الباحث القرآني

ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وآخَرِينَ مِنهم لَمّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وهو العَزِيزُ الحَكِيمُ﴾ ﴿ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشاءُ واللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ﴾ ﴿وآخَرِينَ﴾ عَطْفٌ عَلى الأُمِّيِّينَ. يَعْنِي بَعَثَ في آخَرِينَ مِنهم، قالَ المُفَسِّرُونَ: هُمُ الأعاجِمُ يَعْنُونَ بِهِمْ غَيْرَ العَرَبِ أيَّ طائِفَةٍ كانَتْ قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ وجَماعَةٌ، وقالَ مُقاتِلٌ: يَعْنِي التّابِعِينَ مِن هَذِهِ الأُمَّةِ الَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِأوائِلِهِمْ، وفي الجُمْلَةِ مَعْنى جَمِيعِ الأقْوالِ فِيهِ كُلُّ مَن دَخَلَ في الإسْلامِ بَعْدَ النَّبِيِّ ﷺ إلى يَوْمِ القِيامَةِ فالمُرادُ بِالأُمِّيِّينَ العَرَبُ. وبِالآخَرِينَ سِواهم مِنَ الأُمَمِ، وقَوْلُهُ: ﴿وآخَرِينَ﴾ مَجْرُورٌ لِأنَّهُ عُطِفَ عَلى المَجْرُورِ يَعْنِي الأُمِّيِّينَ، ويَجُوزُ أنْ يَنْتَصِبَ عَطْفًا عَلى المَنصُوبِ في ﴿ويُعَلِّمُهُمُ﴾ أيْ ويُعَلِّمُهم ويُعَلِّمُ آخَرِينَ مِنهم، أيْ مِنَ الأُمِّيِّينَ، وجَعَلَهم مِنهم، لِأنَّهم إذا أسْلَمُوا صارُوا مِنهم، فالمُسْلِمُونَ كُلُّهم أُمَّةٌ واحِدَةٌ وإنِ اخْتَلَفَتْ أجْناسُهم، قالَ تَعالى: ﴿والمُؤْمِنُونَ والمُؤْمِناتُ بَعْضُهم أوْلِياءُ بَعْضٍ﴾ [ التَّوْبَةِ: ٧١] وأمّا مَن لَمْ يُؤْمِن بِالنَّبِيِّ ﷺ ولَمْ يَدْخُلْ في دِينِهِ فَإنَّهم كانُوا بِمَعْزِلٍ عَنِ المُرادِ بِقَوْلِهِ: ﴿وآخَرِينَ مِنهُمْ﴾ وإنْ كانَ النَّبِيُّ مَبْعُوثًا إلَيْهِمْ بِالدَّعْوَةِ فَإنَّهُ تَعالى قالَ في الآيَةِ الأُولى: ﴿ويُزَكِّيهِمْ ويُعَلِّمُهُمُ الكِتابَ والحِكْمَةَ﴾ وغَيْرُ المُؤْمِنِينَ لَيْسَ مِن جُمْلَةِ مَن يُعَلِّمُهُ الكُتّابَ والحِكْمَةَ (وهو العَزِيزُ) مِن حَيْثُ جَعَلَ في كُلِّ واحِدٍ مِنَ البَشَرِ أثَرَ الذُّلِّ لَهُ والفَقْرِ إلَيْهِ، والحَكِيمُ حَيْثُ جَعَلَ في كُلِّ مَخْلُوقٍ ما يَشْهَدُ بِوَحْدانِيَّتِهِ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشاءُ واللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ﴾ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: يُرِيدُ حَيْثُ ألْحَقَ العَجَمَ وأبْناءَهم بِقُرَيْشٍ، يَعْنِي إذا آمَنُوا أُلْحِقُوا في دَرَجَةِ الفَضْلِ بِمَن شاهَدَ الرَّسُولَ عَلَيْهِ السَّلامُ، وشارَكُوهم في ذَلِكَ، وقالَ مُقاتِلٌ: ”ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ“ يَعْنِي الإسْلامَ ﴿يُؤْتِيهِ مَن يَشاءُ﴾ وقالَ مُقاتِلُ بْنُ حَيّانَ: يَعْنِي: النُّبُوَّةُ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشاءُ، فاخْتَصَّ بِها مُحَمَّدًا ﷺ . واللَّهُ ذُو المَنِّ العَظِيمِ عَلى جَمِيعِ خَلْقِهِ في الدُّنْيا بِتَعْلِيمِ الكِتابِ والحِكْمَةِ كَما مَرَّ، وفي الآخِرَةِ بِتَفْخِيمِ الجَزاءِ عَلى الأعْمالِ. ثُمَّ إنَّهُ تَعالى ضَرَبَ لِلْيَهُودِ الَّذِينَ أعْرَضُوا عَنِ العَمَلِ بِالتَّوْراةِ، والإيمانِ بِالنَّبِيِّ ﷺ مَثَلًا فَقالَ: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الحِمارِ يَحْمِلُ أسْفارًا بِئْسَ مَثَلُ القَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ واللَّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الظّالِمِينَ﴾ . اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا أثْبَتَ التَّوْحِيدَ والنُّبُوَّةَ، وبَيَّنَ في النُّبُوَّةِ أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ بُعِثَ إلى الأُمِّيِّينَ واليَهُودِ لَمّا أوْرَدُوا تِلْكَ الشُّبْهَةَ، وهي أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ بُعِثَ إلى العَرَبِ خاصَّةً، ولَمْ يُبْعَثْ إلَيْهِمْ بِمَفْهُومِ الآيَةِ أتْبَعَهُ اللَّهُ تَعالى بِضَرْبِ المَثَلِ لِلَّذِينِ أعْرَضُوا عَنِ العَمَلِ بِالتَّوْراةِ، والإيمانِ بِالنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلامُ، والمَقْصُودُ مِنهُ أنَّهم لَمّا (p-٦)لَمْ يَعْمَلُوا بِما في التَّوْراةِ شُبِّهُوا بِالحِمارِ، لِأنَّهم لَوْ عَمِلُوا بِمُقْتَضاها لانْتَفَعُوا بِها، ولَمْ يُورِدُوا تِلْكَ الشُّبْهَةَ، وذَلِكَ لَأنَّ فِيها نَعْتَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلامُ، والبِشارَةَ بِمَقْدَمِهِ، والدُّخُولَ في دِينِهِ، وقَوْلُهُ: ﴿حُمِّلُوا التَّوْراةَ﴾ أيْ حُمِّلُوا العَمَلَ بِما فِيها، وكُلِّفُوا القِيامَ بِها، وحُمِّلُوا (وقُرِئَ) بِالتَّخْفِيفِ والتَّثْقِيلِ، وقالَ صاحِبُ النَّظْمِ: لَيْسَ هو مِنَ الحَمْلِ عَلى الظَّهْرِ، وإنَّما هو مِنَ الحَمالَةِ بِمَعْنى الكَفالَةِ والضَّمانِ، ومِنهُ قِيلَ لِلْكَفِيلِ: الحَمِيلُ، والمَعْنى: ضُمِّنُوا أحْكامَ التَّوْراةِ ثُمَّ لَمْ يَضْمَنُوها ولَمْ يَعْمَلُوا بِما فِيها. قالَ الأصْمَعِيُّ: الحَمِيلُ، الكَفِيلُ، وقالَ الكِسائِيُّ: حَمَلْتُ لَهُ حَمالَةً، أيْ كَفَلْتُ بِهِ، والأسْفارُ جَمْعُ سِفْرٍ وهو الكِتابُ الكَبِيرُ، لِأنَّهُ يُسْفِرُ عَنِ المَعْنى إذا قُرِئَ، ونَظِيرُهُ شِبْرٌ وأشْبارٌ، شَبَّهَ اليَهُودَ إذْ لَمْ يَنْتَفِعُوا بِما في التَّوْراةِ، وهي دالَّةٌ عَلى الإيمانِ بِمُحَمَّدٍ ﷺ بِالحِمارِ الَّذِي يَحْمِلُ الكُتُبَ العِلْمِيَّةَ ولا يَدْرِي ما فِيها. وقالَ أهْلُ المَعانِي: هَذا المَثَلُ مَثَلُ مَن يَفْهَمُ مَعانِيَ القُرْآنِ ولَمْ يَعْمَلْ بِهِ، وأعْرَضَ عَنْهُ إعْراضَ مَن لا يَحْتاجُ إلَيْهِ، ولِهَذا قالَ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرانَ: يا أهْلَ القُرْآنِ اتَّبِعُوا القُرْآنَ قَبْلَ أنْ يَتْبَعَكم ثُمَّ تَلا هَذِهِ الآيَةَ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿لَمْ يَحْمِلُوها﴾ أيْ لَمْ يُؤَدُّوا حَقَّها ولَمْ يَحْمِلُوها حَقَّ حَمْلِها عَلى ما بَيَّنّاهُ، فَشَبَّهَهم والتَّوْراةُ في أيْدِيهِمْ وهم لا يَعْمَلُونَ بِها بِحِمارٍ يَحْمِلُ كُتُبًا، ولَيْسَ لَهُ مِن ذَلِكَ إلّا ثِقَلُ الحِمْلِ مِن غَيْرِ انْتِفاعٍ مِمّا يَحْمِلُهُ، كَذَلِكَ اليَهُودُ لَيْسَ لَهم مِن كِتابِهِمْ إلّا وبالُ الحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ ذَمَّ المَثَلَ، والمُرادُ مِنهُ ذَمُّهم فَقالَ: ﴿بِئْسَ مَثَلُ القَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ﴾ أيْ بِئْسَ القَوْمُ مَثَلًا الَّذِينَ كَذَّبُوا، كَما قالَ: ﴿ساءَ مَثَلًا القَوْمُ﴾ [الأعراف: ١٧٧] ومَوْضِعُ الَّذِينَ رَفْعٌ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ جَرًّا، وبِالجُمْلَةِ لَمّا بَلَغَ كَذِبُهم مَبْلَغًا وهو أنَّهم كَذَبُوا عَلى اللَّهِ تَعالى كانَ في غايَةِ الشَّرِّ والفَسادِ، فَلِهَذا قالَ: ﴿بِئْسَ مَثَلُ القَوْمِ﴾ والمُرادُ بِالآياتِ هَهُنا الآياتُ الدّالَّةُ عَلى صِحَّةِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ، وهو قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ ومُقاتِلٍ، وقِيلَ: الآياتُ التَّوْراةُ لِأنَّهم كَذَّبُوا بِها حِينَ تَرَكُوا الإيمانَ بِمُحَمَّدٍ ﷺ، وهَذا أشْبَهُ هُنا ﴿واللَّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الظّالِمِينَ﴾ قالَ عَطاءٌ: يُرِيدُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أنْفُسَهم بِتَكْذِيبِ الأنْبِياءِ، وهَهُنا مَباحِثُ: البَحْثُ الأوَّلُ: ما الحِكْمَةُ في تَعْيِينِ الحِمارِ مِن بَيْنِ سائِرِ الحَيَواناتِ ؟ نَقُولُ: لِوُجُوهٍ: مِنها أنَّهُ تَعالى خَلَقَ ﴿والخَيْلَ والبِغالَ والحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وزِينَةً﴾ [النحل: ٨] والزِّينَةُ في الخَيْلِ أكْثَرُ وأظْهَرُ؛ بِالنِّسْبَةِ إلى الرُّكُوبِ، وحَمْلِ الشَّيْءِ عَلَيْهِ، وفي البِغالِ دُونَ الخَيْلِ، وفي الحِمارِ دُونَ البِغالِ، فالبِغالُ كالمُتَوَسِّطِ في المَعانِي الثَّلاثَةِ، وحِينَئِذٍ يَلْزَمُ أنْ يَكُونَ الحِمارُ في مَعْنى الحَمْلِ أظْهَرَ وأغْلَبَ بِالنِّسْبَةِ إلى الخَيْلِ والبِغالِ، وغَيْرِهِما مِنَ الحَيَواناتِ. ومِنها: أنَّ هَذا التَّمْثِيلَ لِإظْهارِ الجَهْلِ والبَلادَةِ، وذَلِكَ في الحِمارِ أظْهَرُ. ومِنها: أنَّ في الحِمارِ مِنَ الذُّلِّ والحَقارَةِ ما لا يَكُونُ في الغَيْرِ، والغَرَضُ مِنَ الكَلامِ في هَذا المَقامِ تَعْيِيرُ القَوْمِ بِذَلِكَ وتَحْقِيرُهم، فَيَكُونُ تَعْيِينُ الحِمارِ ألْيَقَ وأوْلى، ومِنها أنَّ حَمْلَ الأسْفارِ عَلى الحِمارِ أتَمُّ وأعَمُّ وأسْهَلُ وأسْلَمُ، لِكَوْنِهِ ذَلُولًا، سَلِسَ القِيادِ، لَيِّنَ الِانْقِيادِ، يَتَصَرَّفُ فِيهِ الصَّبِيُّ الغَبِيُّ مِن غَيْرِ كُلْفَةٍ ومَشَقَّةٍ، وهَذا مِن جُمْلَةِ ما يُوجِبُ حُسْنَ الذِّكْرِ بِالنِّسْبَةِ إلى غَيْرِهِ. ومِنها: أنَّ رِعايَةَ الألْفاظِ والمُناسَبَةِ بَيْنَها مِنَ اللَّوازِمِ في الكَلامِ، وبَيْنَ لَفْظَيِ الأسْفارِ والحِمارِ لَفْظِيَّةٌ لا تُوجَدُ في الغَيْرِ مِنَ الحَيَواناتِ فَيَكُونُ ذِكْرُهُ أوْلى. الثّانِي: (يَحْمِلُ) ما مَحَلُّهُ ؟ نَقُولُ: النَّصْبُ عَلى الحالِ، أوِ الجَرُّ عَلى الوَصْفِ كَما قالَ في الكَشّافِ إذِ الحِمارُ كاللَّئِيمِ في قَوْلِهِ:(p-٧) ؎ولَقَدْ أمُرُّ عَلى اللَّئِيمِ يَسُبُّنِي فَمَرَرْتُ ثَمَّةَ قُلْتُ لا يَعْنِينِي الثّالِثُ: قالَ تَعالى: ﴿بِئْسَ مَثَلُ القَوْمِ﴾ كَيْفَ وُصِفَ المَثَلُ بِهَذا الوَصْفِ ؟ نَقُولُ: الوَصْفُ وإنْ كانَ في الظّاهِرِ لِلْمَثَلِ فَهو راجِعٌ إلى القَوْمِ، فَكَأنَّهُ قالَ: بِئْسَ القَوْمُ قَوْمًا مَثَلُهم هَكَذا. ثُمَّ إنَّهُ تَعالى أمَرَ النَّبِيَّ ﷺ بِهَذا الخِطابِ لَهم وهو:
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب