الباحث القرآني

ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكم فَمِنكم كافِرٌ ومِنكم مُؤْمِنٌ واللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ ﴿خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ بِالحَقِّ وصَوَّرَكم فَأحْسَنَ صُوَرَكم وإلَيْهِ المَصِيرُ﴾ ﴿يَعْلَمُ ما في السَّماواتِ والأرْضِ ويَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وما تُعْلِنُونَ واللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ﴾ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: إنَّهُ تَعالى خَلَقَ بَنِي آدَمَ مُؤْمِنًا وكافِرًا، ثُمَّ يُعِيدُهم يَوْمَ القِيامَةِ كَما خَلَقَهم مُؤْمِنًا وكافِرًا، وقالَ عَطاءٌ: إنَّهُ يُرِيدُ فَمِنكم مُصَدِّقٌ، ومِنكم جاحِدٌ، وقالَ الضَّحّاكُ: مُؤْمِنٌ في العَلانِيَةِ كافِرٌ في السِّرِّ كالمُنافِقِ، وكافِرٌ في العَلانِيَةِ مُؤْمِنٌ في السِّرِّ كَعَمّارِ بْنِ ياسِرٍ، قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿إلّا مَن أُكْرِهَ وقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمانِ﴾ [النحل: ١٠٦] وقالَ الزَّجّاجُ: فَمِنكم كافِرٌ بِأنَّهُ تَعالى خَلَقَهُ، وهو مِن أهْلِ الطَّبائِعِ والدَّهْرِيَّةِ، ومِنكم مُؤْمِنٌ بِأنَّهُ تَعالى خَلَقَهُ كَما قالَ: ﴿قُتِلَ الإنْسانُ ما أكْفَرَهُ﴾ ﴿مِن أيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ﴾ [عبس: ١٧] وقالَ: ﴿أكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرابٍ ثُمَّ مِن نُطْفَةٍ﴾ [الكهف: ٣٧] وقالَ أبُو إسْحاقَ: خَلَقَكم في بُطُونِ أُمَّهاتِكم كُفّارًا ومُؤْمِنِينَ، وجاءَ في بَعْضِ التَّفاسِيرِ أنَّ يَحْيى خُلِقَ في بَطْنِ أُمِّهِ مُؤْمِنًا، وفِرْعَوْنَ خُلِقَ في بَطْنِ أُمِّهِ كافِرًا، دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ﴾ [آل عمران: ٣٩] وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿واللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ أيْ عالِمٌ بِكُفْرِكم وإيمانِكُمُ اللَّذَيْنِ مِن أعْمالِكم، والمَعْنى أنَّهُ تَعالى تَفَضَّلَ عَلَيْكم بِأصْلِ النِّعَمِ الَّتِي هي الخَلْقُ فانْظُرُوا النَّظَرَ الصَّحِيحَ وكُونُوا بِأجْمَعِكم عِبادًا شاكِرِينَ، فَما فَعَلْتُمْ مَعَ تَمَكُّنِكم بَلْ تَفَرَّقْتُمْ فِرَقًا فَمِنكم كافِرٌ ومِنكم مُؤْمِنٌ وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ بِالحَقِّ﴾ أيْ بِالإرادَةِ القَدِيمَةِ عَلى وفْقِ الحِكْمَةِ، ومِنهم مَن قالَ بِالحَقِّ، أيْ لِلْحَقِّ، وهو البَعْثُ، وقَوْلُهُ: ﴿وصَوَّرَكم فَأحْسَنَ صُوَرَكُمْ﴾ يَحْتَمِلُ وجْهَيْنِ: أحَدُهُما: أحْسَنَ أيْ أتْقَنَ وأحْكَمَ عَلى وجْهٍ لا يُوجَدُ بِذَلِكَ الوَجْهِ في الغَيْرِ، وكَيْفَ يُوجَدُ وقَدْ وُجِدَ في أنْفُسِهِمْ مِنَ القُوى الدّالَّةِ عَلى وحْدانِيَّةِ اللَّهِ تَعالى ورُبُوبِيَّتِهِ دَلالَةً مَخْصُوصَةً لِحُسْنِ هَذِهِ الصُّورَةِ. وثانِيهِما: أنْ نَصْرِفَ الحُسْنَ إلى حُسْنِ المَنظَرِ، فَإنَّ مَن نَظَرَ في قَدِّ الإنْسانِ وقامَتِهِ وبِالنِّسْبَةِ بَيْنَ أعْضائِهِ فَقَدْ عَلِمَ أنَّ صُورَتَهُ أحْسَنُ صُورَةٍ وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وإلَيْهِ المَصِيرُ﴾ أيِ البَعْثُ وإنَّما أضافَهُ (p-٢١)إلى نَفْسِهِ لِأنَّهُ هو النِّهايَةُ في خَلْقِهِمْ والمَقْصُودُ مِنهُ، ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وصَوَّرَكم فَأحْسَنَ صُوَرَكُمْ﴾ لِأنَّهُ لا يَلْزَمُ مِن خَلْقِ الشَّيْءِ أنْ يَكُونَ مُصَوَّرًا بِالصُّورَةِ، ولا يَلْزَمُ مِنَ الصُّورَةِ أنْ تَكُونَ عَلى أحْسَنِ الصُّوَرِ، ثُمَّ قالَ: ﴿وإلَيْهِ المَصِيرُ﴾ أيِ المَرْجِعُ لَيْسَ إلّا لَهُ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿يَعْلَمُ ما في السَّماواتِ والأرْضِ ويَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وما تُعْلِنُونَ واللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ﴾ نَبَّهَ بِعِلْمِهِ ما في السَّماواتِ والأرْضِ، ثُمَّ بِعِلْمِهِ ما يُسِرُّهُ العِبادُ وما يُعْلِنُونَهُ، ثُمَّ بِعِلْمِهِ ما في الصُّدُورِ مِنَ الكُلِّيّاتِ والجُزْئِيّاتِ عَلى أنَّهُ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ لِما أنَّهُ تَعالى لا يَعْزُبُ عَنْ عِلْمِهِ مِثْقالُ ذَرَّةٍ البَتَّةَ أزَلًا وأبَدًا، وفي الآيَةِ مَباحِثُ: الأوَّلُ: أنَّهُ تَعالى حَكِيمٌ، وقَدْ سَبَقَ في عِلْمِهِ أنَّهُ إذا خَلَقَهم لَمْ يَفْعَلُوا إلّا الكُفْرَ، والإصْرارَ عَلَيْهِ فَأيُّ حِكْمَةٍ دَعَتْهُ إلى خَلْقِهِمْ ؟ نَقُولُ: إذا عَلِمْنا أنَّهُ تَعالى حَكِيمٌ، عَلِمْنا أنَّ أفْعالَهُ كُلَّها عَلى وفْقِ الحِكْمَةِ، وخَلْقُ هَذِهِ الطّائِفَةِ فِعْلُهُ، فَيَكُونُ عَلى وفْقِ الحِكْمَةِ، ولا يَلْزَمُ مِن عَدَمِ عِلْمِنا بِذَلِكَ أنْ لا يَكُونَ كَذَلِكَ بَلِ اللّازِمُ أنْ يَكُونَ خَلَقَهم عَلى وفْقِ الحِكْمَةِ. الثّانِي: قالَ: ﴿وصَوَّرَكم فَأحْسَنَ صُوَرَكُمْ﴾ وقَدْ كانَ مِن أفْرادِ هَذا النَّوْعِ مَن كانَ مُشَوَّهَ الصُّورَةِ سَمِجَ الخِلْقَةِ ؟ نَقُولُ: لا سَماجَةَ ثَمَّةَ لَكِنَّ الحُسْنَ كَغَيْرِهِ مِنَ المَعانِي عَلى طَبَقاتٍ ومَراتِبَ فانْحِطاطُ بَعْضِ الصُّوَرِ عَنْ مَراتِبِ ما فَوْقَها انْحِطاطًا بَيِّنًا لا يَظْهَرُ حُسْنُهُ، وإلّا فَهو داخِلٌ في حَيِّزِ الحُسْنِ غَيْرُ خارِجٍ عَنْ حَدِّهِ. الثّالِثُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وإلَيْهِ المَصِيرُ﴾ يُوهِمُ الِانْتِقالَ مِن جانِبٍ إلى جانِبٍ، وذَلِكَ لا يُمْكِنُ إلّا أنْ يَكُونَ اللَّهُ في جانِبٍ، فَكَيْفَ هو ؟ قُلْتُ: ذَلِكَ الوَهْمُ بِالنِّسْبَةِ إلَيْنا وإلى زَمانِنا لا بِالنِّسْبَةِ إلى ما يَكُونُ في نَفْسِ الأمْرِ، فَإنَّ نَفْسَ الأمْرِ بِمَعْزِلٍ عَنْ حَقِيقَةِ الِانْتِقالِ مِن جانِبٍ إلى جانِبٍ إذا كانَ المُنْتَقِلُ إلَيْهِ مُنَزَّهًا عَنِ الجانِبِ وعَنِ الجِهَةِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب