الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قُلْ ياأيُّها النّاسُ إنِّي رَسُولُ اللَّهِ إلَيْكم جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ والأرْضِ لا إلَهَ إلّا هو يُحْيِي ويُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ ورَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وكَلِماتِهِ واتَّبِعُوهُ لَعَلَّكم تَهْتَدُونَ﴾ اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا قالَ: ﴿فَسَأكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ﴾ ثُمَّ بَيَّنَ تَعالى أنَّ مِن شَرْطِ حُصُولِ الرَّحْمَةِ لِأُولَئِكَ المُتَّقِينَ، كَوْنَهم مُتَّبِعِينَ لِلرَّسُولِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ، حَقَّقَ في هَذِهِ الآيَةِ رِسالَتَهُ إلى الخَلْقِ بِالكُلِّيَّةِ. فَقالَ: ﴿قُلْ ياأيُّها النّاسُ إنِّي رَسُولُ اللَّهِ إلَيْكم جَمِيعًا﴾ وفي هَذِهِ الكَلِمَةِ مَسْألَتانِ: المَسْألَةُ الأُولى: هَذِهِ الآيَةُ تَدُلُّ عَلى أنَّ مُحَمَّدًا - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - مَبْعُوثٌ إلى جَمِيعِ الخَلْقِ. وقالَ طائِفَةٌ مِنَ اليَهُودِ يُقالُ لَهُمُ العِيسَوِيَّةُ وهم أتْباعُ عِيسى الأصْفَهانِيِّ: إنَّ مُحَمَّدًا رَسُولٌ صادِقٌ مَبْعُوثٌ إلى العَرَبِ. وغَيْرُ مَبْعُوثٍ إلى بَنِي إسْرائِيلَ. ودَلِيلُنا عَلى إبْطالِ قَوْلِهِمْ هَذِهِ الآيَةُ؛ لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿ياأيُّها النّاسُ﴾ خِطابٌ يَتَناوَلُ كُلَّ النّاسِ. ثُمَّ قالَ: ﴿إنِّي رَسُولُ اللَّهِ إلَيْكم جَمِيعًا﴾ وهَذا يَقْتَضِي كَوْنَهُ مَبْعُوثًا إلى جَمِيعِ النّاسِ، وأيْضًا فَما يُعْلَمُ بِالتَّواتُرِ مِن دِينِهِ أنَّهُ كانَ يَدَّعِي أنَّهُ مَبْعُوثٌ إلى كُلِّ العالَمِينَ. فَإمّا أنْ يُقالَ: إنَّهُ كانَ رَسُولًا حَقًّا أوْ ما كانَ كَذَلِكَ، فَإنْ كانَ رَسُولًا حَقًّا، امْتَنَعَ الكَذِبُ عَلَيْهِ. ووَجَبَ الجَزْمُ بِكَوْنِهِ صادِقًا في كُلِّ ما يَدَّعِيهِ، فَلَمّا ثَبَتَ بِالتَّواتُرِ وبِظاهِرِ هَذِهِ الآيَةِ أنَّهُ كانَ يَدَّعِي كَوْنَهُ مَبْعُوثًا إلى جَمِيعِ الخَلْقِ، وجَبَ كَوْنُهُ صادِقًا في هَذا القَوْلِ، وذَلِكَ يُبْطِلُ قَوْلَ مَن يَقُولُ: إنَّهُ كانَ مَبْعُوثًا إلى العَرَبِ فَقَطْ، لا إلى بَنِي إسْرائِيلَ. وأمّا قَوْلُ القائِلِ: إنَّهُ ما كانَ رَسُولًا حَقًّا، فَهَذا يَقْتَضِي القَدْحَ في كَوْنِهِ رَسُولًا إلى العَرَبِ وإلى غَيْرِهِمْ، فَثَبَتَ أنَّ القَوْلَ بِأنَّهُ رَسُولٌ إلى بَعْضِ الخَلْقِ دُونَ بَعْضٍ كَلامٌ باطِلٌ مُتَناقِضٌ. إذا ثَبَتَ هَذا فَنَقُولُ: قَوْلُهُ: ﴿قُلْ ياأيُّها النّاسُ إنِّي رَسُولُ اللَّهِ إلَيْكم جَمِيعًا﴾ مِنَ النّاسِ مَن قالَ إنَّهُ عامٌّ دَخَلَهُ التَّخْصِيصُ، ومِنهم مَن أنْكَرَ ذَلِكَ، أمّا الأوَّلُونَ فَقالُوا: إنَّهُ دَخَلَهُ التَّخْصِيصُ مِن وجْهَيْنِ: الأوَّلُ: أنَّهُ رَسُولٌ إلى النّاسِ إذا كانُوا مِن جُمْلَةِ المُكَلَّفِينَ فَأمّا إذا لَمْ يَكُونُوا مِن جُمْلَةِ المُكَلَّفِينَ لَمْ يَكُنْ رَسُولًا إلَيْهِمْ، وذَلِكَ لِأنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - قالَ: («رُفِعَ القَلَمُ عَنْ ثَلاثٍ: عَنِ الصَّبِيِّ حَتّى يَبْلُغَ، وعَنِ النّائِمِ حَتّى يَسْتَيْقِظَ، وعَنِ المَجْنُونِ حَتّى يُفِيقَ» ) . الثّانِي: أنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ إلى كُلِّ مَن وصَلَ إلَيْهِ خَبَرُ وُجُودِهِ وخَبَرُ مُعْجِزاتِهِ وشَرائِعِهِ، حَتّى يُمْكِنَهُ عِنْدَ ذَلِكَ مُتابَعَتُهُ، أمّا لَوْ قَدَّرْنا حُصُولَ قَوْمٍ في طَرَفٍ مِن أطْرافِ العالَمِ لَمْ يَبْلَغْهم خَبَرُ وُجُودِهِ ولا مُعْجِزاتِهِ، فَهم لا يَكُونُونَ مُكَلَّفِينَ بِالإقْرارِ بِنُبُوَّتِهِ، ومِنَ النّاسِ مَن أنْكَرَ القَوْلَ بِدُخُولِ التَّخْصِيصِ في الآيَةِ مِن هَذَيْنِ الوَجْهَيْنِ: أمّا الأوَّلُ: فَتَقْرِيرُهُ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿ياأيُّها النّاسُ﴾ خِطابٌ، وهَذا الخِطابُ لا يَتَناوَلُ إلّا المُكَلَّفِينَ، وإذا كانَ كَذَلِكَ فالنّاسُ الَّذِينَ دَخَلُوا تَحْتَ قَوْلِهِ: ﴿ياأيُّها النّاسُ﴾ لَيْسُوا إلّا المُكَلَّفِينَ مِنَ النّاسِ، وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ فَلَمْ (p-٢٤)يَلْزَمْ أنْ يُقالَ: إنَّ قَوْلَهُ: ﴿ياأيُّها النّاسُ﴾ عامٌّ دَخَلَهُ التَّخْصِيصُ. وأمّا الثّانِي: فَلِأنَّهُ يَبْعُدُ جِدًّا أنْ يُقالَ: حَصَلَ في طَرَفٍ مِن أطْرافِ الأرْضِ قَوْمٌ لَمْ يَبْلُغْهم خَبَرُ ظُهُورِ مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ -، وخَبَرُ مُعْجِزاتِهِ وشَرائِعِهِ، وإذا كانَ ذَلِكَ كالمُسْتَبْعَدِ لَمْ يَكُنْ بِنا حاجَةٌ إلى التِزامِ هَذا التَّخْصِيصِ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: هَذِهِ الآيَةُ وإنْ دَلَّتْ عَلى أنَّ مُحَمَّدًا - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - مَبْعُوثٌ إلى كُلِّ الخَلْقِ، فَلَيْسَ فِيها دَلالَةٌ عَلى أنَّ غَيْرَهُ مِنَ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ ما كانَ مَبْعُوثًا إلى كُلِّ الخَلْقِ، بَلْ يَجِبُ الرُّجُوعُ في أنَّهُ هَلْ كانَ في غَيْرِهِ مِنَ الأنْبِياءِ مَن كانَ مَبْعُوثًا إلى كُلِّ الخَلْقِ أمْ لا ؟ إلى سائِرِ الدَّلائِلِ. فَنَقُولُ: تَمَسَّكَ جَمْعٌ مِنَ العُلَماءِ في أنَّ أحَدًا غَيْرَهُ ما كانَ مَبْعُوثًا إلى كُلِّ الخَلْقِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ -: («أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أحَدٌ قَبْلِي: أُرْسِلْتُ إلى الأحْمَرِ والأسْوَدِ، وجُعِلَتْ لِيَ الأرْضُ مَسْجِدًا وطَهُورًا، ونُصِرْتُ عَلى عَدُوِّي بِالرُّعْبِ يُرْعَبُ مِنِّي مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وأُطْعِمْتُ الغَنِيمَةَ دُونَ مَن قَبْلِي. وقِيلَ لِي سَلْ تُعْطَهُ. فاخْتَبَأْتُها شَفاعَةً لِأُمَّتِي» ) . ولِقائِلٍ أنْ يَقُولَ: هَذا الخَبَرُ لا يَتَناوَلُ دَلالَتَهُ عَلى إثْباتِ هَذا المَطْلُوبِ؛ لِأنَّهُ لا يَبْعُدُ أنْ يَكُونَ المُرادُ مَجْمُوعَ هَذِهِ الخَمْسَةِ مِن خَواصِّ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، ولَمْ يَحْصُلْ لِأحَدٍ سِواهُ، ولَمْ يَلْزَمْ مِن كَوْنِ هَذا المَجْمُوعِ مِن خَواصِّهِ كَوْنُ واحِدٍ مِن آحادِ هَذا المَجْمُوعِ مِن خَواصِّهِ، وأيْضًا قِيلَ إنَّ آدَمَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - كانَ مَبْعُوثًا إلى جَمِيعِ أوْلادِهِ، وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ فَقَدْ كانَ مَبْعُوثًا إلى جَمِيعِ النّاسِ، وإنَّ نُوحًا - عَلَيْهِ السَّلامُ - لَمّا خَرَجَ مِنَ السَّفِينَةِ، كانَ مَبْعُوثًا إلى الَّذِينَ كانُوا مَعَهُ، مَعَ أنَّ جَمِيعَ النّاسِ في ذَلِكَ الزَّمانِ ما كانَ إلّا ذَلِكَ القَوْمُ. * * * أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ والأرْضِ﴾ فاعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا أمَرَ رَسُولَهُ بِأنْ يَقُولَ لِلنّاسِ كُلِّهِمْ: إنِّي رَسُولُ اللَّهِ إلَيْكم، أرْدَفَهُ بِذِكْرِ ما يَدُلُّ عَلى صِحَّةِ هَذِهِ الدَّعْوى. واعْلَمْ أنَّ هَذِهِ الدَّعْوى لا تَتِمُّ ولا تَظْهَرُ فائِدَتُها إلّا بِتَقْرِيرِ أُصُولٍ أرْبَعَةٍ. الأصْلُ الأوَّلُ: إثْباتُ أنَّ لِلْعالَمِ إلَهًا حَيًّا عالِمًا قادِرًا. والَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ ما ذَكَرَهُ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ والأرْضِ﴾ وذَلِكَ لِأنَّ أجْسامَ السَّماواتِ والأرْضِ، تَدُلُّ عَلى افْتِقارِها إلى الصّانِعِ الحَيِّ العالِمِ القادِرِ مِن جِهاتٍ كَثِيرَةٍ مَذْكُورَةٍ في القُرْآنِ العَظِيمِ، وشَرْحُها وتَقْرِيرُها مَذْكُورٌ في هَذا التَّفْسِيرِ، وإنَّما افْتَقَرْنا في حُسْنِ التَّكْلِيفِ وبَعْثَةِ الرُّسُلِ إلى إثْباتِ هَذا الأصْلِ؛ لِأنَّ بِتَقْدِيرِ أنْ لا يَحْصُلَ لِلْعالَمِ مُؤَثِّرٌ يُؤَثِّرُ في وُجُودِهِ، أوْ إنْ حَصَلَ لَهُ مُؤَثِّرٌ، لَكِنْ كانَ ذَلِكَ المُؤَثِّرُ مُوجِبًا بِالذّاتِ لا فاعِلًا بِالِاخْتِيارِ، لَمْ يَكُنِ القَوْلُ بِبَعْثَةِ الأنْبِياءِ والرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ مُمْكِنًا. والأصْلُ الثّانِي: إثْباتُ أنَّ إلَهَ العالَمِ واحِدٌ مُنَزَّهٌ عَنِ الشَّرِيكِ والضِّدِّ والنِّدِّ، وإلَيْهِ الإشارَةُ بِقَوْلِهِ: ﴿لا إلَهَ إلّا هُوَ﴾ وإنَّما افْتَقَرْنا في حُسْنِ التَّكْلِيفِ وجَوازِ بَعْثَةِ الرُّسُلِ إلى تَقْرِيرِ هَذا الأصْلِ؛ لِأنَّ بِتَقْدِيرِ أنْ يَكُونَ لِلْعالَمِ إلَهانِ، وأرْسَلَ أحَدُ الإلَهَيْنِ نَبِيًّا إلى الخَلْقِ فَلَعَلَّ هَذا الإنْسانَ الَّذِي يَدْعُوهُ الرَّسُولُ إلى عِبادَةِ هَذا الإلَهِ ما كانَ مَخْلُوقًا لَهُ، بَلْ كانَ مَخْلُوقًا لِلْإلَهِ الثّانِي، وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ فَإنَّهُ يَجِبُ عَلى هَذا الإنْسانِ عِبادَةُ هَذا الإلَهِ وطاعَتُهُ، فَكانَتْ بَعْثَةُ الرَّسُولِ إلَيْهِ، وإيجابُ الطّاعَةِ عَلَيْهِ ظُلْمًا وباطِلًا. أمّا إذا ثَبَتَ أنَّ الإلَهَ واحِدٌ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ جَمِيعُ الخَلْقِ عَبِيدًا لَهُ، ويَكُونُ تَكْلِيفُهُ في الكُلِّ نافِذًا، وانْقِيادُ الكُلِّ لِأوامِرِهِ ونَواهِيهِ لازِمًا، فَثَبَتَ أنَّ ما لَمْ (p-٢٥)يَثْبُتْ كَوْنُ الإلَهِ تَعالى واحِدًا لَمْ يَكُنْ إرْسالُ الرُّسُلِ وإنْزالُ الكُتُبِ المُشْتَمِلَةِ عَلى التَّكالِيفِ جائِزًا. والأصْلُ الثّالِثُ: إثْباتُ أنَّهُ تَعالى قادِرٌ عَلى الحَشْرِ والنَّشْرِ، والبَعْثِ والقِيامَةِ؛ لِأنَّ بِتَقْدِيرِ أنْ لا يَثْبُتَ ذَلِكَ، كانَ الِاشْتِغالُ بِالطّاعَةِ والِاحْتِرازُ عَنِ المَعْصِيَةِ عَبَثًا ولَغْوًا، وإلى تَقْدِيرِ هَذا الأصْلِ الإشارَةُ بِقَوْلِهِ: ﴿يُحْيِي ويُمِيتُ﴾ لِأنَّهُ لَمّا أحْيا أوَّلًا، ثَبَتَ كَوْنُهُ قادِرًا عَلى الإحْياءِ ثانِيًا، فَيَكُونُ قادِرًا عَلى الإعادَةِ والحَشْرِ والنَّشْرِ، وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ يَكُونُ الإحْياءُ الأوَّلُ إنْعامًا عَظِيمًا، فَلا يَبْعُدُ مِنهُ تَعالى أنْ يُطالِبَهُ بِالعُبُودِيَّةِ؛ لِيَكُونَ قِيامُهُ بِتِلْكَ الطّاعَةِ قائِمًا مَقامَ الشُّكْرِ عَنِ الإحْياءِ الأوَّلِ، وأيْضًا لَمّا دَلَّ الإحْياءُ الأوَّلُ عَلى قُدْرَتِهِ عَلى الإحْياءِ الثّانِي، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ قادِرًا عَلى إيصالِ الجَزاءِ إلَيْهِ. واعْلَمْ أنَّهُ لَمّا ثَبَتَ القَوْلُ بِصِحَّةِ هَذِهِ الأُصُولِ الثَّلاثَةِ. ثَبَتَ أنَّهُ يَصِحُّ مِنَ اللَّهِ تَعالى إرْسالُ الرُّسُلِ، ومُطالَبَةُ الخَلْقِ بِالتَّكالِيفِ؛ لِأنَّ عَلى هَذا التَّقْدِيرِ الخَلْقُ كُلُّهم عَبِيدُهُ ولا مَوْلًى لَهم سِواهُ، وأيْضًا إنَّهُ مُنْعِمٌ عَلى الكُلِّ بِأعْظَمِ النِّعَمِ، وأيْضًا إنَّهُ قادِرٌ عَلى إيصالِ الجَزاءِ إلَيْهِمْ بَعْدَ مَوْتِهِمْ، وكُلُّ واحِدٍ مِن هَذِهِ الأسْبابِ الثَّلاثَةِ سَبَبٌ تامٌّ في أنَّهُ يَحْسُنُ مِنهُ تَكْلِيفُ الخَلْقِ، أمّا بِحَسَبِ السَّبَبِ الأوَّلِ، فَإنَّهُ يَحْسُنُ مِنَ المَوْلى مُطالَبَةُ عَبْدِهِ بِطاعَتِهِ وخِدْمَتِهِ، وأمّا بِحَسَبِ السَّبَبِ الثّانِي فَلِأنَّهُ يَحْسُنُ مِنَ المُنْعِمِ مُطالَبَةُ المُنْعَمِ عَلَيْهِ بِالشُّكْرِ والطّاعَةِ، وأمّا بِحَسَبِ السَّبَبِ الثّالِثِ فَلِأنَّهُ يَحْسُنُ مِنَ القادِرِ عَلى إيصالِ الجَزاءِ التّامِّ إلى المُكَلَّفِ أنْ يُكَلِّفَهُ بِنَوْعٍ مِن أنْواعِ الطّاعَةِ، فَظَهَرَ أنَّهُ لَمّا ثَبَتَتِ الأُصُولُ الثَّلاثَةُ بِالدَّلائِلِ الَّتِي ذَكَرَها اللَّهُ تَعالى في هَذِهِ الآيَةِ، فَإنَّهُ يَلْزَمُ الجَزْمُ بِأنَّهُ يَحْسُنُ مِنَ اللَّهِ إرْسالُ الرُّسُلِ، ويَجُوزُ مِنهُ تَعالى أنْ يَخُصَّهم بِأنْواعِ التَّكالِيفِ، فَثَبَتَ أنَّ الآياتِ المَذْكُورَةَ دالَّةٌ عَلى أنَّ لِلْعالِمِ إلَهًا حَيًّا عالِمًا قادِرًا، وعَلى أنَّ هَذا الإلَهَ واحِدٌ، وعَلى أنَّهُ يَحْسُنُ مِنهُ إرْسالُ الرُّسُلِ وإنْزالُ الكُتُبِ. * * * واعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا أثْبَتَ هَذِهِ الأُصُولَ المَذْكُورَةَ بِهَذِهِ الدَّلائِلِ المَذْكُورَةِ في هَذِهِ الآيَةِ ذَكَرَ بَعْدَهُ قَوْلَهُ: ﴿فَآمِنُوا بِاللَّهِ ورَسُولِهِ﴾ وهَذا التَّرْتِيبُ في غايَةِ الحُسْنِ، وذَلِكَ لِأنَّهُ لَمّا بَيَّنَ أوَّلًا أنَّ القَوْلَ بِبَعْثَةِ الأنْبِياءِ والرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ أمْرٌ جائِزٌ مُمْكِنٌ، أرْدَفَهُ بِذِكْرِ أنَّ مُحَمَّدًا رَسُولٌ حَقٌّ مِن عِنْدِ اللَّهِ؛ لِأنَّ مَن حاوَلَ إثْباتَ مَطْلُوبٍ وجَبَ عَلَيْهِ أنْ يُبَيِّنَ جَوازَهُ أوَّلًا، ثُمَّ حُصُولَهُ ثانِيًا، ثُمَّ إنَّهُ بَدَأ بِقَوْلِهِ: ﴿فَآمِنُوا بِاللَّهِ﴾ لِأنّا بَيِّنا أنَّ الإيمانَ بِاللَّهِ أصْلٌ، والإيمانَ بِالنُّبُوَّةِ والرِّسالَةِ فَرْعٌ عَلَيْهِ، والأصْلُ يَجِبُ تَقْدِيمُهُ. فَلِهَذا السَّبَبِ بَدَأ بِقَوْلِهِ: ﴿فَآمِنُوا بِاللَّهِ﴾ ثُمَّ أتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿ورَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وكَلِماتِهِ﴾ . واعْلَمْ أنَّ هَذا إشارَةٌ إلى ذِكْرِ المُعْجِزاتِ الدّالَّةِ عَلى كَوْنِهِ نَبِيًّا حَقًّا، وتَقْرِيرُهُ: أنَّ مُعْجِزاتِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ كانَتْ عَلى نَوْعَيْنِ: النَّوْعُ الأوَّلُ: المُعْجِزاتُ الَّتِي ظَهَرَتْ في ذاتِهِ المُبارَكَةِ، وأجَلُّها وأشْرَفُها أنَّهُ كانَ رَجُلًا أُمِّيًّا لَمْ يَتَعَلَّمْ مِن أُسْتاذٍ، ولَمْ يُطالِعْ كِتابًا، ولَمْ يَتَّفِقْ لَهُ مُجالَسَةُ أحَدٍ مِنَ العُلَماءِ، لِأنَّهُ ما كانَتْ مَكَّةُ بَلْدَةَ العُلَماءِ، وما غابَ رَسُولُ اللَّهِ عَنْ مَكَّةَ غَيْبَةً طَوِيلَةً يُمْكِنُ أنْ يُقالَ: إنَّ في مُدَّةِ تِلْكَ الغَيْبَةِ تَعَلَّمَ العُلُومَ الكَثِيرَةَ، ثُمَّ إنَّهُ مَعَ ذَلِكَ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ بابَ العِلْمِ والتَّحْقِيقِ وأظْهَرَ عَلَيْهِ هَذا القُرْآنَ المُشْتَمِلَ عَلى عُلُومِ الأوَّلِينَ والآخَرِينَ، فَكانَ ظُهُورُ هَذِهِ العُلُومِ العَظِيمَةِ عَلَيْهِ مَعَ أنَّهُ كانَ رَجُلًا أُمِّيًّا لَمْ يَلْقَ أُسْتاذًا ولَمْ يُطالِعْ كِتابًا، مِن أعْظَمِ المُعْجِزاتِ، وإلَيْهِ الإشارَةُ بِقَوْلِهِ: ﴿النَّبِيِّ الأُمِّيِّ﴾ . (p-٢٦)والنَّوْعُ الثّانِي مِن مُعْجِزاتِهِ: الأُمُورُ الَّتِي ظَهَرَتْ مِن مَخارِجِ ذاتِهِ مِثْلُ انْشِقاقِ القَمَرِ، ونُبُوعِ الماءِ مِن بَيْنِ أصابِعِهِ. وهي تُسَمّى بِكَلِماتِ اللَّهِ تَعالى، ألا تَرى أنَّ عِيسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - لَمّا كانَ حُدُوثُهُ أمْرًا غَرِيبًا مُخالِفًا لِلْمُعْتادِ، لا جَرَمَ سَمّاهُ اللَّهُ تَعالى كَلِمَةً. فَكَذَلِكَ المُعْجِزاتُ لَمّا كانَتْ أُمُورًا غَرِيبَةً خارِقَةً لِلْعادَةِ لَمْ يَبْعُدْ تَسْمِيَتُها بِكَلِماتِ اللَّهِ تَعالى، وهَذا النَّوْعُ هو المُرادُ بِقَوْلِهِ: ﴿يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وكَلِماتِهِ﴾ أيْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وبِجَمِيعِ المُعْجِزاتِ الَّتِي أظْهَرَها اللَّهُ عَلَيْهِ، فَبِهَذا الطَّرِيقِ أقامَ الدَّلِيلَ عَلى كَوْنِهِ نَبِيًّا صادِقًا مِن عِنْدِ اللَّهِ. واعْلَمْ أنَّهُ لَمّا ثَبَتَ بِالدَّلائِلِ القاهِرَةِ الَّتِي قَرَّرْناها بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ وجَبَ أنْ يَذْكُرَ عَقِيبَهُ الطَّرِيقَ الَّذِي بِهِ يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ شَرْعِهِ عَلى التَّفْصِيلِ، وما ذاكَ إلّا بِالرُّجُوعِ إلى أقْوالِهِ وأفْعالِهِ وإلَيْهِ الإشارَةُ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿واتَّبِعُوهُ﴾ . واعْلَمْ أنَّ المُتابَعَةَ تَتَناوَلُ المُتابَعَةَ في القَوْلِ وفي الفِعْلِ. أمّا المُتابَعَةُ في القَوْلِ فَهو أنْ يَمْتَثِلَ المُكَلَّفُ كُلَّ ما يَقُولُهُ في طَرَفَيِ الأمْرِ والنَّهْيِ والتَّرْغِيبِ والتَّرْهِيبِ. وأمّا المُتابَعَةُ في الفِعْلِ فَهي عِبارَةٌ عَنِ الإتْيانِ بِمِثْلِ ما أتى المَتْبُوعُ بِهِ سَواءٌ كانَ في طَرَفِ الفِعْلِ أوْ في طَرَفِ التَّرْكِ، فَثَبَتَ أنَّ لَفَظَ﴿واتَّبِعُوهُ﴾ يَتَناوَلُ القِسْمَيْنِ. وثَبَتَ أنَّ ظاهِرَ الأمْرِ لِلْوُجُوبِ فَكانَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿واتَّبِعُوهُ﴾ دَلِيلًا عَلى أنَّهُ يَجِبُ الِانْقِيادُ لَهُ في كُلِّ أمْرٍ ونَهْيٍ، ويَجِبُ الِاقْتِداءُ بِهِ في كُلِّ ما فَعَلَهُ إلّا ما خَصَّهُ الدَّلِيلُ، وهو الأشْياءُ الَّتِي ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ المُنْفَصِلِ أنَّها مِن خَواصِّ الرَّسُولِ ﷺ . فَإنْ قِيلَ: الشَّيْءُ الَّذِي أتى بِهِ الرَّسُولُ يَحْتَمِلُ أنَّهُ أتى بِهِ عَلى سَبِيلِ أنَّ ذَلِكَ كانَ واجِبًا عَلَيْهِ، ويَحْتَمِلُ أيْضًا أنَّهُ أتى بِهِ عَلى سَبِيلِ أنَّ ذَلِكَ كانَ مَندُوبًا، فَبِتَقْدِيرِ أنَّهُ أتى بِهِ عَلى سَبِيلِ أنَّ ذَلِكَ كانَ مَندُوبًا، فَلَوْ أتَيْنا بِهِ عَلى سَبِيلِ أنَّهُ واجِبٌ عَلَيْنا، كانَ ذَلِكَ تَرْكًا، ونَقْضًا لِمُبايَعَتِهِ. والآيَةُ تَدُلُّ عَلى وُجُوبِ مُتابَعَتِهِ، فَثَبَتَ أنَّ إقْدامَ الرَّسُولِ عَلى ذَلِكَ الفِعْلِ لا يَدُلُّ عَلى وُجُوبِهِ عَلَيْنا. قُلْنا: المُتابَعَةُ في الفِعْلِ عِبارَةٌ عَنِ الإتْيانِ بِمِثْلِ الفِعْلِ الَّذِي أتى بِهِ المَتْبُوعُ، بِدَلِيلِ أنَّ مَن أتى بِفِعْلٍ ثُمَّ إنْ غَيْرُهُ وافَقَهُ في ذَلِكَ الفِعْلِ، قِيلَ: إنَّهُ تابَعُهُ عَلَيْهِ. ولَوْ لَمْ يَأْتِ بِهِ. قِيلَ: إنَّهُ خالَفَهُ فِيهِ. فَلَمّا كانَ الإتْيانُ بِمِثْلِ فِعْلِ المَتْبُوعِ مُتابَعَةً، ودَلَّتِ الآيَةُ عَلى وُجُوبِ المُتابَعَةِ، لَزِمَ أنْ يَجِبَ عَلى الأُمَّةِ مِثْلُ فِعْلِ الرَّسُولِ ﷺ . بَقِيَ هَهُنا أنّا لا نَعْرِفُ أنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - أتى بِذَلِكَ عَلى قَصْدِ الوُجُوبِ أوْ عَلى قَصْدِ النَّدْبِ. فَنَقُولُ: حالُ الدَّواعِي والعَزائِمِ غَيْرُ مَعْلُومٍ، وحالُ الإتْيانِ بِالفِعْلِ الظّاهِرِ والعَمَلِ المَحْسُوسِ مَعْلُومٌ، فَوَجَبَ أنْ لا يُلْتَفَتَ إلى البَحْثِ عَنْ حالِ العَزائِمِ والدَّواعِي، لِكَوْنِها أُمُورًا مَخْفِيَّةً عَنّا، وأنْ نَحْكُمَ بِوُجُوبِ المُتابَعَةِ في العَمَلِ الظّاهِرِ. لِكَوْنِها مِنَ الأُمُورِ الَّتِي يُمْكِنُ رِعايَتُها، فَزالَتْ هَذِهِ الشُّبْهَةُ، وتَقْرِيرُهُ: أنَّ هَذِهِ الآيَةَ دالَّةٌ عَلى أنَّ الأصْلَ في كُلِّ فِعْلٍ فَعَلَهُ الرَّسُولُ أنْ يَجِبَ عَلَيْنا الإتْيانُ بِمِثْلِهِ إلّا إذا خَصَّهُ الدَّلِيلُ. إذا عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ: إنّا إذا أرَدْنا أنْ نَحْكُمَ بِوُجُوبِ عَمَلٍ مِنَ الأعْمالِ. قُلْنا: إنَّ هَذا العَمَلَ فِعْلُهُ أفْضَلُ مِن تَرْكِهِ، وإذا كانَ الأمْرُ كَذَلِكَ فَحِينَئِذٍ نَعْلَمُ أنَّ الرَّسُولَ قَدْ أتى بِهِ في الجُمْلَةِ، لِأنَّ العِلْمَ الضَّرُورِيَّ حاصِلٌ بِأنَّ الرَّسُولَ لا يَجُوزُ أنْ يُواظِبَ طُولَ عُمْرِهِ عَلى تَرْكِ الأفْضَلِ، فَعَلِمْنا أنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - قَدْ أتى بِهَذا الطَّرِيقِ الأفْضَلِ. وأمّا أنَّهُ هَلْ أتى بِالطَّرَفِ الأحْسَنِ فَهو مَشْكُوكٌ، والمَشْكُوكُ لا يُعارِضُ المَعْلُومَ، فَثَبَتَ أنَّهُ (p-٢٧)- عَلَيْهِ السَّلامُ - أتى بِالجانِبِ الأفْضَلِ. ومَتى ثَبَتَ ذَلِكَ وجَبَ أنْ يَجِبَ عَلَيْنا ذَلِكَ؛ لِقَوْلِهِ تَعالى في هَذِهِ الآيَةِ: ﴿واتَّبِعُوهُ﴾ فَهَذا أصْلٌ شَرِيفٌ، وقانُونٌ كُلِّيٌّ في مَعْرِفَةِ الأحْكامِ، دالٌّ عَلى النُّصُوصِ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وما يَنْطِقُ عَنِ الهَوى﴾ ﴿إنْ هو إلّا وحْيٌ يُوحى﴾ [النجم: ٣ - ٤] فَوَجَبَ عَلَيْنا مِثْلُهُ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿واتَّبِعُوهُ﴾ . وأمّا قَوْلُهُ: ﴿لَعَلَّكم تَهْتَدُونَ﴾ فَفِيهِ بَحْثانِ: أحَدُهُما: أنَّ كَلِمَةَ ”لَعَلَّ“ لِلتَّرَجِّي، وذَلِكَ لا يَلِيقُ بِاللَّهِ، فَلا بُدَّ مِن تَأْوِيلِهِ. والثّانِي: أنَّ ظاهِرَهُ يَقْتَضِي أنَّهُ تَعالى أرادَ مِن كُلِّ المُكَلَّفِينَ الهِدايَةَ والإيمانَ عَلى قَوْلِ المُعْتَزِلَةِ، والكَلامُ في تَقْرِيرِ هَذَيْنِ المَقامَيْنِ قَدْ سَبَقَ في هَذا الكِتابِ مِرارًا كَثِيرَةً، فَلا فائِدَةَ في الإعادَةِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب