الباحث القرآني
قَوْلُهُ سُبْحانَهُ وتَعالى: ﴿قالَ ما مَنَعَكَ ألّا تَسْجُدَ إذْ أمَرْتُكَ قالَ أنا خَيْرٌ مِنهُ خَلَقْتَنِي مِن نارٍ وخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ﴾ ﴿قالَ فاهْبِطْ مِنها فَما يَكُونُ لَكَ أنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فاخْرُجْ إنَّكَ مِنَ الصّاغِرِينَ﴾ .
فِي الآيَةِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: اعْلَمْ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ تَدُلُّ عَلى أنَّهُ تَعالى لَمّا أمَرَ المَلائِكَةَ بِالسُّجُودِ. فَإنَّ ذَلِكَ الأمْرَ قَدْ تَناوَلَ إبْلِيسَ، وظاهِرُ هَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ إبْلِيسَ كانَ مِنَ المَلائِكَةِ، إلّا أنَّ الدَّلائِلَ الَّتِي ذَكَرْناها تَدُلُّ عَلى أنَّ الأمْرَ لَيْسَ كَذَلِكَ. وأمّا الِاسْتِثْناءُ فَقَدْ أجَبْنا عَنْهُ في سُورَةِ البَقَرَةِ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: ظاهِرُ الآيَةِ يَقْتَضِي أنَّهُ تَعالى طَلَبَ مِن إبْلِيسَ ما مَنَعَهُ مِن تَرْكِ السُّجُودِ، ولَيْسَ الأمْرُ كَذَلِكَ. فَإنَّ المَقْصُودَ طَلَبُ ما مَنَعَهُ مِنَ السُّجُودِ، ولِهَذا الإشْكالِ حَصَلَ في الآيَةِ قَوْلانِ:
القَوْلُ الأوَّلُ: وهو المَشْهُورُ أنَّ كَلِمَةَ (لا) صِلَةٌ زائِدَةٌ، والتَّقْدِيرُ: ما مَنَعَكَ أنْ تَسْجُدَ ؟ ! ولَهُ نَظائِرُ في القُرْآنِ كَقَوْلِهِ: ﴿لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ القِيامَةِ﴾ (القِيامَةِ: ١) مَعْناهُ: أُقْسِمُ. وقَوْلِهِ: ﴿وحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أهْلَكْناها أنَّهم لا يَرْجِعُونَ﴾ (الأنْبِياءِ: ٩٥) أيْ يَرْجِعُونَ. وقَوْلِهِ: ﴿لِئَلّا يَعْلَمَ أهْلُ الكِتابِ﴾ أيْ: لِيَعْلَمَ أهْلُ الكِتابِ. وهَذا قَوْلُ الكِسائِيِّ، والفَرّاءِ، والزَّجّاجِ، والأكْثَرِينَ.
والقَوْلُ الثّانِي: إنَّ كَلِمَةَ (لا) هَهُنا مُفِيدَةٌ ولَيْسَتْ لَغْوًا، وهَذا هو الصَّحِيحُ: لِأنَّ الحُكْمَ بِأنَّ كَلِمَةً مِن كِتابِ اللَّهِ لَغْوٌ لا فائِدَةَ فِيها مُشْكِلٌ صَعْبٌ، وعَلى هَذا القَوْلِ فَفي تَأْوِيلِ الآيَةِ وجْهانِ:
الأوَّلُ: أنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: أيُّ شَيْءٍ مَنَعَكَ عَنْ تَرْكِ السُّجُودِ ؟ ! ويَكُونُ هَذا الِاسْتِفْهامُ عَلى سَبِيلِ الإنْكارِ، ومَعْناهُ: أنَّهُ ما مَنَعَكَ عَنْ تَرْكِ السُّجُودِ ؟ ! كَقَوْلِ القائِلِ لِمَن ضَرَبَهُ ظُلْمًا: ما الَّذِي مَنَعَكَ مِن ضَرْبِي، أدِينُكَ، أمْ عَقْلُكَ، أمْ حَياؤُكَ ؟ ! والمَعْنى: أنَّهُ لَمْ يُوجَدْ أحَدُ هَذِهِ الأُمُورِ، وما امْتَنَعْتَ مِن ضَرْبِي.
الثّانِي: قالَ القاضِي: ذَكَرَ اللَّهُ المَنعَ وأرادَ الدّاعِيَ فَكَأنَّهُ قالَ: ما دَعاكَ إلى أنْ لا تَسْجُدَ ؟ ! لِأنَّ مُخالَفَةَ أمْرِ اللَّهِ تَعالى حالَةٌ عَظِيمَةٌ يَتَعَجَّبُ مِنها ويَسْألُ عَنِ الدّاعِي إلَيْها.
* * *
(p-٢٨)المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: احْتَجَّ العُلَماءُ بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى أنَّ صِيغَةَ الأمْرِ تُفِيدُ الوُجُوبَ، فَقالُوا: إنَّهُ تَعالى ذَمَّ إبْلِيسَ بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى تَرْكِ ما أُمِرَ بِهِ ولَوْ لَمْ يُفِدِ الأمْرُ الوُجُوبَ لَما كانَ مُجَرَّدُ تَرْكِ المَأْمُورِ بِهِ مُوجِبًا لِلذَّمِّ.
فَإنْ قالُوا: هَبْ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ تَدُلُّ عَلى أنَّ ذَلِكَ الأمْرَ كانَ يُفِيدُ الوُجُوبَ، فَلَعَلَّ تِلْكَ الصِّيغَةَ في ذَلِكَ الأمْرِ كانَتْ تُفِيدُ الوُجُوبَ. فَلِمَ قُلْتُمْ: إنَّ جَمِيعَ الصِّيَغِ يَجِبُ أنْ تَكُونَ كَذَلِكَ ؟
قُلْنا: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ما مَنَعَكَ ألّا تَسْجُدَ إذْ أمَرْتُكَ﴾ يُفِيدُ تَعْلِيلَ ذَلِكَ الذَّمِّ بِمُجَرَّدِ تَرْكِ الأمْرِ، لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿إذْ أمَرْتُكَ﴾ مَذْكُورٌ في مَعْرِضِ التَّعْلِيلِ، والمَذْكُورُ في قَوْلِهِ: ﴿إذْ أمَرْتُكَ﴾ هو الأمْرُ مِن حَيْثُ إنَّهُ أمْرٌ لا كَوْنُهُ أمْرًا مَخْصُوصًا في صُورَةٍ مَخْصُوصَةٍ، وإذا كانَ كَذَلِكَ، وجَبَ أنْ يَكُونَ تَرْكُ الأمْرِ مِن حَيْثُ إنَّهُ أمْرٌ مُوجِبًا لِلذَّمِّ، وذَلِكَ يُفِيدُ أنَّ كُلَّ أمْرٍ فَإنَّهُ يَقْتَضِي الوُجُوبَ وهو المَطْلُوبُ.
المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: احْتَجَّ مَن زَعَمَ أنَّ الأمْرَ يُفِيدُ الفَوْرَ بِهَذِهِ الآيَةِ قالَ: إنَّهُ تَعالى ذَمَّ إبْلِيسَ عَلى تَرْكِ السُّجُودِ في الحالِ، ولَوْ كانَ الأمْرُ لا يُفِيدُ الفَوْرَ لَما اسْتَوْجَبَ هَذا الذَّمَّ بِتَرْكِ السُّجُودِ في الحالِ.
المَسْألَةُ الخامِسَةُ: اعْلَمْ أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿ما مَنَعَكَ ألّا تَسْجُدَ﴾ طَلَبَ الدّاعِيَ الَّذِي دَعاهُ إلى تَرْكِ السُّجُودِ، فَحَكى تَعالى عَنْ إبْلِيسَ ذِكْرَ ذَلِكَ الدّاعِي، وهو أنَّهُ قالَ: ﴿أنا خَيْرٌ مِنهُ خَلَقْتَنِي مِن نارٍ وخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ﴾ ومَعْناهُ: إنَّ إبْلِيسَ قالَ: إنَّما لَمْ أسْجُدْ لِآدَمَ؛ لِأنِّي خَيْرٌ مِنهُ، ومَن كانَ خَيْرًا مِن غَيْرِهِ، فَإنَّهُ لا يَجُوزُ أمْرُ ذَلِكَ الأكْمَلِ بِالسُّجُودِ لِذَلِكَ الأدْوَنِ، ثُمَّ بَيَّنَ المُقَدِّمَةَ الأُولى وهو قَوْلُهُ: ﴿أنا خَيْرٌ مِنهُ﴾ بِأنْ قالَ: ﴿خَلَقْتَنِي مِن نارٍ وخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ﴾ والنّارُ أفْضَلُ مِنَ الطِّينِ، والمَخْلُوقُ مِنَ الأفْضَلِ أفْضَلُ، فَوَجَبَ كَوْنُ إبْلِيسَ خَيْرًا مِن آدَمَ. أمّا بَيانُ أنَّ النّارَ أفْضَلُ مِنَ الطِّينِ، فَلِأنَّ النّارَ مُشْرِقٌ عُلْوِيٌّ لَطِيفٌ خَفِيفٌ حارٌّ يابِسٌ مُجاوِرٌ لِجَواهِرِ السَّماواتِ مُلاصِقٌ لَها، والطِّينَ مُظْلِمٌ سُفْلِيٌّ كَثِيفٌ ثَقِيلٌ بارِدٌ يابِسٌ بَعِيدٌ عَنْ مُجاوَرَةِ السَّماواتِ، وأيْضًا فالنّارُ قَوِيَّةُ التَّأْثِيرِ والفِعْلِ، والأرْضُ لَيْسَ لَها إلّا القَبُولُ والِانْفِعالُ. والفِعْلُ أشْرَفُ مِنَ الِانْفِعالِ، وأيْضًا فالنّارُ مُناسِبَةٌ لِلْحَرارَةِ الغَرِيزِيَّةِ وهي مادَّةُ الحَياةِ، وأمّا الأرْضِيَّةُ والبَرَدُ واليُبْسُ فَهُما مُناسِبانِ لِلْمَوْتِ. والحَياةُ أشْرَفُ مِنَ المَوْتِ، وأيْضًا فَنُضْجُ الثِّمارِ مُتَعَلِّقٌ بِالحَرارَةِ، وأيْضًا فَسِنُّ النُّمُوِّ مِنَ النَّباتِ لَمّا كانَ وقْتَ كَمالِ الحَرارَةِ كانَ غايَةُ كَمالِ الحَيَوانِ حاصِلًا في هَذَيْنِ الوَقْتَيْنِ، وأمّا وقْتُ الشَّيْخُوخَةِ، فَهو وقْتُ البَرْدِ واليُبْسِ المُناسِبُ، لا جَرَمَ كانَ هَذا الوَقْتُ أرْدَأ أوْقاتِ عُمُرِ الإنْسانِ. فَأمّا بَيانُ أنَّ المَخْلُوقَ مِنَ الأفْضَلِ أفْضَلُ فَظاهِرٌ؛ لِأنَّ شَرَفَ الأُصُولِ يُوجِبُ شَرَفَ الفُرُوعِ.
وأمّا بَيانُ أنَّ الأشْرَفَ لا يَجُوزُ أنْ يُؤْمَرَ بِخِدْمَةِ الأدْوَنِ؛ فَلِأنَّهُ قَدْ تَقَرَّرَ في العُقُولِ أنَّ مَن أمَرَ أبا حَنِيفَةَ والشّافِعِيَّ وسائِرَ أكابِرِ الفُقَهاءِ بِخِدْمَةِ فَقِيهٍ نازِلِ الدَّرَجَةِ كانَ ذَلِكَ قَبِيحًا في العُقُولِ، فَهَذا هو تَقْرِيرٌ لِشُبْهَةِ إبْلِيسَ.
فَنَقُولُ: هَذِهِ الشُّبْهَةُ مُرَكَّبَةٌ مِن مُقَدِّماتٍ ثَلاثَةٍ.
أوَّلُها: إنَّ النّارَ أفْضَلُ مِنَ التُّرابِ، فَهَذا قَدْ تَكَلَّمْنا فِيهِ في سُورَةِ البَقَرَةِ.
وأمّا المُقَدِّمَةُ الثّانِيَةُ: وهي أنْ مَن كانَتْ مادَّتُهُ أفْضَلَ فَصُورَتُهُ أفْضَلُ، فَهَذا هو مَحَلُّ النِّزاعِ والبَحْثِ؛ لِأنَّهُ لَمّا كانَتِ الفَضِيلَةُ عَطِيَّةً مِنَ اللَّهِ ابْتِداءً لَمْ يَلْزَمْ مِن فَضِيلَةِ المادَّةِ فَضِيلَةُ الصُّورَةِ. ألا تَرى أنَّهُ يَخْرُجُ الكافِرُ مِنَ المُؤْمِنِ والمُؤْمِنُ مِنَ الكافِرِ، والنُّورُ مِنَ الظُّلْمَةِ والظُّلْمَةُ مِنَ النُّورِ، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّ الفَضِيلَةَ لا تَحْصُلُ إلّا بِفَضْلِ اللَّهِ تَعالى لا بِسَبَبِ فَضِيلَةِ الأصْلِ والجَوْهَرِ.
وأيْضًا التَّكْلِيفُ إنَّما يَتَناوَلُ الحَيَّ بَعْدَ انْتِهائِهِ إلى حَدِّ كَمالِ العَقْلِ، فالمُعْتَبَرُ بِما انْتَهى إلَيْهِ لا بِما خُلِقَ مِنهُ، وأيْضًا فالفَضْلُ إنَّما يَكُونُ بِالأعْمالِ وما يَتَّصِلُ بِها لا بِسَبَبِ المادَّةِ. ألا تَرى أنَّ الحَبَشِيَّ المُؤْمِنَ مُفَضَّلٌ عَلى القُرَشِيِّ الكافِرِ.
* * *
(p-٢٩)المَسْألَةُ السّادِسَةُ: احْتَجَّ مَن قالَ: إنَّهُ لا يَجُوزُ تَخْصِيصُ عُمُومِ النَّصِّ بِالقِياسِ بِأنَّهُ لَوْ كانَ تَخْصِيصُ عُمُومِ النَّصِّ بِالقِياسِ جائِزًا لَما اسْتَوْجَبَ إبْلِيسُ هَذا الذَّمَّ الشَّدِيدَ والتَّوْبِيخَ العَظِيمَ، ولَمّا حَصَلَ ذَلِكَ دَلَّ عَلى أنَّ تَخْصِيصَ عُمُومِ النَّصِّ بِالقِياسِ لا يَجُوزُ، وبَيانُ المُلازَمَةِ أنَّ قَوْلَهُ تَعالى لِلْمَلائِكَةِ: ﴿اسْجُدُوا لِآدَمَ﴾ خِطابٌ عامٌّ يَتَناوَلُ جَمِيعَ المَلائِكَةِ. ثُمَّ إنَّ إبْلِيسَ أخْرَجَ نَفْسَهُ مِن هَذا العُمُومِ بِالقِياسِ. وهو أنَّهُ مَخْلُوقٌ مِنَ النّارِ، والنّارُ أشْرَفُ مِنَ الطِّينِ، ومَن كانَ أصْلُهُ أشْرَفَ فَهو أشْرَفُ، فَيَلْزَمُ كَوْنُ إبْلِيسَ أشْرَفَ مِن آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ، ومَن كانَ أشْرَفَ مِن غَيْرِهِ، فَإنَّهُ لا يَجُوزُ أنْ يُؤْمَرَ بِخِدْمَةِ الأدْوَنِ الأدْنى. والدَّلِيلُ عَلَيْهِ أنَّ هَذا الحُكْمَ ثابِتٌ في جَمِيعِ النَّظائِرِ، ولا مَعْنى لِلْقِياسِ إلّا ذَلِكَ، فَثَبَتَ أنَّ إبْلِيسَ ما عَمِلَ في هَذِهِ الواقِعَةِ شَيْئًا إلّا أنَّهُ خَصَّصَ عُمُومَ قَوْلِهِ تَعالى لِلْمَلائِكَةِ: ﴿اسْجُدُوا لِآدَمَ﴾ بِهَذا القِياسِ، فَلَوْ كانَ تَخْصِيصُ النَّصِّ بِالقِياسِ جائِزًا لَوَجَبَ أنْ لا يَسْتَحِقَّ إبْلِيسُ الذَّمَّ عَلى هَذا العَمَلِ: وحَيْثُ اسْتَحَقَّ الذَّمَّ الشَّدِيدَ عَلَيْهِ، عَلِمْنا أنَّ تَخْصِيصَ النَّصِّ بِالقِياسِ لا يَجُوزُ.
وأيْضًا فَفي الآيَةِ دَلالَةٌ عَلى صِحَّةِ هَذِهِ المَسْألَةِ مِن وجْهٍ آخَرَ، وذَلِكَ لِأنَّ إبْلِيسَ لَمّا ذَكَرَ هَذا القِياسَ قالَ تَعالى: ﴿فاهْبِطْ مِنها فَما يَكُونُ لَكَ أنْ تَتَكَبَّرَ فِيها﴾ فَوَصَفَ تَعالى إبْلِيسَ بِكَوْنِهِ مُتَكَبِّرًا بَعْدَ أنْ حَكى عَنْهُ ذَلِكَ القِياسَ الَّذِي يُوجِبُ تَخْصِيصَ النَّصِّ، وهَذا يَقْتَضِي أنَّ مَن حاوَلَ تَخْصِيصَ عُمُومِ النَّصِّ بِالقِياسِ تَكَبَّرَ عَلى اللَّهِ، ولَمّا دَلَّتْ هَذِهِ الآيَةُ عَلى أنَّ تَخْصِيصَ عُمُومِ النَّصِّ بِالقِياسِ تَكَبُّرٌ عَلى اللَّهِ، ودَلَّتْ هَذِهِ الآيَةُ عَلى أنَّ التَّكَبُّرَ عَلى اللَّهِ يُوجِبُ العِقابَ الشَّدِيدَ والإخْراجَ مِن زُمْرَةِ الأوْلِياءِ والإدْخالَ في زُمْرَةِ المَلْعُونِينَ، ثَبَتَ أنَّ تَخْصِيصَ النَّصِّ بِالقِياسِ لا يَجُوزُ. وهَذا هو المُرادُ مِمّا نَقَلَهُ الواحِدِيُّ في ”البَسِيطِ“، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ قالَ: كانَتِ الطّاعَةُ أوْلى بِإبْلِيسَ مِنَ القِياسِ، فَعَصى رَبَّهُ وقاسَ، وأوَّلُ مَن قاسَ إبْلِيسُ، فَكَفَرَ بِقِياسِهِ، فَمَن قاسَ الدِّينَ بِشَيْءٍ مِن رَأْيِهِ قَرَنَهُ اللَّهُ مَعَ إبْلِيسَ. هَذا جُمْلَةُ الألْفاظِ الَّتِي نَقَلَها الواحِدِيُّ في ”البَسِيطِ“ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ.
فَإنْ قِيلَ: القِياسُ الَّذِي يُبْطِلُ النَّصَّ بِالكُلِّيَّةِ باطِلٌ. أمّا القِياسُ الَّذِي يُخَصِّصُ النَّصَّ في بَعْضِ الصُّوَرِ، فَلِمَ قُلْتُمْ إنَّهُ باطِلٌ ؟
وتَقْرِيرُهُ أنَّهُ لَوْ قَبُحَ أمْرُ مَن كانَ مَخْلُوقًا مِنَ النّارِ بِالسُّجُودِ لِمَن كانَ مَخْلُوقًا مِنَ الأرْضِ، لَكانَ قُبْحُ أمْرِ مَن كانَ مَخْلُوقًا مِنَ النُّورِ المَحْضِ بِالسُّجُودِ لِمَن كانَ مَخْلُوقًا مِنَ الأرْضِ أوْلى وأقْوى، لِأنَّ النُّورَ أشْرَفُ مِنَ النّارِ، وهَذا القِياسُ يَقْتَضِي أنْ يَقْبُحَ أمْرُ أحَدٍ مِنَ المَلائِكَةِ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ، فَهَذا القِياسُ يَقْتَضِي رَفْعَ مَدْلُولِ النَّصِّ بِالكُلِّيَّةِ وأنَّهُ باطِلٌ.
وأمّا القِياسُ الَّذِي يَقْتَضِي تَخْصِيصَ مَدْلُولِ النَّصِّ العامِّ، لِمَ قُلْتُمْ: إنَّهُ باطِلٌ ؟ فَهَذا سُؤالٌ حَسَنٌ أوْرَدْتُهُ عَلى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ، وما رَأيْتُ أحَدًا ذَكَرَ هَذا السُّؤالَ ويُمْكِنُ أنْ يُجابَ عَنْهُ، فَيُقالُ: إنَّ كَوْنَهُ أشْرَفَ مِن غَيْرِهِ يَقْتَضِي قُبْحَ أمْرِ مَن لا يَرْضى أنْ يَلْجَأ إلى خِدْمَةِ الأدْنى الأدْوَنِ، أمّا لَوْ رَضِيَ ذَلِكَ الشَّرِيفُ بِتِلْكَ الخِدْمَةِ لَمْ يَقْبُحْ؛ لِأنَّهُ لا اعْتِراضَ عَلَيْهِ في أنَّهُ يُسْقِطُ حَقَّ نَفْسِهِ، أمّا المَلائِكَةُ فَقَدْ رَضُوا بِذَلِكَ، فَلا بَأْسَ بِهِ، وأمّا إبْلِيسُ فَإنَّهُ لَمْ يَرْضَ بِإسْقاطِ هَذا الحَقِّ، فَوَجَبَ أنْ يَقْبُحَ أمْرُهُ بِذَلِكَ السُّجُودِ، فَهَذا قِياسٌ مُناسِبٌ، وأنَّهُ يُوجِبُ تَخْصِيصَ النَّصِّ ولا يُوجِبُ رَفْعَهُ بِالكُلِّيَّةِ ولا إبْطالَهُ. فَلَوْ كانَ تَخْصِيصُ النَّصِّ بِالقِياسِ جائِزًا، لَما اسْتَوْجَبَ الذَّمَّ العَظِيمَ، فَلَمّا اسْتَوْجَبَ اسْتِحْقاقَ هَذا الذَّمِّ العَظِيمِ في حَقِّهِ عَلِمْنا أنَّ ذَلِكَ إنَّما كانَ لِأجْلِ أنَّ تَخْصِيصَ النَّصِّ بِالقِياسِ غَيْرُ جائِزٍ. واللَّهُ أعْلَمُ.
* * *
(p-٣٠)المَسْألَةُ السّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ما مَنَعَكَ ألّا تَسْجُدَ﴾ لا شَكَّ أنَّ قائِلَ هَذا القَوْلِ هو اللَّهُ؛ لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿إذْ أمَرْتُكَ﴾ لا يَلِيقُ إلّا بِاللَّهِ سُبْحانَهُ.
* * *
وأمّا قَوْلُهُ: ﴿خَلَقْتَنِي مِن نارٍ﴾ فَلا شَكَّ أنَّ قائِلَ هَذا القَوْلِ هو إبْلِيسُ.
* * *
وأمّا قَوْلُهُ: ﴿قالَ فاهْبِطْ مِنها﴾ فَلا شَكَّ أنَّ قائِلَ هَذا القَوْلِ هو اللَّهُ تَعالى، ومِثْلُ هَذِهِ المُناظَرَةِ بَيْنَ اللَّهِ سُبْحانَهُ وبَيْنَ إبْلِيسَ مَذْكُورٌ في سُورَةِ (ص) عَلى سَبِيلِ الِاسْتِقْصاءِ.
إذا ثَبَتَ هَذا فَنَقُولُ: إنَّهُ لَمْ يَتَّفِقْ لِأحَدٍ مِن أكابِرِ الأنْبِياءِ -عَلَيْهِمُ السَّلامُ- مُكالَمَةٌ مَعَ اللَّهِ مِثْلَ ما اتَّفَقَ لِإبْلِيسَ، وقَدْ عَظَّمَ اللَّهُ تَشْرِيفَ مُوسى بِأنْ كَلَّمَهُ حَيْثُ قالَ: ﴿ولَمّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وكَلَّمَهُ رَبُّهُ﴾ (الأعْرافِ: ١٤٣) وقالَ: ﴿وكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيمًا﴾ (النِّساءِ: ١٦٤) فَإنْ كانَتْ هَذِهِ المُكالَمَةُ تُفِيدُ الشَّرَفَ العَظِيمَ، فَكَيْفَ حَصَلَتْ عَلى أعْظَمِ الوُجُوهِ لِإبْلِيسَ ؟ وإنْ لَمْ تُوجِبِ الشَّرَفَ العَظِيمَ، فَكَيْفَ ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعالى في مَعْرِضِ التَّشْرِيفِ الكامِلِ لِمُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ ؟
والجَوابُ: أنَّ بَعْضَ العُلَماءِ قالَ: إنَّهُ تَعالى قالَ لِإبْلِيسَ عَلى لِسانِ مَن يُؤَدِّي إلَيْهِ مِنَ المَلائِكَةِ: ما مَنَعَكَ مِنَ السُّجُودِ ؟ ولَمْ يُسَلَّمْ أنَّهُ تَعالى تَكَلَّمَ مَعَ إبْلِيسَ بِلا واسِطَةٍ. قالُوا: لِأنَّهُ ثَبَتَ أنَّ غَيْرَ الأنْبِياءِ لا يُخاطِبُهُمُ اللَّهُ تَعالى إلّا بِواسِطَةٍ، ومِنهم مَن قالَ: إنَّهُ تَعالى تَكَلَّمَ مَعَ إبْلِيسَ بِلا واسِطَةٍ، ولَكِنْ عَلى وجْهِ الإهانَةِ بِدَلِيلِ أنَّهُ تَعالى قالَ لَهُ: ﴿فاخْرُجْ إنَّكَ مِنَ الصّاغِرِينَ﴾ وتَكَلَّمَ مَعَ مُوسى ومَعَ سائِرِ الأنْبِياءِ -عَلَيْهِمُ السَّلامُ- عَلى سَبِيلِ الإكْرامِ. ألا تَرى أنَّهُ تَعالى قالَ لِمُوسى: ﴿وأنا اخْتَرْتُكَ﴾ (طه: ١٣) وقالَ لَهُ ﴿واصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي﴾ (طه: ٤١) وهَذا نِهايَةُ الإكْرامِ.
المَسْألَةُ الثّامِنَةُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فاهْبِطْ مِنها﴾ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: يُرِيدُ مِنَ الجَنَّةِ، وكانُوا في جَنَّةِ عَدْنٍ وفِيها خُلِقَ آدَمُ. وقالَ بَعْضُ المُعْتَزِلَةِ: إنَّهُ إنَّما أُمِرَ بِالهُبُوطِ مِنَ السَّماءِ، وقَدِ اسْتَقْصَيْنا الكَلامَ في هَذِهِ المَسْألَةِ في سُورَةِ البَقَرَةِ: ﴿فَما يَكُونُ لَكَ أنْ تَتَكَبَّرَ فِيها﴾ أيْ في السَّماءِ. قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: يُرِيدُ أنْ أهْلَ السَّماواتِ مَلائِكَةٌ مُتَواضِعُونَ خاشِعُونَ فاخْرُجْ إنَّكَ مِنَ الصّاغِرِينَ، والصَّغارُ: الذِّلَّةُ. قالَ الزَّجّاجُ: إنَّ إبْلِيسَ طَلَبَ التَّكَبُّرَ فابْتَلاهُ اللَّهُ تَعالى بِالذِّلَّةِ والصَّغارِ تَنْبِيهًا عَلى صِحَّةِ ما قالَهُ النَّبِيُّ ﷺ: «مَن تَواضَعَ لِلَّهِ رَفَعَهُ اللَّهُ ومَن تَكَبَّرَ وضَعَهُ اللَّهُ» وقالَ بَعْضُهم: لَمّا أظْهَرَ الِاسْتِكْبارَ أُلْبِسَ الصَّغارَ. واللَّهُ أعْلَمُ.
{"ayahs_start":12,"ayahs":["قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسۡجُدَ إِذۡ أَمَرۡتُكَۖ قَالَ أَنَا۠ خَیۡرࣱ مِّنۡهُ خَلَقۡتَنِی مِن نَّارࣲ وَخَلَقۡتَهُۥ مِن طِینࣲ","قَالَ فَٱهۡبِطۡ مِنۡهَا فَمَا یَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِیهَا فَٱخۡرُجۡ إِنَّكَ مِنَ ٱلصَّـٰغِرِینَ"],"ayah":"قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسۡجُدَ إِذۡ أَمَرۡتُكَۖ قَالَ أَنَا۠ خَیۡرࣱ مِّنۡهُ خَلَقۡتَنِی مِن نَّارࣲ وَخَلَقۡتَهُۥ مِن طِینࣲ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق