الباحث القرآني

ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وإذا رَأيْتَهم تُعْجِبُكَ أجْسامُهم وإنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأنَّهم خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ العَدُوُّ فاحْذَرْهم قاتَلَهُمُ اللَّهُ أنّى يُؤْفَكُونَ﴾ ﴿وإذا قِيلَ لَهم تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكم رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهم ورَأيْتَهم يَصُدُّونَ وهم مُسْتَكْبِرُونَ﴾ ﴿سَواءٌ عَلَيْهِمْ أأسْتَغْفَرْتَ لَهم أمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهم لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهم إنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي القَوْمَ الفاسِقِينَ﴾ . اعْلَمْ أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿وإذا رَأيْتَهُمْ﴾ يَعْنِي عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ، ومُغِيثَ بْنَ قَيْسٍ، وجَدَّ بْنَ قَيْسٍ، كانَتْ لَهم أجْسامٌ ومَنظَرٌ، تُعْجِبُكَ أجْسامُهم لِحُسْنِها وجَمالِها، وكانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ جَسِيمًا صَبِيحًا فَصِيحًا، وإذا قالَ سَمِعَ النَّبِيُّ ﷺ قَوْلَهُ، وهو قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وإنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ﴾ أيْ ويَقُولُوا: إنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ تَسْمَعُ لِقَوْلِهِمْ، وقُرِئَ يُسْمَعْ عَلى البِناءِ لِلْمَفْعُولِ، ثُمَّ شَبَّهَهم بِالخُشُبِ المُسَنَّدَةِ، وفي الخُشُبِ التَّخْفِيفُ كَبَدَنَةٍ وبُدْنٍ وأسَدٍ وأُسْدٍ، والتَّثْقِيلُ كَذَلِكَ كَثَمَرَةٍ وثُمُرٍ، وخَشَبَةٍ وخُشُبٍ، ومَدَرَةٍ ومُدُرٍ، وهي قِراءَةُ ابْنِ عَبّاسٍ، والتَّثْقِيلُ لُغَةُ أهْلِ الحِجازِ، والخُشُبُ لا تَعْقِلُ ولا تَفْهَمُ، فَكَذَلِكَ أهِلُ النِّفاقِ كَأنَّهم في تَرْكِ التَّفَهُّمِ، والِاسْتِبْصارِ بِمَنزِلَةِ الخُشُبِ. وأمّا المُسَنَّدَةُ يُقالُ: سَنَدَ إلى شَيْءٍ، أيْ مالَ إلَيْهِ، وأسْنَدَهُ إلى الشَّيْءِ، أيْ أمالَهُ فَهو مُسْنَدٌ، والتَّشْدِيدُ لِلْمُبالَغَةِ، وإنَّما وُصِفَ الخُشُبُ بِها، لِأنَّها تُشْبِهُ الأشْجارَ القائِمَةَ الَّتِي تَنْمُو وتُثْمِرُ بِوَجْهٍ ما، ثُمَّ نَسَبَهم إلى الجُبْنِ وعابَهم بِهِ، فَقالَ: ﴿يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ العَدُوُّ﴾ وقالَ مُقاتِلٌ: إذا نادى مُنادٍ في العَسْكَرِ، وانْفَلَتَتْ دابَّةٌ، أوْ نُشِدَتْ ضالَّةٌ مَثَلًا ظَنُّوا أنَّهم يُرادُونَ بِذَلِكَ لِما في قُلُوبِهِمْ مِنَ الرُّعْبِ، وذَلِكَ لِأنَّهم عَلى وجَلٍ مِن أنْ يَهْتِكَ اللَّهُ أسْتارَهم، ويَكْشِفَ أسْرارَهم، يَتَوَقَّعُونَ الإيقاعَ بِهِمْ ساعَةً فَساعَةً، ثُمَّ أعْلَمَ [ اللَّهُ ] رَسُولَهُ بِعَداوَتِهِمْ فَقالَ: ﴿هُمُ العَدُوُّ فاحْذَرْهُمْ﴾ أنْ تَأْمَنَهم عَلى السِّرِّ ولا تَلْتَفِتَ إلى ظاهِرِهِمْ فَإنَّهُمُ الكامِلُونَ في العَداوَةِ بِالنِّسْبَةِ إلى غَيْرِهِمْ وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿قاتَلَهُمُ اللَّهُ أنّى يُؤْفَكُونَ﴾ مُفَسِّرٌ وهو دُعاءٌ عَلَيْهِمْ (p-١٥)وطَلَبٌ مِن ذاتِهِ أنْ يَلْعَنَهم ويُخْزِيَهم وتَعْلِيمٌ لِلْمُؤْمِنِينَ أنْ يَدْعُوا بِذَلِكَ، و﴿أنّى يُؤْفَكُونَ﴾ أيْ يَعْدِلُونَ عَنِ الحَقِّ تَعَجُّبًا مِن جَهْلِهِمْ وضَلالَتِهِمْ وظَنِّهِمُ الفاسِدِ أنَّهم عَلى الحَقِّ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وإذا قِيلَ لَهم تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكم رَسُولُ اللَّهِ﴾ قالَ الكَلْبِيُّ: لَمّا نَزَلَ القُرْآنُ عَلى الرَّسُولِ ﷺ بِصِفَةِ المُنافِقِينَ مَشى إلَيْهِ عَشائِرُهم مِنَ المُؤْمِنِينَ وقالُوا: لَهم ويَلْكُمُ افْتَضَحْتُمْ بِالنِّفاقِ وأهْلَكْتُمْ أنْفُسَكم، فَأْتُوا رَسُولَ اللَّهِ وتُوبُوا إلَيْهِ مِنَ النِّفاقِ واسْألُوهُ أنْ يَسْتَغْفِرَ لَكم، فَأبَوْا ذَلِكَ وزَهِدُوا في الِاسْتِغْفارِ فَنَزَلَتْ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ «لَمّا رَجَعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ مِن أُحُدٍ بِكَثِيرٍ مِنَ النّاسِ مَقَتَهُ المُسْلِمُونَ وعَنَّفُوهُ وأسْمَعُوهُ المَكْرُوهَ، فَقالَ لَهُ بَنُو أبِيهِ: لَوْ أتَيْتَ رَسُولَ ﷺ حَتّى يَسْتَغْفِرَ لَكَ ويَرْضى عَنْكَ، فَقالَ: لا أذْهَبُ إلَيْهِ، ولا أُرِيدُ أنْ يَسْتَغْفِرَ لِي، وجَعَلَ يَلْوِي رَأْسَهُ فَنَزَلَتْ» . وعِنْدَ الأكْثَرِينَ، إنَّما دُعِيَ إلى الِاسْتِغْفارِ لِأنَّهُ قالَ: ﴿لَيُخْرِجَنَّ الأعَزُّ مِنها الأذَلَّ﴾ [المنافقون: ٨] وقالَ: ﴿لا تُنْفِقُوا عَلى مَن عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ﴾ فَقِيلَ لَهُ: تَعالَ يَسْتَغْفِرْ لَكَ رَسُولُ اللَّهِ فَقالَ: ماذا قُلْتُ: فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ﴾ وقُرِئَ: ”لَوَوْا“ بِالتَّخْفِيفِ، والتَّشْدِيدِ لِلْكَثْرَةِ، والكِنايَةُ قَدْ تُجْعَلُ جَمْعًا والمَقْصُودُ واحِدٌ وهو كَثِيرٌ في أشْعارِ العَرَبِ قالَ جَرِيرٌ: ؎لا بارَكَ اللَّهُ فِيمَن كانَ يَحْسَبُكم إلّا عَلى العَهْدِ حَتّى كانَ ما كانا وإنَّما خاطَبَ بِهَذا امْرَأةً وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ورَأيْتَهم يَصُدُّونَ وهم مُسْتَكْبِرُونَ﴾ أيْ عَنِ اسْتِغْفارِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، ذَكَرَ تَعالى أنَّ اسْتِغْفارَهُ لا يَنْفَعُهم فَقالَ: ﴿سَواءٌ عَلَيْهِمْ أأسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ﴾ قالَ قَتادَةُ: نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ بَعْدَ قَوْلِهِ: ﴿اسْتَغْفِرْ لَهم أوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ﴾ وذَلِكَ لِأنَّها لَمّا نَزَلَتْ قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ”«خَيَّرَنِي رَبِّي فَلَأزِيدَنَّهم عَلى السَّبْعِينَ» “ فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى: ﴿لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهم إنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي القَوْمَ الفاسِقِينَ﴾ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: المُنافِقِينَ، وقالَ قَوْمٌ: فِيهِ بَيانٌ أنَّ اللَّهَ تَعالى يَمْلِكُ هِدايَةً وراءَ هِدايَةِ البَيانِ، وهي خَلْقُ فِعْلِ الِاهْتِداءِ فِيمَن عَلِمَ مِنهُ ذَلِكَ، وقِيلَ: مَعْناهُ لا يَهْدِيهِمْ لِفِسْقِهِمْ وقالَتِ المُعْتَزِلَةُ لا يُسَمِّيهِمُ المُهْتَدِينَ إذا فَسَقُوا وضَلُّوا وفي الآيَةِ مَباحِثُ: البَحْثُ الأوَّلُ: لِمَ شَبَّهَهم بِالخُشُبِ المُسَنَّدَةِ لا بِغَيْرِهِ مِنَ الأشْياءِ المُنْتَفِعِ بِها ؟ نَقُولُ لِاشْتِمالِ هَذا التَّشْبِيهِ عَلى فَوائِدَ كَثِيرَةٍ لا تُوجَدُ في الغَيْرِ: الأُولى: قالَ في الكَشّافِ: شُبِّهُوا في اسْتِنادِهِمْ وما هم إلّا أجْرامٌ خالِيَةٌ عَنِ الإيمانِ والخَيْرِ، بِالخُشُبِ المُسَنَّدَةِ إلى الحائِطِ، ولِأنَّ الخَشَبَ إذا انْتُفِعَ بِهِ كانَ في سَقْفٍ أوْ جِدارٍ أوْ غَيْرِهِما مِن مَظانِّ الِانْتِفاعِ، وما دامَ مَتْرُوكًا فارِغًا غَيْرَ مُنْتَفَعٍ بِهِ أُسْنِدَ إلى الحائِطِ، فَشُبِّهُوا بِهِ في عَدَمِ الِانْتِفاعِ، ويَجُوزُ أنْ يُرادَ بِها الأصْنامُ المَنحُوتَةُ مِنَ الخُشُبِ المُسَنَّدَةِ إلى الحائِطِ شُبِّهُوا بِها في حُسْنِ صُوَرِهِمْ، وقِلَّةِ جَدْواهم. الثّانِيَةُ: الخُشُبُ المُسَنَّدَةُ في الأصْلِ كانَتْ غُصْنًا طَرِيًّا يَصْلُحُ لِأنْ يَكُونَ مِنَ الأشْياءِ المُنْتَفَعِ بِها، ثُمَّ تَصِيرُ غَلِيظَةً يابِسَةً، والكافِرُ والمُنافِقُ كَذَلِكَ كانَ في الأصْلِ صالِحًا لِكَذا وكَذا، ثُمَّ يَخْرُجُ عَنْ تِلْكَ الصَّلاحِيَّةِ. الثّالِثَةُ: الكَفَرَةُ مِن جِنْسِ الإنْسِ حَطَبٌ، كَما قالَ تَعالى: ﴿حَصَبُ جَهَنَّمَ أنْتُمْ لَها وارِدُونَ﴾ [الأنبياء: ٩٨] والخُشُبُ المُسَنَّدَةُ حَطَبٌ. أيْضًا. الرّابِعَةُ: أنَّ الخُشُبَ المُسَنَّدَةَ إلى الحائِطِ أحَدُ طَرَفَيْها إلى جِهَةٍ، والآخَرُ إلى جِهَةٍ أُخْرى، والمُنافِقُونَ كَذَلِكَ، لِأنَّ المُنافِقَ أحَدُ طَرَفَيْهِ وهو الباطِنُ إلى جِهَةِ أهْلِ الكُفْرِ، والطَّرَفُ الآخَرُ وهو الظّاهِرُ إلى جِهَةِ أهْلِ الإسْلامِ. الخامِسَةُ: المُعْتَمِدُ عَلَيْهِ الخُشُبُ المُسَنَّدَةُ ما يَكُونُ مِنَ الجَماداتِ والنَّباتاتِ، والمُعْتَمَدُ عَلَيْهِ لِلْمُنافِقِينَ كَذَلِكَ، وإذا كانُوا مِنَ المُشْرِكِينَ إذْ هو الأصْنامُ، إنَّها مِنَ الجَماداتِ أوِ النَّباتاتِ. الثّانِي مِنَ المَباحِثِ أنَّهُ تَعالى شَبَّهَهم بِالخُشُبِ المُسَنَّدَةِ، ثُمَّ قالَ مِن بَعْدُ ما يُنافِي هَذا التَّشْبِيهَ وهو (p-١٦)قَوْلُهُ تَعالى: ﴿يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ العَدُوُّ﴾ والخُشُبُ المُسَنَّدَةُ لا يَحْسَبُونَ أصْلًا، نَقُولُ: لا يَلْزَمُ أنْ يَكُونَ المُشَبَّهُ والمُشَبَّهُ بِهِ يَشْتَرِكانِ في جَمِيعِ الأوْصافِ، فَهم كالخُشُبِ المُسَنَّدَةِ بِالنِّسْبَةِ إلى الِانْتِفاعِ وعَدَمِ الِانْتِفاعِ، ولَيْسُوا كالخُشُبِ المُسَنَّدَةِ بِالنِّسْبَةِ إلى الِاسْتِماعِ وعَدَمِ الِاسْتِماعِ لِلصَّيْحَةِ وغَيْرِها. الثّالِثُ: قالَ تَعالى: ﴿إنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي القَوْمَ الفاسِقِينَ﴾ ولَمْ يَقُلْ: القَوْمَ الكافِرِينَ أوِ المُنافِقِينَ أوِ المُسْتَكْبِرِينَ مَعَ أنَّ كُلَّ واحِدٍ مِنهم مِن جُمْلَةِ ما سَبَقَ ذِكْرُهُ. نَقُولُ: كُلُّ أحَدٍ مِن تِلْكَ الأقْوامِ داخِلٌ تَحْتَ قَوْلِهِ: (الفاسِقِينَ) أيِ الَّذِينَ سَبَقَ ذِكْرُهم وهُمُ الكافِرُونَ والمُنافِقُونَ والمُسْتَكْبِرُونَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب