ﴾، وقَوْلُهُ: ﴿قُتِلَ الإنْسانُ ما أكْفَرَهُ﴾ ﴿مِن أيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ﴾ ﴿مِن نُطْفَةٍ خَلَقَهُ﴾ [عبس: ١٧ - ١٩] فَهَذِهِ جُمْلَةُ الوُجُوهِ المَذْكُورَةِ في بَيانِ أنَّ هَذا القَوْلَ ضَعِيفٌ.
والقَوْلُ الثّانِي في تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ: قَوْلُ أصْحابِ النَّظَرِ وأرْبابِ المَعْقُولاتِ: إنَّهُ تَعالى أخْرَجَ الذُّرِّيَّةَ وهُمُ الأوْلادُ مِن أصْلابِ آبائِهِمْ، وذَلِكَ الإخْراجُ أنَّهم كانُوا نُطْفَةً فَأخْرَجَها اللَّهُ تَعالى في أرْحامِ الأُمَّهاتِ، وجَعَلَها عَلَقَةً، ثُمَّ مُضْغَةً، ثُمَّ جَعَلَهم بَشَرًا سَوِيًّا، وخَلْقًا كامِلًا، ثُمَّ أشْهَدَهم عَلى أنْفُسِهِمْ بِما رَكَّبَ فِيهِمْ مِن دَلائِلِ وحْدانِيَّتِهِ، وعَجائِبِ خَلْقِهِ، وغَرائِبِ صُنْعِهِ. فَبِالإشْهادِ صارُوا كَأنَّهم قالُوا بَلى، وإنْ لَمْ يَكُنْ هُناكَ قَوْلٌ بِاللِّسانِ، ولِذَلِكَ نَظائِرُ مِنها قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَقالَ لَها ولِلْأرْضِ اِئْتِيا طَوْعًا أوْ كَرْهًا قالَتا أتَيْنا طائِعِينَ﴾ [فصلت: ١١] (p-٤٢)ومِنها قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّما أمْرُهُ إذا أرادَ شَيْئًا أنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [يس: ٨٢] وقَوْلُ العَرَبِ:
؎قالَ الجِدارُ لِلْوَتِدِ لِمَ تَشُقُّنِي قالَ سَلْ مَن يَدُقُّنِي
؎فَإنَّ الَّذِي ورايِي ∗∗∗ ما خَلّانِي ورايِي
وقالَ الشّاعِرُ:
؎امْتَلَأ الحَوْضُ وقالَ قَطْنِي
فَهَذا النَّوْعُ مِنَ المَجازِ والِاسْتِعارَةِ مَشْهُورٌ في الكَلامِ، فَوَجَبَ حَمْلُ الكَلامِ عَلَيْهِ، فَهَذا هو الكَلامُ في تَقْرِيرِ هَذَيْنِ القَوْلَيْنِ، وهَذا القَوْلُ الثّانِي لا طَعْنَ فِيهِ البَتَّةَ، وبِتَقْدِيرِ أنْ يَصِحَّ هَذا القَوْلُ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُنافِيًا لِصِحَّةِ القَوْلِ الأوَّلِ؛ إنَّما الكَلامُ في أنَّ القَوْلَ الأوَّلَ هَلْ يَصِحُّ أمْ لا ؟
فَإنْ قالَ قائِلٌ: فَما المُخْتارُ عِنْدَكم فِيهِ ؟
قُلْنا: هَهُنا مَقامانِ:
أحَدُهُما: أنَّهُ هَلْ يَصِحُّ القَوْلُ بِأخْذِ المِيثاقِ عَنِ الذَّرِّ ؟
والثّانِي: أنَّ بِتَقْدِيرِ أنْ يَصِحَّ القَوْلُ بِهِ، فَهَلْ يُمْكِنُ جَعْلُهُ تَفْسِيرًا لِألْفاظِ هَذِهِ الآيَةِ ؟
أمّا المَقامُ الأوَّلُ: فالمُنْكِرُونَ لَهُ قَدْ تَمَسَّكُوا بِالدَّلائِلِ العَقْلِيَّةِ الَّتِي ذَكَرْناها وقَرَّرْناها، ويُمْكِنُ الجَوابُ عَنْ كُلِّ واحِدٍ مِنها بِوَجْهٍ مُقْنِعٍ.
أمّا الوَجْهُ الأوَّلُ مِنَ الوُجُوهِ العَقْلِيَّةِ المَذْكُورَةِ: وهو أنَّهُ لَوْ صَحَّ القَوْلُ بِأخْذِ هَذا المِيثاقِ لَوَجَبَ أنْ نَتَذَكَّرَهُ الآنَ.
قُلْنا: خالِقُ العِلْمِ بِحُصُولِ الأحْوالِ الماضِيَةِ هو اللَّهُ تَعالى؛ لِأنَّ هَذِهِ العُلُومَ عَقْلِيَّةٌ ضَرُورِيَّةٌ. والعُلُومُ الضَّرُورِيَّةُ خالِقُها هو اللَّهُ تَعالى، وإذا كانَ كَذَلِكَ صَحَّ مِنهُ تَعالى أنْ يَخْلُقَها.
فَإنْ قالُوا: فَإذا جَوَّزْتُمْ هَذا، فَجَوِّزُوا أنْ يُقالَ: إنّا قَبْلَ هَذا البَدَنِ كُنّا في أبْدانٍ أُخْرى عَلى سَبِيلِ التَّناسُخِ، وإنْ كُنّا لا نَتَذَكَّرُ الآنَ أحْوالَ تِلْكَ الأبْدانِ !
قُلْنا: الفَرْقُ بَيْنَ الأمْرَيْنِ ظاهِرٌ، وذَلِكَ لِأنّا إذا كُنّا في أبْدانٍ أُخْرى، وبَقِينا فِيها سِنِينَ ودُهُورًا، امْتَنَعَ في مَجْرى العادَةِ نِسْيانُها، أمّا أخْذُ هَذا المِيثاقِ إنَّما حَصَلَ في أسْرَعِ زَمانٍ، وأقَلِّ وقْتٍ، فَلَمْ يَبْعُدْ حُصُولُ النِّسْيانِ فِيهِ، والفَرْقُ الظّاهِرُ حاكِمٌ بِصِحَّةِ هَذا الفَرْقِ؛ لِأنَّ الإنْسانَ إذا بَقِيَ عَلى العَمَلِ الواحِدِ سِنِينَ كَثِيرَةً يَمْتَنِعُ أنْ يَنْساهُ، أمّا إذا مارَسَ العَمَلَ الواحِدَ لَحْظَةً واحِدَةً فَقَدْ يَنْساهُ، فَقَدْ ظَهَرَ الفَرْقُ.
وأمّا الوَجْهُ الثّانِي: وهو أنْ يُقالَ: مَجْمُوعُ تِلْكَ الذَّرّاتِ يَمْتَنِعُ حُصُولُها بِأسْرِها في ظَهْرِ آدَمَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - . قُلْنا: عِنْدَنا البِنْيَةُ لَيْسَتْ شَرْطًا لِحُصُولِ الحَياةِ، والجَوْهَرُ الفَرْدُ الَّذِي لا يَتَجَزَّأُ قابِلٌ لِلْحَياةِ والعَقْلِ، فَإذا جَعَلْنا كُلَّ واحِدٍ مِن تِلْكَ الذَّرّاتِ جَوْهَرًا فَرْدًا، فَلِمَ قُلْتُمْ إنَّ ظَهْرَ آدَمَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - لا يَتَّسِعُ لِمَجْمُوعِها ؟ إلّا أنَّ هَذا الجَوابَ لا يَتِمُّ إلّا إذا قُلْنا: الإنْسانُ جَوْهَرٌ فَرْدٌ، وجُزْءٌ لا يَتَجَزَّأُ في البَدَنِ. عَلى ما هو مَذْهَبُ بَعْضِ القُدَماءِ، وأمّا إذا قُلْنا: الإنْسانُ هو النَّفْسُ النّاطِقَةُ، وإنَّهُ جَوْهَرٌ غَيْرُ مُتَحَيِّزٍ، ولا حالَ في المُتَحَيِّزِ، فالسُّؤالُ زائِلٌ.
(p-٤٣)وأمّا الوَجْهُ الثّالِثُ: وهو قَوْلُهُ: فائِدَةُ أخْذِ المِيثاقِ هي أنْ تَكُونَ حُجَّةً في ذَلِكَ الوَقْتِ أوْ في الحَياةِ الدُّنْيا.
فَجَوابُنا أنْ نَقُولَ: يَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ ويَحْكُمُ ما يُرِيدُ، وأيْضًا ألَيْسَ أنَّ مِنَ المُعْتَزِلَةِ إذا أرادُوا تَصْحِيحَ القَوْلِ بِوَزْنِ الأعْمالِ، وإنْطاقِ الجَوارِحِ قالُوا: لا يَبْعُدُ أنْ يَكُونَ لِبَعْضِ المُكَلَّفِينَ في إسْماعِ هَذِهِ الأشْياءِ لُطْفٌ ؟ فَكَذا هَهُنا لا يَبْعُدُ أنْ يَكُونَ لِبَعْضِ المَلائِكَةِ في تَمْيِيزِ السُّعَداءِ مِنَ الأشْقِياءِ في وقْتِ أخْذِ المِيثاقِ لُطْفٌ. وقِيلَ أيْضًا إنَّ اللَّهَ تَعالى يُذَكِّرُهم ذَلِكَ المِيثاقَ يَوْمَ القِيامَةِ، وبَقِيَّةُ الوُجُوهِ ضَعِيفَةٌ والكَلامُ عَلَيْها سَهْلٌ هَيِّنٌ.
وأمّا المَقامُ الثّانِي: وهو أنَّ بِتَقْدِيرِ أنْ يَصِحَّ القَوْلُ بِأخْذِ المِيثاقِ مِنَ الذَّرِّ. فَهَلْ يُمْكِنُ جَعْلُهُ تَفْسِيرًا لِألْفاظِ هَذِهِ الآيَةِ ؟ فَنَقُولُ: الوُجُوهُ الثَّلاثَةُ المَذْكُورَةُ أوَّلًا دافِعَةٌ لِذَلِكَ لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿أخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ﴾ فَقَدْ بَيَّنّا أنَّ المُرادَ مِنهُ، وإذْ أخَذَ رَبُّكَ مِن ظُهُورِ بَنِي آدَمَ، وأيْضًا لَوْ كانَتْ هَذِهِ الذُّرِّيَّةُ مَأْخُوذَةً مَن ظَهْرِ آدَمَ لَقالَ: مِن ظَهْرِهِ ذُرِّيَّتَهُ ولَمْ يَقُلْ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهم. أجابَ النّاصِرُونَ لِذَلِكَ القَوْلِ: بِأنَّهُ صَحَّتِ الرِّوايَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أنَّهُ فَسَّرَ هَذِهِ الآيَةَ بِهَذا الوَجْهِ، والطَّعْنُ في تَفْسِيرِ رَسُولِ اللَّهِ غَيْرُ مُمْكِنٍ. فَنَقُولُ: ظاهِرُ الآيَةِ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ تَعالى أخْرَجَ الذَّرَّ مِن ظُهُورِ بَنِي آدَمَ فَيُحْمَلُ ذَلِكَ عَلى أنَّهُ تَعالى يَعْلَمُ أنَّ الشَّخْصَ الفُلانِيَّ يَتَوَلَّدُ مِنهُ فُلانٌ، وذَلِكَ الفُلانُ فُلانٌ آخَرُ، فَعَلى التَّرْتِيبِ الَّذِي عُلِمَ دُخُولُهم في الوُجُودِ يُخْرِجُهم ويُمَيِّزُ بَعْضَهم مِن بَعْضٍ، وأمّا أنَّهُ تَعالى يُخْرِجُ كُلَّ تِلْكَ الذُّرِّيَّةِ مِن صُلْبِ آدَمَ، فَلَيْسَ في لَفْظِ الآيَةِ ما يَدُلُّ عَلى ثُبُوتِهِ، ولَيْسَ في الآيَةِ أيْضًا ما يَدُلُّ عَلى بُطْلانِهِ، إلّا أنَّ الخَبَرَ قَدْ دَلَّ عَلَيْهِ، فَثَبَتَ إخْراجُ الذُّرِّيَّةِ مِن ظُهُورِ بَنِي آدَمَ بِالقُرْآنِ، وثَبَتَ إخْراجُ الذُّرِّيَّةِ مِن ظَهْرِ آدَمَ بِالخَبَرِ، وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ: فَلا مُنافاةَ بَيْنَ الأمْرَيْنِ ولا مُدافَعَةَ، فَوَجَبَ المَصِيرُ إلَيْهِما مَعًا صَوْنًا لِلْآيَةِ، والخَبَرُ عَنِ الطَّعْنِ بِقَدْرِ الإمْكانِ، فَهَذا مُنْتَهى الكَلامِ في تَقْرِيرِ هَذا المَقامِ.
* * *
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قَرَأ نافِعٌ وابْنُ عامِرٍ وأبُو عُمَرَ ”ذُرِّيّاتِهِمْ“ بِالألْفِ عَلى الجَمْعِ، والباقُونَ(ذُرِّيَّتَهم) عَلى الواحِدِ. قالَ الواحِدِيُّ: الذُّرِّيَّةُ تَقَعُ عَلى الواحِدِ والجَمْعِ، فَمَن أفْرَدَ فَإنَّهُ قَدِ اسْتَغْنى عَنْ جَمْعِهِ وبِوُقُوعِهِ عَلى الجَمْعِ فَصارَ كالبَشَرِ فَإنَّهُ يَقَعُ عَلى الواحِدِ كَقَوْلِهِ: ﴿ما هَذا بَشَرًا﴾ [يُوسُفَ: ٣١] وعَلى الجَمْعِ كَقَوْلِهِ: ﴿أبَشَرٌ يَهْدُونَنا﴾ [التغابن: ٦] وقَوْلُهُ: ﴿إنْ أنْتُمْ إلّا بَشَرٌ مِثْلُنا﴾ [إبْراهِيمَ: ١٠] وكَما لَمْ يُجْمَعْ بَشَرٌ بِتَصْحِيحٍ ولا تَكْسِيرٍ كَذَلِكَ لا يُجْمَعُ الذُّرِّيَّةُ، ومَن جَمَعَ قالَ: إنَّ الذُّرِّيَّةَ وإنْ كانَ واحِدًا فَلا إشْكالَ في جَوازِ الجَمْعِ فِيهِ، وإنْ كانَ جَمْعًا فَجَمْعُهُ أيْضًا حَسُنٌ؛ لِأنَّكَ قَدْ رَأيْتَ الجُمُوعَ المُكَسَّرَةَ قَدْ جُمِعَتْ، نَحْوَ الطُّرُقاتِ والجَدَراتِ، وهو اخْتِيارُ يُونُسَ، أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وأشْهَدَهم عَلى أنْفُسِهِمْ ألَسْتُ بِرَبِّكم قالُوا بَلى﴾ فَنَقُولُ: أمّا عَلى قَوْلِ مَن أثْبَتَ المِيثاقَ الأوَّلَ فَكُلُّ هَذِهِ الأشْياءِ مَحْمُولَةٌ عَلى ظَواهِرِها، وأمّا عَلى قَوْلِ مَن أنْكَرَهُ قالَ: إنَّها مَحْمُولَةٌ عَلى التَّمْثِيلِ، والمَعْنى: أنَّهُ تَعالى نَصَبَ لَهُمُ الأدِلَّةَ عَلى رُبُوبِيَّتِهِ، وشَهِدَتْ بِها عُقُولُهم، فَصارَ ذَلِكَ جارِيًا مَجْرى ما إذا أشْهَدَهم عَلى أنْفُسِنا وإقْرارِنا بِوَحْدانِيَّتِهِ، أمّا قَوْلُهُ:(شَهِدْنا) فَفِيهِ قَوْلانِ:
القَوْلُ الأوَّلُ: أنَّهُ مِن كَلامِ المَلائِكَةِ، وذَلِكَ لِأنَّهم لَمّا قالُوا:(بَلى) قالَ اللَّهُ لِلْمَلائِكَةِ اشْهَدُوا، فَقالُوا شَهِدْنا، وعَلى هَذا القَوْلِ يَحْسُنُ الوَقْفُ عَلى قَوْلِهِ: ﴿قالُوا بَلى﴾ لِأنَّ كَلامَ الذُّرِّيَّةِ قَدِ انْقَطَعَ هَهُنا. وقَوْلُهُ: ﴿أنْ تَقُولُوا يَوْمَ القِيامَةِ إنّا كُنّا عَنْ هَذا غافِلِينَ﴾ تَقْرِيرُهُ: أنَّ المَلائِكَةَ قالُوا شَهِدْنا عَلَيْهِمْ بِالإقْرارِ، لِئَلّا يَقُولُوا ما (p-٤٤)أقْرَرْنا، فَأسْقَطَ كَلِمَةَ ”لا“ كَما قالَ: ﴿وألْقى في الأرْضِ رَواسِيَ أنْ تَمِيدَ بِكُمْ﴾ [النحل: ١٥] يُرِيدُ لِئَلّا تَمِيدَ بِكم، هَذا قَوْلُ الكُوفِيِّينَ، وعِنْدَ البَصْرِيِّينَ تَقْدِيرُهُ: شَهِدْنا كَراهَةَ أنْ يَقُولُوا.
والقَوْلُ الثّانِي: أنَّ قَوْلَهُ:(شَهِدْنا) مِن بَقِيَّةِ كَلامِ الذُّرِّيَّةِ، وعَلى هَذا التَّقْرِيرِ، فَقَوْلُهُ: ﴿أنْ تَقُولُوا يَوْمَ القِيامَةِ إنّا كُنّا عَنْ هَذا غافِلِينَ﴾ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: ﴿وأشْهَدَهم عَلى أنْفُسِهِمْ﴾ والتَّقْدِيرُ: وأشْهَدَهم عَلى أنْفُسِهِمْ بِكَذا وكَذا، لِئَلّا يَقُولُوا يَوْمَ القِيامَةِ: ﴿إنّا كُنّا عَنْ هَذا غافِلِينَ﴾ أوْ كَراهِيَةَ أنْ يَقُولُوا ذَلِكَ، وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ فَلا يَجُوزُ الوَقْفُ عِنْدَ قَوْلِهِ:(شَهِدْنا)؛ لِأنَّ قَوْلَهُ:(أنْ يَقُولُوا) مُتَعَلِّقٌ بِما قَبْلَهُ، وهو قَوْلُهُ:(وأشْهَدَهم) فَلَمْ يَجُزْ قَطْعُهُ مِنهُ. واخْتَلَفَ القُرّاءُ في قَوْلِهِ:(أنْ يَقُولُوا) أوْ تَقُولُوا: فَقَرَأ أبُو عَمْرٍو بِالياءِ جَمِيعًا؛ لِأنَّ الَّذِي تَقَدَّمَ مِنَ الكَلامِ عَلى الغَيْبَةِ، وهو قَوْلُهُ: ﴿مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ﴾،﴿وأشْهَدَهم عَلى أنْفُسِهِمْ﴾ لِئَلّا يَقُولُوا، وقَرَأ الباقُونَ بِالتّاءِ؛ لِأنَّهُ قَدْ جَرى في الكَلامِ خِطابٌ وهو قَوْلُهُ: ﴿ألَسْتُ بِرَبِّكم قالُوا بَلى شَهِدْنا﴾ وكِلا الوَجْهَيْنِ حَسَنٌ، لِأنَّ الغائِبِينَ هُمُ المُخاطَبُونَ في المَعْنى.
أمّا قَوْلُهُ: ﴿أوْ تَقُولُوا إنَّما أشْرَكَ آباؤُنا مِن قَبْلُ﴾ قالَ المُفَسِّرُونَ: المَعْنى أنَّ المَقْصُودَ مِن هَذا الإشْهادِ: أنْ لا يَقُولَ الكُفّارُ إنَّما أشْرَكْنا؛ لِأنَّ آباءَنا أشْرَكُوا، فَقَلَّدْناهم في ذَلِكَ الشِّرْكِ، وهو المُرادُ مِن قَوْلِهِ: ﴿أفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ المُبْطِلُونَ﴾ والحاصِلُ: أنَّهُ تَعالى لَمّا أخَذَ عَلَيْهِمُ المِيثاقَ امْتَنَعَ عَلَيْهِمُ التَّمَسُّكُ بِهَذا القَدْرِ. وأمّا الَّذِينَ حَمَلُوا الآيَةَ عَلى أنَّ المُرادَ مِنهُ مُجَرَّدُ نَصْبِ الدَّلائِلِ. قالُوا: مَعْنى الآيَةِ أنّا نَصَبْنا هَذِهِ الدَّلائِلَ، وأظْهَرْناها لِلْعُقُولِ كَراهَةَ أنْ يَقُولُوا يَوْمَ القِيامَةِ: ﴿إنّا كُنّا عَنْ هَذا غافِلِينَ﴾ فَما نَبَّهَنا عَلَيْهِ مُنَبِّهٌ، أوْ كَراهَةَ أنْ يَقُولُوا إنَّما أشْرَكْنا عَلى سَبِيلِ التَّقْلِيدِ لِأسْلافِنا، لِأنَّ نَصْبَ الأدِلَّةِ عَلى التَّوْحِيدِ قائِمٌ مَعَهم، فَلا عُذْرَ لَهم في الإعْراضِ عَنْهُ، والإقْبالِ عَلى التَّقْلِيدِ والِاقْتِداءِ بِالآباءِ.
ثُمَّ قالَ: ﴿وكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ﴾ والمَعْنى: أنَّ مِثْلَ ما فَصَّلْنا وبَيَّنّا في هَذِهِ الآيَةِ، بَيَّنّا سائِرَ الآياتِ لِيَتَدَبَّرُوها فَيَرْجِعُوا إلى الحَقِّ، ويُعْرِضُوا عَنِ الباطِلِ، وهو المُرادُ مِن قَوْلِهِ: ﴿ولَعَلَّهم يَرْجِعُونَ﴾ وقِيلَ: أيْ ما أخَذَ عَلَيْهِمْ مِنَ المِيثاقِ في التَّوْحِيدِ، وفي الآيَةِ قَوْلٌ ثالِثٌ؛ وهو أنَّ الأرْواحَ البَشَرِيَّةَ مَوْجُودَةٌ قَبْلَ الأبْدانِ، والإقْرارَ بِوُجُودِ الإلَهِ مِن لَوازِمِ ذَواتِها وحَقائِقِها، وهَذا العِلْمُ لَيْسَ يَحْتاجُ في تَحْصِيلِهِ إلى كَسْبٍ وطَلَبٍ، وهَذا البَحْثُ إنَّما يَنْكَشِفُ تَمامَ الِانْكِشافِ بِأبْحاثٍ عَقْلِيَّةٍ غامِضَةٍ، لا يُمْكِنُ ذِكْرُها في هَذا الكِتابِ. واللَّهُ أعْلَمُ.
{"ayahs_start":172,"ayahs":["وَإِذۡ أَخَذَ رَبُّكَ مِنۢ بَنِیۤ ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمۡ ذُرِّیَّتَهُمۡ وَأَشۡهَدَهُمۡ عَلَىٰۤ أَنفُسِهِمۡ أَلَسۡتُ بِرَبِّكُمۡۖ قَالُوا۟ بَلَىٰ شَهِدۡنَاۤۚ أَن تَقُولُوا۟ یَوۡمَ ٱلۡقِیَـٰمَةِ إِنَّا كُنَّا عَنۡ هَـٰذَا غَـٰفِلِینَ","أَوۡ تَقُولُوۤا۟ إِنَّمَاۤ أَشۡرَكَ ءَابَاۤؤُنَا مِن قَبۡلُ وَكُنَّا ذُرِّیَّةࣰ مِّنۢ بَعۡدِهِمۡۖ أَفَتُهۡلِكُنَا بِمَا فَعَلَ ٱلۡمُبۡطِلُونَ","وَكَذَ ٰلِكَ نُفَصِّلُ ٱلۡـَٔایَـٰتِ وَلَعَلَّهُمۡ یَرۡجِعُونَ"],"ayah":"وَكَذَ ٰلِكَ نُفَصِّلُ ٱلۡـَٔایَـٰتِ وَلَعَلَّهُمۡ یَرۡجِعُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق