الباحث القرآني

ثُمَّ بَيَّنَ تَعالى عاقِبَةَ أمْرِهِ فَقالَ: ﴿فَهُوَ في عِيشَةٍ راضِيَةٍ﴾ وفِيهِ مَسْألَتانِ: المَسْألَةُ الأُولى: وصْفُ العِيشَةِ بِأنَّها راضِيَةٌ فِيهِ وجْهانِ: الأوَّلُ: المَعْنى أنَّها مَنسُوبَةٌ إلى الرِّضا كالدّارِعِ والنّابِلِ، والنِّسْبَةُ نِسْبَتانِ؛ نِسْبَةٌ بِالحُرُوفِ ونِسْبَةٌ بِالصِّيغَةِ. والثّانِي: أنَّهُ جَعَلَ الرِّضا لِلْعِيشَةِ مَجازًا مَعَ أنَّهُ صاحِبُ العِيشَةِ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: ذَكَرُوا في حَدِّ الثَّوابِ أنَّهُ لا بُدَّ وأنْ يَكُونَ مَنفَعَةً، ولا بُدَّ وأنْ تَكُونَ خالِصَةً عَنِ الشَّوائِبِ، ولا بُدَّ وأنْ تَكُونَ دائِمَةً، ولا بُدَّ وأنْ تَكُونَ مَقْرُونَةً بِالتَّعْظِيمِ، فالمَعْنى إنَّما يَكُونُ مَرْضِيًّا بِهِ مِن جَمِيعِ الجِهاتِ لَوْ كانَ مُشْتَمِلًا عَلى هَذِهِ الصِّفاتِ، فَقَوْلُهُ: ﴿عِيشَةٍ راضِيَةٍ﴾ كَلِمَةٌ حاوِيَةٌ لِمَجْمُوعِ هَذِهِ الشَّرائِطِ الَّتِي ذَكَرْناها. * * * ثُمَّ قالَ: ﴿فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ﴾ وهو أنَّ مَن صارَ في ﴿عِيشَةٍ راضِيَةٍ﴾ أيْ: يَعِيشُ عَيْشًا مَرْضِيًّا في جَنَّةٍ عالِيَةٍ، والعُلُوُّ إنْ أُرِيدَ بِهِ العُلُوُّ في المَكانِ فَهو حاصِلٌ؛ لِأنَّ الجَنَّةَ فَوْقَ السَّماواتِ، فَإنْ قِيلَ: ألَيْسَ أنَّ مَنازِلَ البَعْضِ فَوْقَ مَنازِلِ الآخَرِينَ، فَهَؤُلاءِ السّافِلُونَ لا يَكُونُونَ في الجَنَّةِ العالِيَةِ، قُلْنا: إنَّ كَوْنَ بَعْضِها دُونَ بَعْضٍ لا يَقْدَحُ في كَوْنِها عالِيَةً وفَوْقَ السَّماواتِ، وإنْ أُرِيدَ العُلُوُّ في الدَّرَجَةِ والشَّرَفِ فالأمْرُ كَذَلِكَ، وإنْ أُرِيدَ بِهِ كَوْنُ تِلْكَ الأبْنِيَةِ عالِيَةً مُشْرِفَةً فالأمْرُ أيْضًا كَذَلِكَ. * * * ثُمَّ قالَ: ﴿قُطُوفُها دانِيَةٌ﴾ أيْ: ثِمارُها قَرِيبَةُ التَّناوُلِ، يَأْخُذُها الرَّجُلُ كَما يُرِيدُ إنْ أحَبَّ أنْ يَأْخُذَها بِيَدِهِ انْقادَتْ لَهُ، قائِمًا كانَ أوْ جالِسًا أوْ مُضْطَجِعًا. وإنْ أحَبَّ أنْ تَدْنُوَ إلى فِيهِ دَنَتْ، والقُطُوفُ جَمْعُ قِطْفٍ وهو المَقْطُوفُ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿كُلُوا واشْرَبُوا هَنِيئًا بِما أسْلَفْتُمْ في الأيّامِ الخالِيَةِ﴾ والمَعْنى يُقالُ لَهم ذَلِكَ وفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: مِنهم مَن قالَ: قَوْلُهُ: ﴿كُلُوا﴾ لَيْسَ بِأمْرِ إيجابٍ ولا نَدْبٍ؛ لِأنَّ الآخِرَةَ لَيْسَتْ دارَ تَكْلِيفٍ، ومِنهم مَن قالَ: لا يَبْعُدُ أنْ يَكُونَ نَدْبًا، إذا كانَ الغَرَضُ مِنهُ تَعْظِيمَ ذَلِكَ الإنْسانِ وإدْخالَ السُّرُورِ في قَلْبِهِ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: إنَّما جَمَعَ الخِطابَ في قَوْلِهِ: ”كُلُوا“ بَعْدَ قَوْلِهِ ”فَهو في عِيشَةٍ“؛ لِقَوْلِهِ: ﴿فَأمّا مَن أُوتِيَ﴾ ومَن مُضَمَّنٌ مَعْنى الجَمْعِ. (p-١٠٠)المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: قَوْلُهُ: ﴿بِما أسْلَفْتُمْ﴾ أيْ: قَدَّمْتُمْ مِنَ أعْمالِكُمُ الصّالِحَةِ، ومَعْنى الإسْلافِ في اللُّغَةِ تَقْدِيمُ ما تَرْجُو أنْ يَعُودَ عَلَيْكَ بِخَيْرٍ، فَهو كالإقْراضِ. ومِنهُ يُقالُ: أسْلَفَ في كَذا إذا قَدَّمَ فِيهِ مالَهُ، والمَعْنى بِما عَمِلْتُمْ مِنَ الأعْمالِ الصّالِحَةِ. و﴿الأيّامِ الخالِيَةِ﴾، المُرادُ مِنها أيّامُ الدُّنْيا، والخالِيَةُ الماضِيَةُ، ومِنهُ قَوْلُهُ: ﴿وقَدْ خَلَتِ القُرُونُ مِن قَبْلِي﴾ [الأحْقافِ: ١٧] و﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ﴾ [البَقَرَةِ: ١٣٤] وقالَ الكَلْبِيُّ: ﴿بِما أسْلَفْتُمْ﴾ يَعْنِي الصَّوْمَ، وذَلِكَ أنَّهم لَمّا أُمِرُوا بِالأكْلِ والشُّرْبِ، دَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّهُ لِمَنِ امْتَنَعَ في الدُّنْيا عَنْهُ بِالصَّوْمِ؛ طاعَةً لِلَّهِ تَعالى. المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: قَوْلُهُ: ﴿بِما أسْلَفْتُمْ﴾ يَدُلُّ عَلى أنَّهم إنَّما اسْتَحَقُّوا ذَلِكَ الثَّوابَ بِسَبَبِ عَمَلِهِمْ، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّ العَمَلَ مُوجِبٌ لِلثَّوابِ، وأيْضًا لَوْ كانَتِ الطّاعاتُ لِلَّهِ تَعالى لَكانَ قَدْ أعْطى الإنْسانَ ثَوابًا لا عَلى فِعْلٍ فَعَلَهُ الإنْسانُ، وذَلِكَ مُحالٌ وجَوابُهُ مَعْلُومٌ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب