الباحث القرآني

ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿إنْ تَتُوبا إلى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وإنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإنَّ اللَّهَ هو مَوْلاهُ وجِبْرِيلُ وصالِحُ المُؤْمِنِينَ والمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ﴾ ﴿عَسى رَبُّهُ إنْ طَلَّقَكُنَّ أنْ يُبْدِلَهُ أزْواجًا خَيْرًا مِنكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وأبْكارًا﴾ (p-٤٠)قَوْلُهُ: ﴿إنْ تَتُوبا إلى اللَّهِ﴾ خِطابٌ لِعائِشَةَ وحَفْصَةَ عَلى طَرِيقَةِ الِالتِفاتِ لِيَكُونَ أبْلَغَ في مُعاتَبَتِهِما والتَّوْبَةِ مِنَ التَّعاوُنِ عَلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِالإيذاءِ ﴿فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما﴾ أيْ عَدَلَتْ ومالَتْ عَنِ الحَقِّ، وهو حَقُّ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، وذَلِكَ حَقٌّ عَظِيمٌ يُوجَدُ فِيهِ اسْتِحْقاقُ العِتابِ بِأدْنى تَقْصِيرٍ، وجَوابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ لِلْعِلْمِ بِهِ عَلى تَقْدِيرِ: كانَ خَيْرًا لَكُما، والمُرادُ بِالجَمْعِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿قُلُوبُكُما﴾ التَّثْنِيَةُ، قالَ الفَرّاءُ: وإنَّما اخْتِيرَ الجَمْعُ عَلى التَّثْنِيَةِ؛ لِأنَّ أكْثَرَ ما يَكُونُ عَلَيْهِ الجَوارِحُ اثْنانِ اثْنانِ في الإنْسانِ كاليَدَيْنِ والرِّجْلَيْنِ والعَيْنَيْنِ، فَلَمّا جَرى أكْثَرُهُ عَلى ذَلِكَ ذُهِبَ بِالواحِدِ مِنهُ إذا أُضِيفَ إلى اثْنَيْنِ مَذْهَبُ الِاثْنَيْنِ، وقَدْ مَرَّ هَذا، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وإنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ﴾ أيْ وإنْ تَعاوَنا عَلى النَّبِيِّ ﷺ بِالإيذاءِ: ﴿فَإنَّ اللَّهَ هو مَوْلاهُ﴾ أيْ لَمْ يَضُرَّهُ ذَلِكَ التَّظاهُرُ مِنكُما و(مَوْلاهُ) أيْ ولِيُّهُ وناصِرُهُ (وجِبْرِيلُ) رَأْسُ الكَرُوبِيِّينَ، قَرَنَ ذِكْرَهُ بِذِكْرِهِ مُفْرِدًا لَهُ مِنَ المَلائِكَةِ تَعْظِيمًا لَهُ وإظْهارًا لِمَكانَتِهِ ﴿وصالِحُ المُؤْمِنِينَ﴾ . قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: يُرِيدُ أبا بَكْرٍ وعُمَرَ مُوالِيَيْنِ النَّبِيَّ ﷺ عَلى مَن عاداهُ، وناصِرَيْنِ لَهُ، وهو قَوْلُ المُقاتِلِينَ، وقالَ الضَّحّاكُ: خِيارُ المُؤْمِنِينَ، وقِيلَ: مَن صَلَحَ مِنَ المُؤْمِنِينَ، أيْ كُلُّ مَن آمَنَ وعَمِلَ صالِحًا، وقِيلَ: مَن بَرِئَ مِنهم مِنَ النِّفاقِ، وقِيلَ: الأنْبِياءُ كُلُّهم، وقِيلَ: الخُلَفاءُ وقِيلَ: الصَّحابَةُ، وصالِحُ هَهُنا يَنُوبُ عَنِ الجَمْعِ، ويَجُوزُ أنْ يُرادَ بِهِ الواحِدُ والجَمْعُ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿والمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ﴾ أيْ بَعْدَ حَضْرَةِ اللَّهِ وجِبْرِيلَ وصالِحِ المُؤْمِنِينَ (ظَهِيرٌ) أيْ فَوْجٌ مَظاهِرٌ لِلنَّبِيِّ ﷺ، وأعْوانٌ لَهُ وظَهِيرٌ في مَعْنى الظُّهَراءِ، كَقَوْلِهِ: ﴿وحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا﴾ (النِّساءِ: ٦٩) قالَ الفَرّاءُ: والمَلائِكَةُ بَعْدَ نُصْرَةِ هَؤُلاءِ ظَهِيرٌ، قالَ أبُو عَلِيٍّ: وقَدْ جاءَ فَعِيلٌ مُفْرَدًا يُرادُ بِهِ الكَثْرَةُ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولا يَسْألُ حَمِيمٌ حَمِيمًا﴾ ﴿يُبَصَّرُونَهُمْ﴾ (المَعارِجِ: ١٠، ١١) ثُمَّ خَوَّفَ نِساءَهُ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿عَسى رَبُّهُ إنْ طَلَّقَكُنَّ أنْ يُبْدِلَهُ أزْواجًا خَيْرًا مِنكُنَّ﴾ قالَ المُفَسِّرُونَ: عَسى مِنَ اللَّهِ واجِبٌ، وقَرَأ أهْلُ الكُوفَةِ ﴿أنْ يُبْدِلَهُ﴾ بِالتَّخْفِيفِ، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى كانَ عالِمًا أنَّهُ لا يُطَلِّقُهُنَّ لَكِنْ أخْبَرَ عَنْ قُدْرَتِهِ أنَّهُ إنْ طَلَّقَهُنَّ أبْدَلَهُ خَيْرًا مِنهُنَّ تَخْوِيفًا لَهُنَّ، والأكْثَرُ في قَوْلِهِ: ﴿طَلَّقَكُنَّ﴾ الإظْهارُ، وعَنْ أبِي عَمْرٍو إدْغامُ القافِ في الكافِ؛ لِأنَّهُما مِن حُرُوفِ الفَمِ، ثُمَّ وصَفَ الأزْواجَ اللّاتِي كانَ يُبْدِلُهُ فَقالَ: ﴿مُسْلِماتٍ﴾ أيْ خاضِعاتٍ لِلَّهِ بِالطّاعَةِ ﴿مُؤْمِناتٍ﴾ مُصَدِّقاتٍ بِتَوْحِيدِ اللَّهِ تَعالى مُخْلِصاتٍ ﴿قانِتاتٍ﴾ طائِعاتٍ، وقِيلَ: قائِماتٍ بِاللَّيْلِ لِلصَّلاةِ، وهَذا أشْبَهُ؛ لِأنَّهُ ذَكَرَ السّائِحاتِ بَعْدَ هَذا والسّائِحاتُ الصّائِماتُ، فَلَزِمَ أنْ يَكُونَ قِيامُ اللَّيْلِ مَعَ صِيامِ النَّهارِ، وقُرِئَ (سَيِّحاتٍ)، وهي أبْلَغُ وقِيلَ لِلصّائِمِ: سائِحٌ لِأنَّ السّائِحَ لا زادَ مَعَهُ، فَلا يَزالُ مُمْسِكًا إلى أنْ يَجِدَ مَن يُطْعِمُهُ فَشُبِّهَ بِالصّائِمِ الَّذِي يُمْسِكُ إلى أنْ يَجِيءَ وقْتُ إفْطارِهِ، وقِيلَ: سائِحاتٍ: مُهاجِراتٍ، ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ثَيِّباتٍ وأبْكارًا﴾؛ لِأنَّ أزْواجَ النَّبِيِّ ﷺ في الدُّنْيا والآخِرَةِ بَعْضُها مِنَ الثَّيِّبِ وبَعْضُها مِنَ الأبْكارِ، فالذِّكْرُ عَلى حَسَبِ ما وقَعَ، وفِيهِ إشارَةٌ إلى أنَّ تَزَوُّجَ النَّبِيِّ ﷺ لَيْسَ عَلى حَسَبِ الشَّهْوَةِ والرَّغْبَةِ، بَلْ عَلى حَسَبِ ابْتِغاءِ مَرْضاتِ اللَّهِ تَعالى وفي الآيَةِ مَباحِثُ: البَحْثُ الأوَّلُ: قَوْلُهُ ﴿بَعْدَ ذَلِكَ﴾ تَعْظِيمٌ لِلْمَلائِكَةِ ومُظاهَرَتِهِمْ، وقُرِئَ (تَظاهَرا) و(تَتَظاهَرا) و(تَظْهَرا) . البَحْثُ الثّانِي: كَيْفَ يَكُونُ المُبْدَلاتُ خَيْرًا مِنهُنَّ، ولَمْ يَكُنْ عَلى وجْهِ الأرْضِ نِساءٌ خَيْرٌ مِن أُمَّهاتِ المُؤْمِنِينَ ؟ نَقُولُ: إذا طَلَّقَهُنَّ الرَّسُولُ لِعِصْيانِهِنَّ لَهُ، وإيذائِهِنَّ إيّاهُ لَمْ يَبْقِينَ عَلى تِلْكَ الصِّفَةِ، وكانَ غَيْرُهُنَّ مِنَ المَوْصُوفاتِ بِهَذِهِ الأوْصافِ مَعَ الطّاعَةِ لِرَسُولِ اللَّهِ خَيْرًا مِنهُنَّ. (p-٤١) البَحْثُ الثّالِثُ: قَوْلُهُ: ﴿مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ﴾ يُوهِمُ التَّكْرارَ، والمُسْلِماتُ والمُؤْمِناتُ عَلى السَّواءِ ؟ نَقُولُ: الإسْلامُ هو التَّصْدِيقُ بِاللِّسانِ والإيمانُ هو التَّصْدِيقُ بِالقَلْبِ، وقَدْ لا يَتَوافَقانِ فَقَوْلُهُ: ﴿مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ﴾ تَحْقِيقٌ لِلتَّصْدِيقِ بِالقَلْبِ واللِّسانِ. البَحْثُ الرّابِعُ: قالَ تَعالى: ﴿ثَيِّباتٍ وأبْكارًا﴾ بِواوِ العَطْفِ، ولَمْ يَقُلْ: فِيما عَداهُما بِواوِ العَطْفِ، نَقُولُ: قالَ في ”الكَشّافِ“: إنَّها صِفَتانِ مُتَنافِيَتانِ، لا يَجْتَمِعْنَ فِيهِما اجْتِماعَهُنَّ في سائِرِ الصِّفاتِ. البَحْثُ الخامِسُ: ذَكَرَ الثَّيِّباتِ في مَقامِ المَدْحِ وهي مِن جُمْلَةِ ما يُقَلِّلُ رَغْبَةَ الرِّجالِ إلَيْهِنَّ. نَقُولُ: يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ البَعْضُ مِنَ الثَّيِّبِ خَيْرًا بِالنِّسْبَةِ إلى البَعْضِ مِنَ الأبْكارِ عِنْدَ الرَّسُولِ لِاخْتِصاصِهِنَّ بِالمالِ والجَمالِ، أوِ النَّسَبِ، أوِ المَجْمُوعِ مَثَلًا، وإذا كانَ كَذَلِكَ فَلا يَقْدَحُ ذِكْرُ الثَّيِّبِ في المَدْحِ لِجَوازِ أنْ يَكُونَ المُرادُ مِثْلَ ما ذَكَرْناهُ مِنَ الثَّيِّبِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب