الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ ورِثُوا الكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذا الأدْنى ويَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وإنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ ألَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الكِتابِ أنْ لا يَقُولُوا عَلى اللَّهِ إلّا الحَقَّ ودَرَسُوا ما فِيهِ والدّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أفَلا تَعْقِلُونَ﴾ ﴿والَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالكِتابِ وأقامُوا الصَّلاةَ إنّا لا نُضِيعُ أجْرَ المُصْلِحِينَ﴾
اعْلَمْ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ﴾ ظاهِرُهُ أنَّ الأوَّلَ مَمْدُوحٌ، والثّانِي مَذْمُومٌ، وإذا كانَ كَذَلِكَ، فَيَجِبُ أنْ يَكُونَ المُرادُ: فَخَلَفَ مِن بَعْدِ الصّالِحِينَ مِنهُمُ الَّذِينَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهم خَلْفٌ. قالَ الزَّجّاجُ: الخَلْفُ ما أخْلَفَ عَلَيْكَ مِمّا أُخِذَ مِنكَ، فَلِهَذا السَّبَبِ يُقالُ لِلْقَرْنِ الَّذِي يَجِيءُ في إثْرِ قَرْنٍ خَلْفٌ، ويُقالُ فِيهِ أيْضًا خَلَفٌ، وقالَ أحْمَدُ بْنُ يَحْيى: النّاسُ كُلُّهم يَقُولُونَ: خَلْفُ صِدْقٍ وخَلْفُ سُوءٍ، وخَلْفٌ لِلسُّوءِ لا غَيْرُ. وحاصِلُ (p-٣٧)الكَلامِ: أنَّ مِن أهْلِ العَرَبِيَّةِ مَن قالَ: الخَلْفُ والخَلَفُ قَدْ يُذْكَرُ في الصّالِحِ وفي الرَّدِيءِ، ومِنهم مَن يَقُولُ: الخَلْفُ مَخْصُوصٌ بِالذَّمِّ؛ قالَ لَبِيَدٌ.
؎وبَقِيتُ في خَلْفٍ كَجِلْدِ الأجْرَبِ
ومِنهم مَن يَقُولُ: الخَلْفُ المُسْتَعْمَلُ في الذَّمِّ مَأْخُوذٌ مِنَ الخُلْفِ، وهو الفَسادُ، يُقالُ: لِلرَّدِيءِ مِنَ القَوْلِ خُلْفٌ، ومِنهُ المَثَلُ المَشْهُورُ سَكَتَ ألْفًا ونَطَقَ خَلْفًا، وخَلَفَ الشَّيْءُ يَخْلَفُ خُلُوفًا وخَلَفًا إذا فَسَدَ، وكَذَلِكَ الفَمُ إذا تَغَيَّرَتْ رائِحَتُهُ. وقَوْلُهُ: ﴿يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذا الأدْنى﴾ قالَ أبُو عُبَيْدَةَ: جَمِيعُ مَتاعِ الدُّنْيا عَرَضٌ بِفَتْحِ الرّاءِ، يُقالُ الدُّنْيا عَرَضٌ حاضِرٌ يَأْكُلُ مِنها البَرُّ والفاجِرُ، وأمّا العَرْضُ بِسُكُونِ الرّاءِ فَما خالَفَ العَيْنَ، أعْنِي الدَّراهِمَ والدَّنانِيرَ، وجَمْعُهُ عُرُوضٌ، فَكانَ كُلُّ عَرْضٍ عَرَضًا، ولَيْسَ كُلُّ عَرَضٍ عَرْضًا، والمُرادُ بِقَوْلِهِ: ﴿عَرَضَ هَذا الأدْنى﴾ أيْ حُطامَ هَذا الشَّيْءِ الأدْنى يُرِيدُ الدُّنْيا وما يَتَمَتَّعُ بِهِ مِنها، وفي قَوْلِهِ: ﴿هَذا الأدْنى﴾ تَخْسِيسٌ وتَحْقِيرٌ، و(الأدْنى) إمّا مِنَ الدُّنُوِّ بِمَعْنى القُرْبِ لِأنَّهُ عاجِلٌ قَرِيبٌ، وإمّا مِن دُنُوِّ الحالِ وسُقُوطِها وقِلَّتِها. والمُرادُ ما كانُوا يَأْخُذُونَهُ مِنَ الرِّشا في الأحْكامِ عَلى تَحْرِيفِ الكَلامِ. ثُمَّ حَكى تَعالى عَنْهم أنَّهم يَسْتَحْقِرُونَ ذَلِكَ الذَّنْبَ ويَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا.
ثُمَّ قالَ: ﴿وإنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ﴾ والمُرادُ الإخْبارُ عَنْ إصْرارِهِمْ عَلى الذُّنُوبِ. وقالَ الحَسَنُ هَذا إخْبارٌ عَنْ حِرْصِهِمْ عَلى الدُّنْيا وأنَّهم لا يَسْتَمْتِعُونَ مِنها. ثُمَّ بَيَّنَ تَعالى قُبْحَ فِعْلِهِمْ فَقالَ: ﴿ألَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الكِتابِ﴾ أيِ التَّوْراةِ،﴿أنْ لا يَقُولُوا عَلى اللَّهِ إلّا الحَقَّ﴾ قِيلَ المُرادُ مَنعُهم عَنْ تَحْرِيفِ الكِتابِ وتَغْيِيرِ الشَّرائِعِ لِأجْلِ أخْذِ الرِّشْوَةِ، وقِيلَ: المُرادُ أنَّهم قالُوا سَيُغْفَرُ لَنا هَذا الذَّنْبُ مَعَ الإصْرارِ، وذَلِكَ قَوْلٌ باطِلٌ.
فَإنْ قِيلَ: فَهَذا القَوْلُ يَدُلُّ عَلى أنَّ حُكْمَ التَّوْراةِ هو أنَّ صاحِبَ الكَبِيرَةِ لا يُغْفَرُ لَهُ.
قُلْنا: إنَّهم كانُوا يَقْطَعُونَ بِأنَّ هَذِهِ الكَبِيرَةَ مَغْفُورَةٌ، ونَحْنُ لا نَقْطَعُ بِالغُفْرانِ بَلْ نَرْجُو الغُفْرانَ، ونَقُولُ: إنَّ بِتَقْدِيرِ أنْ يُعَذِّبَ اللَّهُ عَلَيْها فَذَلِكَ العَذابُ مُنْقَطِعٌ غَيْرُ دائِمٍ.
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ودَرَسُوا ما فِيهِ﴾ أيْ فَهم ذاكِرُونَ لِما أُخِذَ عَلَيْهِمْ؛ لِأنَّهم قَدْ قَرَءُوهُ ودَرَسُوهُ.
ثُمَّ قالَ: ﴿والدّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ﴾ مِن تِلْكَ الرِّشْوَةِ الخَبِيثَةِ المُحَقَّرَةِ ﴿أفَلا يَعْقِلُونَ﴾ .
أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿والَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالكِتابِ﴾ يُقالُ مَسَكْتُ بِالشَّيْءِ وتَمَسَّكْتُ بِهِ واسْتَمْسَكْتُ بِهِ وامْتَسَكْتُ بِهِ، وقَرَأ أبُو بَكْرٍ عَنْ عاصِمٍ ”يُمْسِكُونَ“ مُخَفَّفَةً، والباقُونَ بِالتَّشْدِيدِ. أمّا حُجَّةُ عاصِمٍ فَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَإمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ﴾ [البقرة: ٢٢٩] وقَوْلُهُ: ﴿أمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ﴾ [الأحزاب: ٣٧] وقَوْلُهُ: ﴿فَكُلُوا مِمّا أمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ﴾ [المائدة: ٤] قالَ الواحِدِيُّ: والتَّشْدِيدُ أقْوى، لِأنَّ التَّشْدِيدَ لِلْكَثْرَةِ وهَهُنا أُرِيدَ بِهِ الكَثْرَةُ، ولِأنَّهُ يُقالُ: أمْسَكْتُهُ، وقَلَّما يُقالُ أمْسَكْتُ بِهِ.
إذا عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ: في قَوْلِهِ: ﴿والَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالكِتابِ﴾ قَوْلانِ:
القَوْلُ الأوَّلُ: أنْ يَكُونَ مَرْفُوعًا بِالِابْتِداءِ وخَبَرُهُ﴿إنّا لا نُضِيعُ أجْرَ المُصْلِحِينَ﴾ والمَعْنى: إنّا لا نُضِيعُ أجْرَهم وهو كَقَوْلِهِ: ﴿إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ إنّا لا نُضِيعُ أجْرَ مَن أحْسَنَ عَمَلًا﴾ [الكهف: ٣٠] وهَذا الوَجْهُ حَسَنٌ؛ لِأنَّهُ لَمّا ذَكَرَ وعِيدَ مَن تَرَكَ التَّمَسُّكَ بِالكِتابِ أرْدَفَهُ بِوَعْدِ مَن تَمَسَّكَ بِهِ.
(p-٣٨)والقَوْلُ الثّانِي: أنْ يَكُونَ مَجْرُورًا عَطْفًا عَلى قَوْلِهِ: ﴿الَّذِينَ يَتَّقُونَ﴾ ويَكُونُ قَوْلُهُ: ﴿إنّا لا نُضِيعُ﴾ زِيادَةً مَذْكُورَةً لِتَأْكِيدِ ما قَبْلَهُ.
فَإنْ قِيلَ: التَّمَسُّكُ بِالكِتابِ يَشْتَمِلُ عَلى كُلِّ عِبادَةٍ، ومِنها إقامَةُ الصَّلاةِ فَكَيْفَ أفُرِدَتْ بِالذِّكْرِ ؟
قُلْنا: إظْهارًا لِعُلُوِّ مَرْتَبَةِ الصَّلاةِ، وأنَّها أعْظَمُ العِباداتِ بَعْدَ الإيمانِ.
{"ayahs_start":169,"ayahs":["فَخَلَفَ مِنۢ بَعۡدِهِمۡ خَلۡفࣱ وَرِثُوا۟ ٱلۡكِتَـٰبَ یَأۡخُذُونَ عَرَضَ هَـٰذَا ٱلۡأَدۡنَىٰ وَیَقُولُونَ سَیُغۡفَرُ لَنَا وَإِن یَأۡتِهِمۡ عَرَضࣱ مِّثۡلُهُۥ یَأۡخُذُوهُۚ أَلَمۡ یُؤۡخَذۡ عَلَیۡهِم مِّیثَـٰقُ ٱلۡكِتَـٰبِ أَن لَّا یَقُولُوا۟ عَلَى ٱللَّهِ إِلَّا ٱلۡحَقَّ وَدَرَسُوا۟ مَا فِیهِۗ وَٱلدَّارُ ٱلۡـَٔاخِرَةُ خَیۡرࣱ لِّلَّذِینَ یَتَّقُونَۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ","وَٱلَّذِینَ یُمَسِّكُونَ بِٱلۡكِتَـٰبِ وَأَقَامُوا۟ ٱلصَّلَوٰةَ إِنَّا لَا نُضِیعُ أَجۡرَ ٱلۡمُصۡلِحِینَ"],"ayah":"وَٱلَّذِینَ یُمَسِّكُونَ بِٱلۡكِتَـٰبِ وَأَقَامُوا۟ ٱلصَّلَوٰةَ إِنَّا لَا نُضِیعُ أَجۡرَ ٱلۡمُصۡلِحِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق