الباحث القرآني
(p-٣١)
﴿ويَرْزُقْهُ مِن حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ ومَن يَتَوَكَّلْ عَلى اللَّهِ فَهو حَسْبُهُ إنَّ اللَّهَ بالِغُ أمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا﴾
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿فَإذا بَلَغْنَ أجَلَهُنَّ فَأمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وأشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنكم وأقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ذَلِكم يُوعَظُ بِهِ مَن كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ ومَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا﴾ ﴿ويَرْزُقْهُ مِن حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ ومَن يَتَوَكَّلْ عَلى اللَّهِ فَهو حَسْبُهُ إنَّ اللَّهَ بالِغُ أمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا﴾
﴿فَإذا بَلَغْنَ أجَلَهُنَّ﴾ أيْ قارَبْنَ انْقِضاءَ أجَلِ العِدَّةِ لا انْقِضاءَ أجَلِهِنَّ، والمُرادُ مِن بُلُوغِ الأجَلِ هُنا مُقارَبَةُ البُلُوغِ، وقَدْ مَرَّ تَفْسِيرُهُ. قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: هو آخِرُ العِدَّةِ ومُشارَفَتُهُ، فَأنْتُمْ بِالخِيارِ إنْ شِئْتُمْ فالرَّجْعَةُ والإمْساكُ بِالمَعْرُوفِ، وإنْ شِئْتُمْ فَتَرْكُ الرَّجْعَةِ والمُفارَقَةُ، وإبْقاءُ الضِّرارِ، وهو أنْ يُراجِعَها في آخِرِ العِدَّةِ، ثُمَّ يُطَلِّقَها تَطْوِيلًا لِلْعِدَّةِ وتَعْذِيبًا لَها.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وأشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنكُمْ﴾ أيْ أُمِرُوا أنْ يُشْهِدُوا عِنْدَ الطَّلاقِ وعِنْدَ الرَّجْعَةِ ذَوَيْ عَدْلٍ، وهَذا الإشْهادُ مَندُوبٌ إلَيْهِ عِنْدَ أبِي حَنِيفَةَ كَما في قَوْلِهِ: ﴿وأشْهِدُوا إذا تَبايَعْتُمْ﴾ (البَقَرَةِ: ٢٨٢) وعِنْدَ الشّافِعِيِّ هو واجِبٌ في الرَّجْعَةِ مَندُوبٌ إلَيْهِ في الفُرْقَةِ، وقِيلَ: فائِدَةُ الإشْهادِ أنْ لا يَقَعَ بَيْنَهُما التَّجاحُدُ، وأنْ لا يُتَّهَمَ في إمْساكِها، ولِئَلّا يَمُوتَ أحَدُهُما فَيَدَّعِيَ الباقِي ثُبُوتَ الزَّوْجِيَّةِ لِيَرِثَ، وقِيلَ: الإشْهادُ إنَّما أُمِرُوا بِهِ لِلِاحْتِياطِ مَخافَةَ أنْ تُنْكِرَ المَرْأةُ المُراجَعَةَ فَتَنْقَضِيَ العِدَّةُ فَتَنْكِحَ زَوْجًا. ثُمَّ خاطَبَ الشُّهَداءَ فَقالَ: ﴿وأقِيمُوا الشَّهادَةَ﴾ وهَذا أيْضًا مَرَّ تَفْسِيرُهُ.
وقَوْلُهُ: ﴿ومَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا﴾ قالَ الشَّعْبِيُّ: مَن يُطَلِّقْ لِلْعِدَّةِ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ سَبِيلًا إلى الرَّجْعَةِ، وقالَ غَيْرُهُ: مَخْرَجًا مِن كُلِّ أمْرٍ ضاقَ عَلى النّاسِ، قالَ الكَلْبِيُّ: ومَن يَصْبِرْ عَلى المُصِيبَةِ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ مَخْرَجًا مِنَ النّارِ إلى الجَنَّةِ، «وقَرَأها النَّبِيُّ ﷺ فَقالَ: مَخْرَجًا مِن شُبُهاتِ الدُّنْيا ومِن غَمَراتِ المَوْتِ، ومِن شَدائِدِ يَوْمِ القِيامَةِ»، وقالَ أكْثَرُ أهْلِ التَّفْسِيرِ: «أُنْزِلَ هَذا وما بَعْدَهُ في عَوْفِ بْنِ مالِكٍ الأشْجَعِيِّ أسَرَ العَدُوُّ ابْنًا لَهُ، فَأتى النَّبِيَّ ﷺ، وذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ وشَكا إلَيْهِ الفاقَةَ، فَقالَ لَهُ: ”اتَّقِ اللَّهَ واصْبِرْ وأكْثِرْ مِن قَوْلِ: لا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلّا بِاللَّهِ“ فَفَعَلَ الرَّجُلُ ذَلِكَ، فَبَيْنَما هو في بَيْتِهِ إذْ أتاهُ ابْنُهُ، وقَدْ غَفَلَ عَنْهُ العَدُوُّ، فَأصابَ إبِلًا وجاءَ بِها إلى أبِيهِ»، وقالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: فَبَيْنا هو في بَيْتِهِ، إذْ قَرَعَ ابْنُهُ البابَ ومَعَهُ مِائَةٌ مِنَ الإبِلِ غَفَلَ عَنْها العَدُوُّ فاسْتاقَها، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿ويَرْزُقْهُ مِن حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ﴾ ويَجُوزُ أنَّهُ إنِ اتَّقى اللَّهَ وآثَرَ الحَلالَ والصَّبْرَ عَلى أهْلِهِ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ إنْ كانَ ذا ضِيقٍ ﴿ويَرْزُقْهُ مِن حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ﴾ وقالَ في ”الكَشّافِ“: ﴿ومَن يَتَّقِ اللَّهَ﴾ جُمْلَةٌ اعْتِراضِيَّةٌ مُؤَكِّدَةٌ لِما سَبَقَ مِن إجْراءِ أمْرِ الطَّلاقِ عَلى السُّنَّةِ كَما مَرَّ.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ومَن يَتَوَكَّلْ عَلى اللَّهِ فَهو حَسْبُهُ﴾ أيْ مَن وثِقَ بِهِ فِيما نالَهُ كَفاهُ اللَّهُ ما أهَمَّهُ، ولِذَلِكَ قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ”«مَن أحَبَّ أنْ يَكُونَ أقْوى النّاسِ فَلْيَتَوَكَّلْ عَلى اللَّهِ» “ وقُرِئَ: ﴿إنَّ اللَّهَ بالِغُ أمْرِهِ﴾ بِالإضافَةِ (وبالِغٌ أمْرَهُ) أيْ نافِذٌ أمْرَهُ، وقَرَأ المُفَضَّلُ: (بالِغًا أمْرَهُ)، عَلى أنَّ قَوْلَهُ: (قَدْ جَعَلَ) خَبَرُ (إنَّ)، و(بالِغًا) حالٌ. قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: يُرِيدُ في جَمِيعِ خَلْقِهِ. والمَعْنى سَيُبْلِغُ اللَّهُ أمْرَهُ فِيما يُرِيدُ مِنكم، و﴿قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا﴾ أيْ تَقْدِيرًا وتَوْقِيتًا، وهَذا بَيانٌ لِوُجُوبِ التَّوَكُّلِ عَلى اللَّهِ تَعالى وتَفْوِيضِ الأمْرِ إلَيْهِ، قالَ الكَلْبِيُّ ومُقاتِلٌ: لِكُلِّ شَيْءٍ مِنَ الشِّدَّةِ والرَّخاءِ أجَلٌ يَنْتَهِي إلَيْهِ، قَدَّرَ اللَّهُ تَعالى ذَلِكَ كُلَّهُ لا يُقَدَّمُ (p-٣٢)ولا يُؤَخَّرُ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: يُرِيدُ قَدَّرْتُ ما خَلَقْتُ بِمَشِيئَتِي، وقَوْلُهُ: ﴿فَإذا بَلَغْنَ أجَلَهُنَّ﴾ إلى قَوْلِهِ: ﴿مَخْرَجًا﴾ آيَةٌ، ومِنهُ إلى قَوْلِهِ: ﴿قَدْرًا﴾ آيَةٌ أُخْرى عِنْدَ الأكْثَرِ، وعِنْدَ الكُوفِيِّ والمَدَنِيِّ المَجْمُوعُ آيَةٌ واحِدَةٌ، ثُمَّ في هَذِهِ الآيَةِ لَطِيفَةٌ: وهي أنَّ التَّقْوى في رِعايَةِ أحْوالِ النِّساءِ مُفْتَقِرَةٌ إلى المالِ، فَقالَ تَعالى: ﴿ومَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا﴾ وقَرِيبٌ مِن هَذا قَوْلُهُ: ﴿إنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ﴾ (النُّورِ: ٣٢) فَإنْ قِيلَ: ﴿ومَن يَتَوَكَّلْ عَلى اللَّهِ فَهو حَسْبُهُ﴾ يَدُلُّ عَلى عَدَمِ الِاحْتِياجِ لِلْكَسْبِ في طَلَبِ الرِّزْقِ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَإذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فانْتَشِرُوا في الأرْضِ وابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ﴾ (الجُمُعَةِ: ١٠) يَدُلُّ عَلى الِاحْتِياجِ فَكَيْفَ هو ؟ نَقُولُ: لا يَدُلُّ عَلى الِاحْتِياجِ؛ لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿فانْتَشِرُوا في الأرْضِ وابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ﴾ لِلْإباحَةِ كَما مَرَّ، والإباحَةُ مِمّا يُنافِي الِاحْتِياجَ إلى الكَسْبِ لِما أنَّ الِاحْتِياجَ مُنافٍ لِلتَّخْيِيرِ.
{"ayahs_start":2,"ayahs":["فَإِذَا بَلَغۡنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمۡسِكُوهُنَّ بِمَعۡرُوفٍ أَوۡ فَارِقُوهُنَّ بِمَعۡرُوفࣲ وَأَشۡهِدُوا۟ ذَوَیۡ عَدۡلࣲ مِّنكُمۡ وَأَقِیمُوا۟ ٱلشَّهَـٰدَةَ لِلَّهِۚ ذَ ٰلِكُمۡ یُوعَظُ بِهِۦ مَن كَانَ یُؤۡمِنُ بِٱللَّهِ وَٱلۡیَوۡمِ ٱلۡـَٔاخِرِۚ وَمَن یَتَّقِ ٱللَّهَ یَجۡعَل لَّهُۥ مَخۡرَجࣰا","وَیَرۡزُقۡهُ مِنۡ حَیۡثُ لَا یَحۡتَسِبُۚ وَمَن یَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِ فَهُوَ حَسۡبُهُۥۤۚ إِنَّ ٱللَّهَ بَـٰلِغُ أَمۡرِهِۦۚ قَدۡ جَعَلَ ٱللَّهُ لِكُلِّ شَیۡءࣲ قَدۡرࣰا"],"ayah":"وَیَرۡزُقۡهُ مِنۡ حَیۡثُ لَا یَحۡتَسِبُۚ وَمَن یَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِ فَهُوَ حَسۡبُهُۥۤۚ إِنَّ ٱللَّهَ بَـٰلِغُ أَمۡرِهِۦۚ قَدۡ جَعَلَ ٱللَّهُ لِكُلِّ شَیۡءࣲ قَدۡرࣰا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق