الباحث القرآني
اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا شَرَحَ هَهُنا بَعْضَ مَصالِحِ أعْمالِ اليَهُودِ وقَبائِحِ أفْعالِهِمْ ذَكَرَ في هَذِهِ الآيَةِ أنَّهُ تَعالى حَكَمَ عَلَيْهِمْ بِالذُّلِّ والصَّغارِ إلى يَوْمِ القِيامَةِ، قالَ سِيبَوَيْهِ: أذَّنَ أعْلَمَ. وأذَّنَ نادى وصاحَ لِلْإعْلامِ، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَأذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ﴾ [الأعراف: ٤٤] وقَوْلُهُ:(تَأذَّنَ) بِمَعْنى أذَّنَ أيْ أعْلَمَ. ولَفْظَةُ تَفَعَّلَ، هَهُنا لَيْسَ مَعْناهُ أنَّهُ أظْهَرَ شَيْئًا لَيْسَ فِيهِ، بَلْ مَعْناهُ فَعَلَ، فَقَوْلُهُ:(تَأذَّنَ) بِمَعْنى أذِنَ كَما في قَوْلِهِ: ﴿سُبْحانَهُ وتَعالى عَمّا يُشْرِكُونَ﴾ [يونس: ١٨] مَعْناهُ عَلا وارْتَفَعَ لا بِمَعْنى أنَّهُ أظْهَرَ مِن نَفْسِهِ العُلُوَّ، وإنْ لَمْ يَحْصُلْ ذَلِكَ فِيهِ. وأمّا قَوْلُهُ: ﴿لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ﴾ فَفِيهِ بَحْثانِ:
البَحْثُ الأوَّلُ: أنَّ اللّامَ في قَوْلِهِ:(لَيَبْعَثَنَّ) جَوابُ القَسَمِ؛ لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿وإذْ تَأذَّنَ﴾ جارٍ مَجْرى القَسَمِ في كَوْنِهِ جازِمًا بِذَلِكَ الخَبَرِ.
البَحْثُ الثّانِي: الضَّمِيرُ في قَوْلِهِ:(عَلَيْهِمْ) يَقْتَضِي أنْ يَكُونَ راجِعًا إلى قَوْلِهِ: ﴿فَلَمّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهم كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ﴾ (p-٣٥)لَكِنَّهُ قَدْ عُلِمَ أنَّ الَّذِينَ مُسِخُوا لَمْ يَسْتَمِرَّ عَلَيْهِمُ التَّكْلِيفُ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَقالَ بَعْضُهم: المُرادُ نَسْلُهم والَّذِينَ بَقُوا مِنهم. وقالَ آخَرُونَ: بَلِ المُرادُ سائِرُ اليَهُودِ فَإنَّ أهْلَ القَرْيَةِ كانُوا بَيْنَ صالِحٍ وبَيْنَ مُتَعَدٍّ، فَمُسِخَ المُتَعَدِّي وأُلْحِقَ الذُّلُّ بِالبَقِيَّةِ، وقالَ الأكْثَرُونَ: هَذِهِ الآيَةُ في اليَهُودِ الَّذِينَ أدْرَكَهُمُ الرَّسُولُ ﷺ ودَعاهم إلى شَرِيعَتِهِ، وهَذا أقْرَبُ؛ لِأنَّ المَقْصُودَ مِن هَذِهِ الآيَةِ تَخْوِيفُ اليَهُودِ الَّذِينَ كانُوا في زَمانِ الرَّسُولِ ﷺ وزَجْرُهم عَنِ البَقاءِ عَلى اليَهُودِيَّةِ؛ لِأنَّهم إذا عَلِمُوا بَقاءَ الذُّلِّ عَلَيْهِمْ إلى يَوْمِ القِيامَةِ انْزَجَرُوا.
البَحْثُ الثّالِثُ: لا شُبْهَةَ في أنَّ المُرادَ اليَهُودُ الَّذِينَ ثَبَتُوا عَلى الكُفْرِ واليَهُودِيَّةِ، فَأمّا الَّذِينَ آمَنُوا بِمُحَمَّدٍ ﷺ فَخارِجُونَ عَنْ هَذا الحُكْمِ.
أمّا قَوْلُهُ: ﴿إلى يَوْمِ القِيامَةِ﴾ فَهَذا تَنْصِيصٌ عَلى أنَّ ذَلِكَ العَذابَ مَمْدُودٌ إلى يَوْمِ القِيامَةِ، وذَلِكَ يَقْتَضِي أنَّ ذَلِكَ العَذابَ إنَّما يَحْصُلُ في الدُّنْيا، وعِنْدَ ذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِيهِ فَقالَ بَعْضُهم: هو أخْذُ الجِزْيَةِ. وقِيلَ: الِاسْتِخْفافُ والإهانَةُ والإذْلالُ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أيْنَ ما ثُقِفُوا﴾ [آلِ عِمْرانَ: ١١٢ ] وقِيلَ: القَتْلُ والقِتالُ. وقِيلَ: الإخْراجُ والإبْعادُ مِنَ الوَطَنِ، وهَذا القائِلُ جَعَلَ هَذِهِ الآيَةَ في أهْلِ خَيْبَرَ وبَنِي قُرَيْظَةَ والنَّضِيرِ، وهَذِهِ الآيَةُ نَزَلَتْ في اليَهُودِ عَلى أنَّهُ لا دَوْلَةَ لَهم ولا عِزَّ، وأنَّ الذُّلَّ يَلْزَمُهم، والصَّغارُ لا يُفارِقُهم. ولَمّا أخْبَرَ اللَّهُ تَعالى في زَمانِ مُحَمَّدٍ عَنْ هَذِهِ الواقِعَةِ، ثُمَّ شاهَدْنا بِأنَّ الأمْرَ كَذَلِكَ كانَ هَذا إخْبارًا صِدْقًا عَنِ الغَيْبِ، فَكانَ مُعْجِزًا، والخَبَرُ المَرْوِيُّ في أنَّ أتْباعَ الدَّجّالِ هُمُ اليَهُودُ إنْ صَحَّ، فَمَعْناهُ أنَّهم كانُوا قَبْلَ خُرُوجِهِ يَهُودًا ثُمَّ دانُوا بِإلَهِيَّتِهِ، فَذُكِرُوا بِالِاسْمِ الأوَّلِ ولَوْلا ذَلِكَ لَكانَ في وقْتِ اتِّباعِهِمُ الدَّجّالَ قَدْ خَرَجُوا عَنِ الذِّلَّةِ والقَهْرِ، وذَلِكَ خِلافُ هَذِهِ الآيَةِ. واحْتَجَّ بَعْضُ العُلَماءِ عَلى لُزُومِ الذُّلِّ والصَّغارِ لِلْيَهُودِ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أيْنَ ما ثُقِفُوا إلّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ﴾ إلّا أنَّ دَلالَتَها لَيْسَتْ قَوِيَّةً؛ لِأنَّ الِاسْتِثْناءَ المَذْكُورَ في هَذِهِ الآيَةِ يَمْنَعُ مِنَ القَطْعِ عَلى لُزُومِ الذُّلِّ لَهم في كُلِّ الأحْوالِ. أمّا الآيَةُ الَّتِي نَحْنُ في تَفْسِيرِها لَمْ يَحْصُلْ فِيها تَقْيِيدٌ ولا اسْتِثْناءٌ، فَكانَتْ دَلالَتُها عَلى هَذا المَعْنى قَوِيَّةً جِدًّا. واخْتَلَفُوا في أنَّ الَّذِينَ يُلْحِقُونَ هَذا الذُّلَّ بِهَؤُلاءِ اليَهُودِ مَن هم، فَقالَ بَعْضُهم: الرَّسُولُ وأمَتُّهُ، وقِيلَ يَحْتَمِلُ دُخُولَ الوُلاةِ الظَّلَمَةِ مِنهم، وإنْ لَمْ يُؤْمَرُوا بِالقِيامِ بِذَلِكَ إذا أذَلُّوهم. وهَذا القائِلُ حَمَلَ قَوْلَهُ:(لَيَبْعَثَنَّ) عَلى نَحْوِ قَوْلِهِ: ﴿أنّا أرْسَلْنا الشَّياطِينَ عَلى الكافِرِينَ﴾ [مريم: ٨٣] فَإذا جازَ أنْ يَكُونَ المُرادُ بِالإرْسالِ التَّخْلِيَةَ وتَرْكَ المَنعِ، فَكَذَلِكَ البَعْثَةُ، وهَذا القائِلُ قالَ: المُرادُ بُخْتُنَصَّرُ وغَيْرُهُ إلى هَذا اليَوْمِ، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى خَتَمَ الآيَةَ بِقَوْلِهِ: ﴿إنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ العِقابِ﴾ والمُرادُ التَّحْذِيرُ مِن عِقابِهِ في الآخِرَةِ مَعَ الذِّلَّةِ في الدُّنْيا﴿وإنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ لِمَن تابَ مِنَ الكُفْرِ واليَهُودِيَّةِ، ودَخَلَ في الإيمانِ بِاللَّهِ وبِمُحَمَّدٍ ﷺ .
{"ayah":"وَإِذۡ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَیَبۡعَثَنَّ عَلَیۡهِمۡ إِلَىٰ یَوۡمِ ٱلۡقِیَـٰمَةِ مَن یَسُومُهُمۡ سُوۤءَ ٱلۡعَذَابِۗ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِیعُ ٱلۡعِقَابِ وَإِنَّهُۥ لَغَفُورࣱ رَّحِیمࣱ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











