الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولَمّا سُقِطَ في أيْدِيهِمْ ورَأوْا أنَّهم قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا ويَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسِرِينَ﴾ اعْلَمْ أنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلى أنَّ المُرادَ مِن قَوْلِهِ: ﴿سُقِطَ في أيْدِيهِمْ﴾ أنَّهُ اشْتَدَّ نَدَمُهم عَلى عِبادَةِ العِجْلِ واخْتَلَفُوا في الوَجْهِ الَّذِي لِأجْلِهِ حَسُنَتْ هَذِهِ الِاسْتِعارَةُ. فالوَجْهُ الأوَّلُ: قالَ الزَّجّاجُ: مَعْناهُ سَقَطَ النَّدَمُ في أيْدِيهِمْ، أيْ في قُلُوبِهِمْ كَما يُقالُ حَصَلَ في يَدِيهِ مَكْرُوهٌ، وإنْ كانَ مِنَ المُحالِ حُصُولُ المَكْرُوهِ الواقِعِ في اليَدِ، إلّا أنَّهم أطْلَقُوا عَلى المَكْرُوهِ الواقِعِ في القَلْبِ والنَّفْسِ كَوْنَهُ واقِعًا في اليَدِ، فَكَذا هَهُنا. والوَجْهُ الثّانِي: قالَ صاحِبُ (الكَشّافِ): إنَّما يُقالُ لِمَن نَدِمَ سُقِطَ في يَدِهِ لِأنَّ مِن شَأْنِ مَنِ اشْتَدَّ نَدَمُهُ أنْ يَعَضَّ يَدَهُ غَمًّا، فَيَصِيرُ نَدَمُهُ مَسْقُوطًا فِيها، لِأنَّ فاهُ قَدْ وقَعَ فِيها. والوَجْهُ الثّالِثُ: أنَّ السُّقُوطَ عِبارَةٌ عَنْ نُزُولِ الشَّيْءِ مِن أعْلى إلى أسْفَلُ، ولِهَذا قالُوا سَقَطَ المَطَرُ، ويُقالُ: سَقَطَ مِن يَدِكَ شَيْءٌ، وأسْقَطَتِ المَرْأةُ، فَمَن أقْدَمَ عَلى عَمَلٍ فَهو إنَّما يَقْدِمُ عَلَيْهِ لِاعْتِقادِهِ أنَّ ذَلِكَ العَمَلَ خَيْرٌ وصَوابٌ، وأنَّ ذَلِكَ العَمَلَ يُورِثُهُ شَرَفًا ورِفْعَةً، فَإذا بانَ لَهُ أنَّ ذَلِكَ العَمَلَ كانَ باطِلًا فاسِدًا فَكَأنَّهُ قَدِ انْحَطَّ مِنَ الأعْلى إلى الأسْفَلِ، وسَقَطَ مِن فَوْقُ إلى تَحْتُ، فَلِهَذا السَّبَبِ يُقالُ لِلرَّجُلِ إذا أخْطَأ: كانَ ذَلِكَ مِنهُ سَقْطَةً، شَبَّهُوا ذَلِكَ بِالسَّقْطَةِ عَلى الأرْضِ، فَثَبَتَ أنَّ إطْلاقَ لَفْظِ السُّقُوطِ عَلى الحالَةِ الحاصِلَةِ عِنْدَ النَّدَمِ جائِزٌ مُسْتَحْسَنٌ، بَقِيَ أنْ يُقالَ: فَما الفائِدَةُ في ذِكْرِ اليَدِ ؟ فَنَقُولُ: اليَدُ هي الآلَةُ الَّتِي بِها يَقْدِرُ الإنْسانُ عَلى الأخْذِ والضَّبْطِ والحِفْظِ، فالنّادِمُ كَأنَّهُ يَتَدارَكُ الحالَةَ الَّتِي لِأجْلِها حَصَلَ لَهُ النَّدَمُ ويَشْتَغِلُ بِتَلافِيها، فَكَأنَّهُ قَدْ سَقَطَ في يَدِ نَفْسِهِ مِن حَيْثُ أنَّهُ بَعْدَ حُصُولِ ذَلِكَ النَّدَمِ اشْتَغَلَ بِالتَّدارُكِ والتَّلافِي. والوَجْهُ الرّابِعُ: حَكى الواحِدِيُّ عَنْ بَعْضِهِمْ: أنَّ هَذا مَأْخُوذٌ مِنَ السَّقِيطِ وهو ما يَغْشى الأرْضَ بِالغَدَواتِ شِبْهَ الثَّلْجِ. يُقالُ مِنهُ: سَقَطَتِ الأرْضُ، كَما يُقالُ مِنَ الثَّلْجِ: ثَلَجَتِ الأرْضُ وثُلِجْنا أيْ أصابَها الثَّلْجُ، ومَعْنى سُقِطَ في يَدِهِ أيْ وقَعَ في يَدِهِ السَّقِيطُ، والسَّقِيطُ يَذُوبُ بِأدْنى حَرارَةٍ ولا يَبْقى، فَمَن وقَعَ في يَدِهِ السَّقِيطُ لَمْ يَحْصُلْ مِنهُ عَلى شَيْءٍ قَطُّ فَصارَ هَذا مَثَلًا لِكُلِّ مَن خَسِرَ في عاقِبَتِهِ ولَمْ يَحْصُلْ مِن سَعْيِهِ عَلى طائِلٍ، وكانَتِ النَّدامَةُ آخِرَ أمْرِهِ. والوَجْهُ الخامِسُ: قالَ بَعْضُ العُلَماءِ: النّادِمُ إنَّما يُقالُ لَهُ: سُقِطَ في يَدِهِ، لِأنَّهُ يَتَحَيَّرُ في أمْرِهِ ويَعْجَزُ عَنْ أعْمالِهِ، والآلَةُ الأصْلِيَّةُ في الأعْمالِ في أكْثَرِ الأمْرِ هي اليَدُ. والعاجِزُ في حُكْمِ السّاقِطِ، فَلَمّا قُرِنَ السُّقُوطُ بِالأيْدِي عُلِمَ أنَّ السُّقُوطَ في اليَدِ إنَّما حَصَلَ بِسَبَبِ العَجْزِ التّامِّ، ويُقالُ في العُرْفِ لِمَن لا يَهْتَدِي لِما يَصْنَعُ: ضَلَّتْ يَدُهُ ورِجْلُهُ. (p-٩)والوَجْهُ السّادِسُ: أنَّ مِن عادَةِ النّادِمِ أنْ يُطَأْطِئَ رَأْسَهُ ويَضَعَهُ عَلى يَدِهِ مُعْتَمِدًا عَلَيْهِ، وتارَةً يَضَعَها تَحْتَ ذَقَنِهِ وشَطْرٍ مِن وجْهِهِ عَلى هَيْئَةٍ لَوْ نُزِعَتْ يَدُهُ لَسَقَطَ عَلى وجْهِهِ فَكانَتِ اليَدُ مَسْقُوطًا فِيها لِتَمَكُّنِ السُّقُوطِ فِيها، ويَكُونُ قَوْلُهُ: سُقِطَ في أيْدِيهِمْ بِمَعْنى سُقِطَ عَلى أيْدِيهِمْ، كَقَوْلِهِ: ﴿ولَأُصَلِّبَنَّكم في جُذُوعِ النَّخْلِ﴾ [طه: ٧١ ] أيْ عَلَيْها، واللَّهُ أعْلَمُ. ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ورَأوْا أنَّهم قَدْ ضَلُّوا﴾ أيْ قَدْ تَبَيَّنُوا ضَلالَهَمْ تَبْيِينًا كَأنَّهم أبْصَرُوهُ بِعُيُونِهِمْ، قالَ القاضِي: يَجِبُ أنْ يَكُونَ المُؤَخَّرُ مُقَدَّمًا؛ لِأنَّ النَّدَمَ والتَّحَيُّرَ إنَّما يَقَعانِ بَعْدَ المَعْرِفَةِ فَكَأنَّهُ تَعالى قالَ: ولَمّا رَأوْا أنَّهم قَدْ ضَلُّوا سُقِطَ في أيْدِيهِمْ لِما نالَهم مِن عَظِيمِ الحَسْرَةِ، ويُمْكِنُ أنْ يُقالَ: إنَّهُ لا حاجَةَ إلى هَذا التَّقْدِيمِ والتَّأْخِيرِ، وذَلِكَ لِأنَّ الإنْسانَ إذا صارَ شاكًّا في أنَّ العَمَلَ الَّذِي أقْدَمَ عَلَيْهِ هَلْ هو صَوابٌ أوْ خَطَأٌ ؟ فَقَدْ يَنْدَمُ عَلَيْهِ مِن حَيْثُ إنَّ الإقْدامَ عَلى ما لا يُعْلَمُ كَوْنُهُ صَوابًا أوْ خَطَأً فاسِدًا أوْ باطِلًا غَيْرُ جائِزٍ، فَعِنْدَ ظُهُورِ هَذِهِ الحالَةِ يَحْصُلُ النَّدَمُ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَتَكامَلُ العِلْمُ ويَظْهَرُ أنَّهُ كانَ خَطَأً وفاسِدًا وباطِلًا فَثَبَتَ أنَّ عَلى هَذا التَّقْدِيرِ لا حاجَةَ إلى التِزامِ التَّقْدِيمِ والتَّأْخِيرِ. ثُمَّ بَيَّنَ تَعالى أنَّهم عِنْدَ ظُهُورِ هَذا النَّدَمِ، وحُصُولِ العِلْمِ بِأنَّ الَّذِي عَمِلُوهُ كانَ باطِلًا أظْهَرُوا الِانْقِطاعَ إلى اللَّهِ تَعالى فَقالُوا﴿لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا ويَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسِرِينَ﴾ وهَذا كَلامُ مَنِ اعْتَرَفَ بِعَظِيمِ ما أقْدَمَ عَلَيْهِ ونَدِمَ عَلى ما صَدَرَ مِنهُ ورَغِبَ إلى رَبِّهِ في إقالَةِ عَثْرَتِهِ، ثُمَّ صَدَّقُوا عَلى أنْفُسِهِمْ كَوْنَهم مِنَ الخاسِرِينَ إنْ لَمْ يَغْفِرِ اللَّهُ لَهم، وهَذا النَّدَمُ والِاسْتِغْفارُ إنَّما حَصَلَ بَعْدَ رُجُوعِ مُوسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - إلَيْهِمْ، وقُرِئَ: ”لَئِنْ لَمْ تَرْحَمْنا رَبَّنا وتَغْفِرْ لَنا“ بِالتّاءِ ”ورَبَّنا“ بِالنَّصْبِ عَلى النِّداءِ، وهَذا كَلامُ التّائِبِينَ كَما قالَ آدَمُ وحَوّاءُ عَلَيْهِما السَّلامُ: ﴿وإنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وتَرْحَمْنا﴾ [الأعْرافِ: ٢٣] .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب