الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولَمّا رَجَعَ مُوسى إلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أسِفًا قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِي أعَجِلْتُمْ أمْرَ رَبِّكم وألْقى الألْواحَ وأخَذَ بِرَأْسِ أخِيهِ يَجُرُّهُ إلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إنَّ القَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الأعْداءَ ولا تَجْعَلْنِي مَعَ القَوْمِ الظّالِمِينَ﴾ ﴿قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي ولِأخِي وأدْخِلْنا في رَحْمَتِكَ وأنْتَ أرْحَمُ الرّاحِمِينَ﴾ فِي الآيَةِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: اعْلَمْ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿ولَمّا رَجَعَ مُوسى إلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أسِفًا﴾ لا يَمْنَعُ مِن أنْ يَكُونَ قَدْ عَرَفَ (p-١٠)خَبَرَهم مِن قَبْلُ في عِبادَةِ العِجْلِ، ولا يُوجِبُ ذَلِكَ لِجَوازِ أنْ يَكُونَ عِنْدَ الرُّجُوعِ ومُشاهَدَةِ أحْوالِهِمْ صارَ كَذَلِكَ، فَلِهَذا السَّبَبِ اخْتَلَفُوا فِيهِ فَقالَ قَوْمٌ: إنَّهُ عِنْدَ هُجُومِهِ عَلَيْهِمْ عَرَفَ ذَلِكَ. وقالَ أبُو مُسْلِمٍ: بَلْ كانَ عارِفًا بِذَلِكَ مِن قَبْلُ، وهَذا أقْرَبُ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الأوَّلُ: أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿ولَمّا رَجَعَ مُوسى إلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أسِفًا﴾ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ حالَ ما كانَ راجِعًا كانَ غَضْبانَ أسِفًا، وهو إنَّما كانَ راجِعًا إلى قَوْمِهِ قَبْلَ وُصُولِهِ إلَيْهِمْ، فَدَلَّ هَذا عَلى أنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - قَبْلَ وُصُولِهِ إلَيْهِمْ كانَ عالِمًا بِهَذِهِ الحالَةِ. الثّانِي: أنَّهُ تَعالى ذَكَرَ في سُورَةِ طه أنَّهُ أخْبَرَهُ بِوُقُوعِ تِلْكَ الواقِعَةِ في المِيقاتِ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: في الأسَفِ قَوْلانِ: الأوَّلُ: أنَّ الأسَفَ الشَّدِيدَ الغَضَبُ، وهو قَوْلُ أبِي الدَّرْداءِ وعَطاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، واخْتِيارُ الزَّجّاجِ، واحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ: ﴿فَلَمّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنهُمْ﴾ [الزخرف: ٥٥] أيْ أغْضَبُونا. والثّانِي: وهو أيْضًا قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ والحَسَنِ والسُّدِّيِّ: إنَّ الآسِفَ هو الحَزِينُ. وفي حَدِيثِ عائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - أنَّها قالَتْ: إنَّ أبا بَكْرٍ رَجُلٌ أسِيفٌ أيْ حَزِينٌ. قالَ الواحِدِيُّ: والقَوْلانِ مُتَقارِبانِ، لِأنَّ الغَضَبَ مِنَ الحُزْنِ والحُزْنَ مِنَ الغَضَبِ، فَإذا جاءَكَ ما تَكْرَهُ مِمَّنْ هو دُونَكَ غَضِبْتَ، وإذا جاءَكَ مِمَّنْ هو فَوْقَكَ حَزِنْتَ. فَتُسَمّى إحْدى هاتَيْنِ الحالَتَيْنِ حُزْنًا والأُخْرى غَضَبًا، فَعَلى هَذا كانَ مُوسى غَضْبانَ عَلى قَوْمِهِ لِأجْلِ عِبادَتِهِمُ العِجْلَ، أسِفًا حَزِينًا؛ لِأنَّ اللَّهَ تَعالى فَتَنَهم، وقَدْ كانَ تَعالى قالَ لَهُ: ﴿فَإنّا قَدْ فَتَنّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ﴾ [طه: ٨٥] . أمّا قَوْلُهُ: ﴿بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِي﴾ فَمَعْناهُ بِئْسَما قُمْتُمْ مَقامِي وكُنْتُمْ خُلَفائِي مِن بَعْدِي وهَذا الخِطابُ إنَّما يَكُونُ لِعَبَدَةِ العِجْلِ مِنَ السّامِرِيِّ وأشْياعِهِ، أوْ لِوُجُوهِ بَنِي إسْرائِيلَ، وهم: هارُونُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - والمُؤْمِنُونَ مَعَهُ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: ﴿اخْلُفْنِي في قَوْمِي﴾ [الأعراف: ١٤٢] وعَلى التَّقْدِيرِ الأوَّلِ يَكُونُ المَعْنى بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي حَيْثُ عَبَدْتُمُ العِجْلَ مَكانَ عِبادَةِ اللَّهِ، وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ الثّانِي، يَكُونُ المَعْنى بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي حَيْثُ لَمْ تُمْنَعُوا مِن عِبادَةِ غَيْرِ اللَّهِ تَعالى، وهَهُنا سُؤالاتٌ: السُّؤالُ الأوَّلُ: أيْنَ ما يَقْتَضِيهِ(بِئْسَ) مِنَ الفاعِلِ، والمَخْصُوصِ بِالذَّمِّ ؟ والجَوابُ: الفاعِلُ مُضْمَرٌ يُفَسِّرُهُ قَوْلُهُ:(ما خَلَفْتُمُونِي) والمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ بِئْسَ خِلافَةً خَلَفْتُمُونِيها مِن بَعْدِي خِلافَتُكم. السُّؤالُ الثّانِي: أيُّ مَعْنًى لِقَوْلِهِ: ﴿مِن بَعْدِي﴾ بَعْدَ قَوْلِهِ: ﴿خَلَفْتُمُونِي﴾ ؟ والجَوابُ: مَعْناهُ مِن بَعْدِ ما رَأيْتُمْ مِنِّي مِن تَوْحِيدِ اللَّهِ تَعالى، ونَفْيِ الشُّرَكاءِ عَنْهُ وإخْلاصِ العِبادَةِ لَهُ، أوْ مِن بَعْدِ ما كُنْتُ أحْمِلُ بَنِي إسْرائِيلَ عَلى التَّوْحِيدِ وأمْنَعُهم مِن عِبادَةِ البَقَرِ حِينَ قالُوا: ﴿اجْعَلْ لَنا إلَهًا كَما لَهم آلِهَةٌ﴾؛ ومِن حَقِّ الخُلَفاءِ أنْ يَسِيرُوا سِيرَةَ المُسْتَخْلَفِينَ. * * * وأمّا قَوْلُهُ: ﴿أعَجِلْتُمْ أمْرَ رَبِّكُمْ﴾ فَمَعْنى العَجَلَةِ التَّقَدُّمُ بِالشَّيْءِ قَبْلَ وقْتِهِ، ولِذَلِكَ صارَتْ مَذْمُومَةً والسُّرْعَةُ غَيْرُ مَذْمُومَةٍ؛ لِأنَّ مَعْناها عَمَلُ الشَّيْءِ في أوَّلِ أوْقاتِهِ. هَكَذا قالَهُ الواحِدِيُّ. ولِقائِلٍ أنْ يَقُولَ: لَوْ كانَتِ العَجَلَةُ مَذْمُومَةً، فَلِمَ قالَ مُوسى - عَلَيْهِ السَّلامُ -: ﴿وعَجِلْتُ إلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى﴾ [طه: ٨٤] قالَ ابْنُ عَبّاسٍ المَعْنى: ﴿أعَجِلْتُمْ أمْرَ رَبِّكُمْ﴾ يَعْنِي مِيعادَ رَبِّكم فَلَمْ تَصْبِرُوا لَهُ ؟ وقالَ الحَسَنُ: وعْدُ رَبِّكُمُ الَّذِي وعَدَكم مِنَ الأرْبَعِينَ، وذَلِكَ لِأنَّهم قَدَّرُوا أنَّهُ لَمّا لَمْ يَأْتِ عَلى رَأْسِ الثَّلاثِينَ لَيْلَةً، فَقَدْ ماتَ. (p-١١)وقالَ عَطاءٌ: يُرِيدُ أعْجِلْتُمْ سُخْطَ رَبِّكم ؟ وقالَ الكَلْبِيُّ: أعْجِلْتُمْ بِعِبادَةِ العِجْلِ قَبْلَ أنْ يَأْتِيَكم أمْرُ رَبِّكم ؟ ولَمّا ذَكَرَ تَعالى أنَّ مُوسى رَجَعَ غَضْبانَ ذَكَرَ بَعْدَهُ ما كانَ ذَلِكَ الغَضَبُ مُوجِبًا لَهُ، وهو أمْرانِ: الأوَّلُ: أنَّهُ قالَ: ﴿وألْقى الألْواحَ﴾ يُرِيدُ الَّتِي فِيها التَّوْراةُ، ولَمّا كانَتْ تِلْكَ الألْواحُ أعْظَمَ مَعاجِزِهِ، ثُمَّ إنَّهُ ألْقاها، دَلَّ ذَلِكَ عَلى شِدَّةِ الغَضَبِ، لِأنَّ المَرْءَ لا يَقْدِمُ عَلى مِثْلِ هَذا العَمَلِ إلّا عِنْدَ حُصُولِ الغَضَبِ المُدْهِشِ. رُوِيَ أنَّ التَّوْراةَ كانَتْ سَبْعَةَ أسْباعٍ، فَلَمّا ألْقى الألْواحَ تَكَسَّرَتْ، فَرَفَعَ مِنها سِتَّةَ أسِباعِها وبَقِيَ سُبُعٌ واحِدٌ. وكانَ فِيما رَفَعَ تَفْصِيلُ كُلِّ شَيْءٍ، وفِيما بَقِيَ الهُدى والرَّحْمَةُ، وعَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: («يَرْحَمُ اللَّهُ أخِي مُوسى لَيْسَ الخَبَرُ كالمُعايَنَةِ، لَقَدْ أخْبَرَهُ اللَّهُ تَعالى بِفِتْنَةِ قَوْمِهِ فَعَرَفَ أنَّ ما أخْبَرَهُ بِهِ حَقٌّ، وأنَّهُ عَلى ذَلِكَ مُتَمَسِّكٌ بِما في يَدِهِ» ) . ولِقائِلٍ أنْ يَقُولَ: لَيْسَ في القُرْآنِ إلّا أنَّهُ ألْقى الألْواحَ فَأمّا أنَّهُ ألْقاها بِحَيْثُ تَكَسَّرَتْ، فَهَذا لَيْسَ في القُرْآنِ وإنَّهُ لَجَراءَةٌ عَظِيمَةٌ عَلى كِتابِ اللَّهِ، ومِثْلُهُ لا يَلِيقُ بِالأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ. والأمْرُ الثّانِي: مِنَ الأُمُورِ المُتَوَلِّدَةِ عَنْ ذَلِكَ الغَضَبِ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وألْقى الألْواحَ وأخَذَ بِرَأْسِ أخِيهِ يَجُرُّهُ إلَيْهِ﴾ وفي هَذا المَوْضِعِ سُؤالٌ لِمَن يَقْدَحُ في عِصْمَةِ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ ذَكَرْناهُ في سُورَةِ طه مَعَ الجَوابِ الصَّحِيحِ، وبِالجُمْلَةِ فالطّاعِنُونَ في عِصْمَةِ الأنْبِياءِ يَقُولُونَ: إنَّهُ أخَذَ بِرَأْسِ أخِيهِ يَجُرُّهُ إلَيْهِ عَلى سَبِيلِ الإهانَةِ والِاسْتِخْفافِ، والمُثْبِتُونَ لِعِصْمَةِ الأنْبِياءِ قالُوا: إنَّهُ جَرَّ رَأْسَ أخِيهِ إلى نَفْسِهِ لِيُسارَّهُ ويَسْتَكْشِفَ مِنهُ كَيْفِيَّةَ تِلْكَ الواقِعَةِ. فَإنْ قِيلَ: فَلِماذا قالَ: ﴿ابْنَ أُمَّ إنَّ القَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي﴾ ؟ قُلْنا: الجَوابُ عَنْهُ أنَّ هارُونَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - خافَ أنْ يَتَوَهَّمَ جُهّالُ بَنِي إسْرائِيلَ أنَّ مُوسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - غَضْبانُ عَلَيْهِ كَما أنَّهُ غَضْبانُ عَلى عَبَدَةِ العِجْلِ، فَقالَ لَهُ: ابْنَ أُمَّ، إنَّ القَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وما أطاعُونِي في تَرْكِ عِبادَةِ العِجْلِ، وقَدْ نَهَيْتُهم ولَمْ يَكُنْ مَعِي مِنَ الجَمْعِ ما أمْنَعُهم بِهِمْ عَنْ هَذا العَمَلِ، فَلا تَفْعَلْ بِي ما تَشْمَتُ أعْدائِي بِهِ، فَهم أعْداؤُكَ فَإنَّ القَوْمَ يَحْمِلُونَ هَذا الفِعْلَ الَّذِي تَفْعَلُهُ بِي عَلى الإهانَةِ لا عَلى الإكْرامِ. وأمّا قَوْلُهُ تَعالى﴿ابْنَ أُمَّ﴾ فاعْلَمْ أنَّهُ قَرَأ ابْنُ عامِرٍ وحَمْزَةُ والكِسائِيُّ وأبُو بَكْرٍ عَنْ عاصِمٍ ”ابْنَ أُمِّ“ بِكَسْرِ المِيمِ، وفي طه مِثْلُهُ عَلى تَقْدِيرِ أُمِّي فَحَذَفَ ياءَ الإضافَةِ لِأنَّ مَبْنى النِّداءِ عَلى الحَذْفِ وبَقِيَ الكَسْرُ عَلى المِيمِ لِيَدُلَّ عَلى الإضافَةِ، كَقَوْلِهِ: (يا عِبادِ) والباقُونَ بِفَتْحِ المِيمِ في السُّورَتَيْنِ، وفِيهِ قَوْلانِ: أحَدُهُما: أنَّهُما جُعِلا اسْمًا واحِدًا وبُنِي لِكَثْرَةِ اصْطِحابِ هَذَيْنِ الحَرْفَيْنِ فَصارَ بِمَنزِلَةِ اسْمٍ واحِدٍ نَحْوَ حَضْرَمَوْتَ وخَمْسَةَ عَشَرَ. وثانِيهِما: أنَّهُ عَلى حَذْفِ الألِفِ المُبْدَلَةِ مِن ياءِ الإضافَةِ، وأصْلُهُ يا ابْنَ أمّا كَما قالَ الشّاعِرُ: ؎يا ابْنَةَ عَمّا لا تَلُومِي واهْجَعِي وقَوْلُهُ: ﴿إنَّ القَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي﴾ أيْ لَمْ يَلْتَفِتُوا إلى كَلامِي وكادُوا يَقْتُلُونَنِي، فَلا تُشْمِتْ بِيَ الأعْداءَ -يَعْنِي أصْحابَ العِجْلِ- ولا تَجْعَلْنِي مَعَ القَوْمِ الظّالِمِينَ، الَّذِينَ عَبَدُوا العِجْلَ، أيْ لا تَجْعَلْنِي شَرِيكًا لَهم في عُقُوبَتِكَ لَهم عَلى فِعْلِهِمْ، فَعِنْدَ هَذا قالَ مُوسى - عَلَيْهِ السَّلامُ -: ﴿رَبِّ اغْفِرْ لِي﴾ أيْ فِيما أقْدَمْتُ عَلَيْهِ مِن هَذا الغَضَبِ والحِدَّةِ﴿ولِأخِي﴾ في تَرْكِهِ التَّشْدِيدَ العَظِيمَ عَلى عَبَدَةِ العِجْلِ﴿وأدْخِلْنا في رَحْمَتِكَ وأنْتَ أرْحَمُ الرّاحِمِينَ﴾ . (p-١٢)واعْلَمْ أنَّ تَمامَ هَذِهِ السُّؤالاتِ والجَواباتِ في هَذِهِ القِصَّةِ مَذْكُورٌ في سُورَةِ طه. واللَّهُ أعْلَمُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب