الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿سَأصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ في الأرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ وإنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها وإنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وإنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأنَّهم كَذَّبُوا بِآياتِنا وكانُوا عَنْها غافِلِينَ﴾ فِي الآيَةِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا ذَكَرَ في الآيَةِ المُتَقَدِّمَةِ قَوْلَهُ: ﴿سَأُرِيكم دارَ الفاسِقِينَ﴾ [الأعراف: ١٤٥] ذَكَرَ في هَذِهِ الآيَةِ ما يُعامِلُهم بِهِ فَقالَ: ﴿سَأصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ في الأرْضِ﴾ واحْتَجَّ أصْحابُنا بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى أنَّهُ تَعالى قَدْ يَمْنَعُ عَنِ الإيمانِ ويَصُدُّ عَنْهُ وذَلِكَ ظاهِرٌ، وقالَتِ المُعْتَزِلَةُ: لا يُمْكِنُ حَمْلُ الآيَةِ عَلى ما ذَكَرْتُمُوهُ ويَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الوَجْهُ الأوَّلُ: قالَ الجُبّائِيُّ لا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ المُرادُ مِنهُ أنَّهُ تَعالى يَصْرِفُهم عَنِ الإيمانِ بِآياتِهِ؛ لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿سَأصْرِفُ﴾ يَتَناوَلُ المُسْتَقْبَلَ، وقَدْ بَيَّنَ تَعالى أنَّهم كَفَرُوا فَكَذَّبُوا مِن قَبْلِ هَذا الصَّرْفِ؛ لِأنَّهُ تَعالى وصَفَهم بِكَوْنِهِمْ مُتَكَبِّرِينَ في الأرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ، وبِأنَّهم إنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا، وإنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا، فَثَبَتَ أنَّ الآيَةَ دالَّةٌ عَلى أنَّ الكُفْرَ قَدْ حَصَلَ لَهم في الزَّمانِ الماضِي، فَهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّهُ لَيْسَ المُرادُ مِن هَذا الصَّرْفِ الكُفْرَ بِاللَّهِ. الوَجْهُ الثّانِي: أنَّ قَوْلَهُ: ﴿سَأصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ في الأرْضِ﴾ مَذْكُورٌ عَلى وجْهِ العُقُوبَةِ عَلى التَّكَبُّرِ والكُفْرِ، فَلَوْ كانَ المُرادُ مِن هَذا الصَّرْفِ هو كُفْرَهم، لَكانَ مَعْناهُ أنَّهُ تَعالى خَلَقَ فِيهِمُ الكُفْرَ عُقُوبَةً لَهم عَلى إقْدامِهِمْ عَلى الكُفْرِ، ومَعْلُومٌ أنَّ العُقُوبَةَ عَلى الكُفْرِ بِمِثْلِ ذَلِكَ الفِعْلِ المُعاقَبِ عَلَيْهِ لا يَجُوزُ، فَثَبَتَ أنَّهُ لَيْسَ المُرادُ مِن هَذا الصَّرْفِ الكُفْرَ. (p-٤)الوَجْهُ الثّالِثُ: أنَّهُ لَوْ صَرَفَهم عَنِ الإيمانِ وصَدَّهم عَنْهُ فَكَيْفَ يُمْكِنُ أنْ يَقُولَ مَعَ ذَلِكَ﴿فَما لَهم لا يُؤْمِنُونَ﴾ [الِانْشِقاقِ: ٢٠ ]،﴿فَما لَهم عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ﴾ [المدثر: ٤٩]،﴿وما مَنَعَ النّاسَ أنْ يُؤْمِنُوا﴾ [الكَهْفِ: ٥٥] فَثَبَتَ أنَّ حَمْلَ الآيَةِ عَلى هَذا الوَجْهِ غَيْرُ مُمْكِنٍ فَوَجَبَ حَمْلُها عَلى وُجُوهٍ أُخْرى. فالوَجْهُ الأوَّلُ: قالَ الكَعْبِيُّ وأبُو مُسْلِمٍ الأصْفَهانِيُّ: إنَّ هَذا الكَلامَ تَمامٌ لِما وعَدَ اللَّهُ مُوسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - بِهِ مِن إهْلاكِ أعْدائِهِ، ومَعْنى صَرْفِهِمْ إهْلاكُهم فَلا يَقْدِرُونَ عَلى مَنعِ مُوسى مِن تَبْلِيغِها ولا عَلى المُؤْمِنِينَ مِنَ الإيمانِ بِها، وهو شَبِيهٌ بِقَوْلِهِ: ﴿بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إلَيْكَ مِن رَبِّكَ وإنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ واللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ﴾ [المائدة: ٦٧] فَأرادَ تَعالى أنْ يَمْنَعَ أعْداءَ مُوسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - مِن إيذائِهِ، ومَنعِهِ مِنَ القِيامِ بِما يَلْزَمُهُ في تَبْلِيغِ النُّبُوَّةِ والرِّسالَةِ. والوَجْهُ الثّانِي في التَّأْوِيلِ: ما ذَكَرَهُ الجُبّائِيُّ فَقالَ: سَأصْرِفُ هَؤُلاءِ المُتَكَبِّرِينَ عَنْ نَيْلِ ما في آياتِي مِنَ العِزِّ والكَرامَةِ المُعَدَّيْنِ لِلْأنْبِياءِ والمُؤْمِنِينَ، وإنَّما يَصْرِفُهم عَنْ ذَلِكَ بِواسِطَةِ إنْزالِ الذُّلِّ والإذْلالِ بِهِمْ، وذَلِكَ يَجْرِي مَجْرى العُقُوبَةِ عَلى كُفْرِهِمْ وتَكَبُّرِهِمْ عَلى اللَّهِ. والوَجْهُ الثّالِثُ: أنَّ مِنَ الآياتِ آياتٍ لا يُمْكِنُ الِانْتِفاعُ بِها إلّا بَعْدَ سَبْقِ الإيمانِ. فَإذا كَفَرُوا فَقَدْ صَيَّرُوا أنْفُسَهم بِحَيْثُ لا يُمْكِنُهُمُ الِانْتِفاعُ بِتِلْكَ الآياتِ، فَحِينَئِذٍ يَصْرِفُهُمُ اللَّهُ عَنْها. والوَجْهُ الرّابِعُ: أنَّ اللَّهَ تَعالى إذا عَلِمَ مِن حالِ بَعْضِهِمْ أنَّهُ إذا شاهَدَ تِلْكَ الآياتِ فَإنَّهُ لا يَسْتَدِلُّ بِها بَلْ يَسْتَخِفُّ بِها ولا يَقُومُ بِحَقِّها، فَإذا عَلِمَ اللَّهُ ذَلِكَ مِنهُ، صَحَّ مِنَ اللَّهِ تَعالى أنْ يَصْرِفَهُ عَنْها. والوَجْهُ الخامِسُ: نُقِلَ عَنِ الحَسَنِ أنَّهُ قالَ: إنَّ مِنَ الكُفّارِ مَن يُبالِغُ في كُفْرِهِ ويَنْتَهِي إلى الحَدِّ الَّذِي إذا وصَلَ إلَيْهِ ماتَ قَلْبُهُ، فالمُرادُ مِن قَوْلِهِ: ﴿سَأصْرِفُ عَنْ آياتِيَ﴾ هَؤُلاءِ. فَهَذا جُمْلَةُ ما قِيلَ في هَذا البابِ، وظَهَرَ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ لَيْسَ فِيها دَلالَةٌ قَوِيَّةٌ عَلى صِحَّةِ ما يَقُولُ بِهِ في مَسْألَةِ خَلْقِ الأعْمالِ. واللَّهُ أعْلَمُ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: مَعْنى يَتَكَبَّرُونَ: أنَّهم يَرَوْنَ أنَّهم أفْضَلُ الخَلْقِ، وأنَّ لَهم مِنَ الحَقِّ ما لَيْسَ لِغَيْرِهِمْ، وهَذِهِ الصِّفَةُ -أعْنِي التَّكَبُّرَ- لا تَكُونُ إلّا لِلَّهِ تَعالى؛ لِأنَّهُ هو الَّذِي لَهُ القُدْرَةُ والفَضْلُ الَّذِي لَيْسَ لِأحَدٍ؛ فَلا جَرَمَ يَسْتَحِقُّ كَوْنَهُ مُتَكَبِّرًا، وقالَ بَعْضُهُمُ: التَّكَبُّرُ: إظْهارُ كِبْرِ النَّفْسِ عَلى غَيْرِها. وصِفَةُ التَّكَبُّرِ صِفَةُ ذَمٍّ في جَمِيعِ العِبادِ، وصِفَةُ مَدْحٍ في اللَّهِ جَلَّ جَلالُهُ؛ لِأنَّهُ يَسْتَحِقُّ إظْهارَ ذَلِكَ عَلى مَن سِواهُ؛ لِأنَّ ذَلِكَ في حَقِّهِ حَقٌّ. وفي حَقِّ غَيْرِهِ باطِلٌ. واعْلَمْ أنَّهُ تَعالى ذَكَرَ في هَذِهِ الآيَةِ قَوْلَهُ: ﴿بِغَيْرِ الحَقِّ﴾ لِأنَّ إظْهارَ الكِبْرِ عَلى الغَيْرِ قَدْ يَكُونُ بِالحَقِّ، فَإنَّ لِلْمُحِقِّ أنْ يَتَكَبَّرَ عَلى المُبْطِلِ، وفي الكَلامِ المَشْهُورِ: ”التَّكَبُّرُ عَلى المُتَكَبِّرِ صَدَقَةٌ“ . * * * أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وإنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا﴾ فَفِيهِ مَباحِثُ: البَحْثُ الأوَّلُ: قَرَأ حَمْزَةُ والكِسائِيُّ: ”الرَّشَدِ“ بِفَتْحِ الرّاءِ والشِّينِ والباقُونَ بِضَمِّ الرّاءِ وسُكُونِ الشِّينِ. وفَرَّقَ أبُو عَمْرٍو بَيْنَهُما فَقالَ: ﴿الرُّشْدِ﴾ بِضَمِّ الرّاءِ الصَّلاحُ؛ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَإنْ آنَسْتُمْ مِنهم رُشْدًا﴾ [النساء: ٦] (p-٥)أيْ صَلاحًا، و”الرَّشَدِ“ بِفَتْحِهِما الِاسْتِقامَةُ في الدِّينِ. قالَ تَعالى: ﴿مِمّا عُلِّمْتَ رُشْدًا﴾ [الكهف: ٦٦] وقالَ الكِسائِيُّ هُما لُغَتانِ بِمَعْنًى واحِدٍ، مِثْلُ الحَزَنِ والحُزْنِ، والسَّقَمِ والسُّقُمِ، وقِيلَ: ﴿الرُّشْدِ﴾ بِالضَّمِّ الِاسْمُ، وبِالفَتْحَتَيْنِ المَصْدَرُ. البَحْثُ الثّانِي: ﴿سَبِيلَ الرُّشْدِ﴾ عِبارَةٌ عَنْ سَبِيلِ الهُدى والدِّينِ الحَقِّ، والصَّوابِ في العِلْمِ والعَمَلِ و﴿سَبِيلَ الغَيِّ﴾ ما يَكُونُ مُضادًّا لِذَلِكَ، ثُمَّ بَيَّنَ تَعالى أنَّ هَذا الصَّرْفَ إنَّما كانَ لِأمْرَيْنِ: أحَدُهُما: كَوْنُهم مُكَذِّبِينَ بِآياتِ اللَّهِ. والثّانِي: كَوْنُهم غافِلِينَ عَنْها، والمُرادُ أنَّهم واظَبُوا عَلى الإعْراضِ عَنْها حَتّى صارُوا بِمَنزِلَةِ الغافِلِ عَنْها. واللَّهُ أعْلَمُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب