الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وقالَ مُوسى يافِرْعَوْنُ إنِّي رَسُولٌ مِن رَبِّ العالَمِينَ﴾ ﴿حَقِيقٌ عَلى أنْ لا أقُولَ عَلى اللَّهِ إلّا الحَقَّ قَدْ جِئْتُكم بِبَيِّنَةٍ مِن رَبِّكم فَأرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إسْرائِيلَ﴾ ﴿قالَ إنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إنْ كُنْتَ مِنَ الصّادِقِينَ﴾ . فِي الآيَةِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: اعْلَمْ أنَّهُ كانَ يُقالُ لِمُلُوكِ مِصْرَ: الفَراعِنَةُ، كَما يُقالُ لِمُلُوكِ فارِسَ: الأكاسِرَةُ، فَكَأنَّهُ قالَ: يا مَلِكَ مِصْرَ، وكانَ اسْمُهُ قايُوسَ، وقِيلَ: الوَلِيدُ بْنُ مُصْعَبِ بْنِ الرَّيّانِ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قَوْلُهُ: ﴿إنِّي رَسُولٌ مِن رَبِّ العالَمِينَ﴾ فِيهِ إشارَةٌ إلى ما يَدُلُّ عَلى وُجُودِ الإلَهِ تَعالى، فَإنَّ قَوْلَهُ: ﴿رَبِّ العالَمِينَ﴾ يَدُلُّ عَلى أنَّ العالَمَ مَوْصُوفٌ بِصِفاتٍ لِأجْلِها افْتَقَرَ إلى رَبٍّ يُرَبِّيهِ وإلَهٍ يُوجِدُهُ ويَخْلُقُهُ. * * * ثُمَّ قالَ: ﴿حَقِيقٌ عَلى أنْ لا أقُولَ عَلى اللَّهِ إلّا الحَقَّ﴾ والمَعْنى أنَّ الرَّسُولَ لا يَقُولُ إلّا الحَقَّ، فَصارَ نَظْمُ الكَلامِ كَأنَّهُ قالَ: أنا رَسُولُ اللَّهِ، ورَسُولُ اللَّهِ لا يَقُولُ إلّا الحَقَّ، يَنْتِجُ أنِّي لا أقُولُ إلّا الحَقَّ، ولَمّا كانَتِ المُقَدِّمَةُ الأوْلى خَفِيَّةً، وكانَتِ المُقْدِّمَةُ الثّانِيَةُ جَلِيَّةً ظاهِرَةً - ذَكَرَ ما يَدُلُّ عَلى صِحَّةِ المُقَدِّمَةِ الأُولى، وهو قَوْلُهُ: ﴿قَدْ جِئْتُكم بِبَيِّنَةٍ مِن رَبِّكُمْ﴾ وهي المُعْجِزَةُ الظّاهِرَةُ القاهِرَةُ، ولَمّا قَرَّرَ رِسالَةَ نَفْسِهِ فَرَّعَ عَلَيْهِ تَبْلِيغَ الحُكْمِ، وهو قَوْلُهُ: ﴿فَأرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إسْرائِيلَ﴾ ولَمّا سَمِعَ فِرْعَوْنُ هَذا الكَلامَ قالَ: ﴿إنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إنْ كُنْتَ مِنَ الصّادِقِينَ﴾ واعْلَمْ أنَّ دَلِيلَ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ كانَ مَبْنِيًّا عَلى مُقَدِّماتٍ: إحْداها: أنَّ لِهَذا العالَمِ إلَهًا (p-١٥٦)قادِرًا عالِمًا حَكِيمًا. والثّانِيَةُ: أنَّهُ أرْسَلَهُ إلَيْهِمْ بِدَلِيلِ أنَّهُ أظْهَرَ المُعْجِزَ عَلى وفْقِ دَعْواهُ، ومَتى كانَ الأمْرُ كَذَلِكَ، وجَبَ أنْ يَكُونَ رَسُولًا حَقًّا. والثّالِثَةُ: أنَّهُ مَتى كانَ الأمْرُ كَذَلِكَ كانَ كُلُّ ما يُبَلِّغُهُ مِنَ اللَّهِ إلَيْهِمْ فَهو حَقٌّ وصِدْقٌ. ثُمَّ إنَّ فِرْعَوْنَ ما نازَعَهُ في شَيْءٍ مِن هَذِهِ المُقَدِّماتِ إلّا في طَلَبِ المُعْجِزَةِ، وهَذا يُوهِمُ أنَّهُ كانَ مُساعِدًا عَلى صِحَّةِ سائِرِ المُقَدِّماتِ، وقَدْ ذَكَرْنا في سُورَةِ طه أنَّ العُلَماءَ اخْتَلَفُوا في أنَّ فِرْعَوْنَ هَلْ كانَ عارِفًا بِرَبِّهِ أمْ لا ؟ ولِمُجِيبٍ أنْ يُجِيبَ فَيَقُولَ: إنَّ ظُهُورَ المُعْجِزَةِ يَدُلُّ أوَّلًا عَلى وُجُودِ الإلَهِ القادِرِ المُخْتارِ، وثانِيًا عَلى أنَّ الإلَهَ جَعَلَهُ قائِمًا مَقامَ تَصْدِيقِ ذَلِكَ الرَّسُولِ، فَلَعَلَّ فِرْعَوْنَ كانَ جاهِلًا بِوُجُودِ الإلَهِ القادِرِ المُخْتارِ وطَلَبَ مِنهُ إظْهارَ تِلْكَ البَيِّنَةِ، حَتّى إنَّهُ إنْ أظْهَرَها وأتى بِها كانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلى وُجُودِ الإلَهِ أوَّلًا وعَلى صِحَّةِ نُبُوَّتِهِ ثانِيًا، وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ لا يَلْزَمُ مِنَ اقْتِصارِ فِرْعَوْنَ عَلى طَلَبِ البَيِّنَةِ كَوْنُهُ مُقِرًّا بِوُجُودِ الإلَهِ الفاعِلِ المُخْتارِ. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: قَرَأ نافِعٌ ”حَقِيقٌ عَلَيَّ“ مُشَدَّدَ الياءِ، والباقُونَ بِسُكُونِ الياءِ والتَّخْفِيفِ. أمّا قِراءَةُ نافِعٍ ”فَحَقِيقٌ“ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ بِمَعْنى فاعِلٍ. قالَ اللَّيْثُ: حَقَّ الشَّيْءُ، مَعْناهُ وجَبَ، ويَحِقُّ عَلَيْكَ أنْ تَفْعَلَ كَذا، وحَقِيقٌ عَلَيَّ أنْ أفْعَلَهُ، بِمَعْنى فاعِلٍ، والمَعْنى: واجِبٌ عَلَيَّ تَرْكُ القَوْلِ عَلى اللَّهِ إلّا بِالحَقِّ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ بِمَعْنى مَفْعُولٍ، وُضِعَ فَعِيلٌ في مَوْضِعِ مَفْعُولٍ، تَقُولُ العَرَبُ: حَقٌّ عَلَيَّ أنْ أفْعَلَ كَذا، وإنِّي لَمَحْقُوقٌ عَلَيَّ أنْ أفْعَلَ خَيْرًا، أيْ حَقٌّ عَلَيَّ ذَلِكَ، بِمَعْنى اسْتَحَقَّ. إذا عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ: حُجَّةُ نافِعٍ في تَشْدِيدِ الياءِ أنَّ حَقَّ يَتَعَدّى بِعَلى، قالَ تَعالى: ﴿فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا﴾ [الصافات: ٣١] وقالَ: ﴿فَحَقَّ عَلَيْها القَوْلُ﴾ [الإسراء: ١٦] فَحَقِيقٌ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ مَوْصُولًا بِحَرْفِ ”عَلى“ مَن هَذا الوَجْهِ، وأيْضًا فَإنَّ قَوْلَهُ: ﴿حَقِيقٌ﴾ بِمَعْنى واجِبٍ، فَكَما أنَّ ”وجَبَ“ يَتَعَدّى بِعَلى، كَذَلِكَ ”حَقِيقٌ“ إنْ أُرِيدَ بِهِ ”وجَبَ“ يَتَعَدّى بِعَلى. وأمّا قِراءَةُ العامَّةِ ﴿حَقِيقٌ عَلى﴾ بِسُكُونِ الياءِ، فَفِيهِ وُجُوهٌ: الأوَّلُ: أنَّ العَرَبَ تَجْعَلُ الباءَ في مَوْضِعِ ”عَلى“ تَقُولُ: رَمَيْتَ عَلى القَوْسِ وبِالقَوْسِ، وجِئْتُ عَلى حالٍ حَسَنَةٍ، وبِحالٍ حَسَنَةٍ. قالَ الأخْفَشُ: وهَذا كَما قالَ: ﴿ولا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ﴾ [الأعراف: ٨٦] فَكَما وقَعَتِ الباءُ في قَوْلِهِ: ﴿بِكُلِّ صِراطٍ﴾ مَوْضِعَ ”عَلى“ كَذَلِكَ وقَعَتْ كَلِمَةُ ”عَلى“ مَوْقِعَ الباءِ في قَوْلِهِ: ﴿حَقِيقٌ عَلى أنْ لا أقُولَ﴾ يُؤَكِّدُ هَذا الوَجْهَ قِراءَةُ عَبْدِ اللَّهِ ”حَقِيقٌ بِأنْ لا أقُولَ“ وعَلى هَذِهِ القِراءَةِ فالتَّقْدِيرُ: أنا حَقِيقٌ بِأنْ لا أقُولَ، وعَلى قِراءَةِ نافِعٍ يَرْتَفِعُ بِالِابْتِداءِ، وخَبَرُهُ ﴿أنْ لا أقُولَ﴾ . الثّانِي: أنَّ الحَقَّ هو الثّابِتُ الدّائِمُ، والحَقِيقُ مُبالَغَةٌ فِيهِ، وكانَ المَعْنى: أنا ثابِتٌ مُسْتَمِرٌّ عَلى أنْ لا أقُولَ إلّا الحَقَّ. الثّالِثُ: الحَقِيقُ هَهُنا بِمَعْنى المَحْقُوقِ، وهو مِن قَوْلِكَ: حَقَقْتُ الرَّجُلَ إذا ما تَحَقَّقْتَهُ وعَرَفْتَهُ عَلى يَقِينٍ، ولَفْظَةُ ”عَلى“ هَهُنا هي الَّتِي تُقْرَنُ بِالأوْصافِ اللّازِمَةِ الأصْلِيَّةِ، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها﴾ [الروم: ٣٠] وتَقُولُ: جاءَنِي فُلانٌ عَلى هَيْئَتِهِ وعادَتِهِ، وعَرَفْتُهُ وتَحَقَّقْتُهُ عَلى كَذا وكَذا مِنَ الصِّفاتِ، فَمَعْنى الآيَةِ: إنِّي لَمْ أعْرِفْ ولَمْ أتَحَقَّقْ إلّا عَلى قَوْلِ الحَقِّ. واللَّهُ أعْلَمُ. أمّا قَوْلُهُ: ﴿فَأرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إسْرائِيلَ﴾ أيْ أطْلِقْ عَنْهم وخَلِّهِمْ، وكانَ فِرْعَوْنُ قَدِ اسْتَخْدَمَهم في الأعْمالِ الشّاقَّةِ، مِثْلِ ضَرْبِ اللَّبَنِ ونَقْلِ التُّرابِ، فَعِنْدَ هَذا الكَلامِ قالَ فِرْعَوْنُ: ﴿إنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إنْ كُنْتَ مِنَ الصّادِقِينَ﴾ وفِيهِ بَحْثانِ: البَحْثُ الأوَّلُ: أنَّ لِقائِلٍ أنْ يَقُولَ: كَيْفَ قالَ لَهُ: ﴿فَأْتِ بِها﴾ بَعْدَ قَوْلِهِ: ﴿قالَ إنْ كُنْتَ جِئْتَ﴾ ؟ (p-١٥٧)وجَوابُهُ: إنْ كُنْتَ جِئْتَ مِن عِنْدِ مَن أرْسَلَكَ بِآيَةٍ فَأْتِنِي بِها وأحْضِرْها عِنْدِي؛ لِيَصِحَّ دَعْواكَ ويَثْبُتُ صِدْقُكَ. والبَحْثُ الثّانِي: أنَّ قَوْلَهُ: ﴿قالَ إنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إنْ كُنْتَ مِنَ الصّادِقِينَ﴾ جَزاءٌ وقَعَ بَيْنَ شَرْطَيْنِ، فَكَيْفَ حُكْمُهُ ؟ وجَوابُهُ أنَّ نَظِيرَهُ قَوْلُهُ: إنْ دَخَلْتِ الدّارَ فَأنْتِ طالِقٌ إنْ كَلَّمْتِ زَيْدًا. وهَهُنا المُؤَخَّرُ في اللَّفْظِ يَكُونُ مُتَقَدِّمًا في المَعْنى، وقَدْ سَبَقَ تَقْرِيرُ هَذا المَعْنى فِيما تَقَدَّمَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب