الباحث القرآني
(p-٢٧٣)ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأفْواهِهِمْ واللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ ولَوْ كَرِهَ الكافِرُونَ﴾ ﴿هُوَ الَّذِي أرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدى ودِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلى الدِّينِ كُلِّهِ ولَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ﴾
(لِيُطْفِئُوا) أيْ أنْ يُطْفِئُوا وكَأنَّ هَذِهِ اللّامَ زِيدَتْ مَعَ فِعْلِ الإرادَةِ تَأْكِيدًا لَهُ لِما فِيها مِن مَعْنى الإرادَةِ في قَوْلِكَ: جِئْتُكَ لِإكْرامِكَ، كَما زِيدَتِ اللّامُ في لا أبا لَكَ، تَأْكِيدًا لِمَعْنى الإضافَةِ في أباكَ، وإطْفاءُ نُورِ اللَّهِ تَعالى بِأفْواهِهِمْ، تَهَكُّمٌ بِهِمْ في إرادَتِهِمْ إبْطالَ الإسْلامِ بِقَوْلِهِمْ في القُرْآنِ: (هَذا ساحِرٌ) مُثِّلَتْ حالُهم بِحالِ مَن يَنْفُخُ في نُورِ الشَّمْسِ بِفِيهِ لِيُطْفِئَهُ، كَذا ذَكَرَهُ في الكَشّافِ، وقَوْلُهُ: ﴿واللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ﴾ قُرِئَ بِكَسْرِ الرّاءِ عَلى الإضافَةِ، والأصْلُ هو التَّنْوِينُ، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: يُظْهِرُ دِينَهُ، وقالَ صاحِبُ الكَشّافِ: مُتِمٌّ الحَقَّ ومُبَلِّغُهُ غايَتَهُ، وقِيلَ: دِينُ اللَّهِ، وكِتابُ اللَّهِ، ورَسُولُ اللَّهِ، وكُلُّ واحِدٍ مِن هَذِهِ الثَّلاثَةِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ؛ لِأنَّهُ يَظْهَرُ عَلَيْهِمْ مِنَ الآثارِ.
وثانِيها: أنَّ نُورَ اللَّهِ ساطِعٌ أبَدًا وطالِعٌ مِن مَطْلَعٍ لا يُمْكِنُ زَوالُهُ أصْلًا وهو الحَضْرَةُ القُدْسِيَّةُ، وكُلُّ واحِدٍ مِنَ الثَّلاثَةِ كَذَلِكَ.
وثالِثُها: أنَّ النُّورَ نَحْوَ العِلْمِ، والظُّلْمَةَ نَحْوَ الجَهْلِ، أوِ النُّورُ: الإيمانُ يُخْرِجُهم مِنَ الظُّلُماتِ إلى النُّورِ، أوِ الإسْلامُ هو النُّورُ، أوْ يُقالُ: الدِّينُ وضْعٌ إلَهِيٌّ سائِقٌ لِأُولِي الألْبابِ إلى الخَيِّراتِ بِاخْتِيارِهِمُ المَحْمُودِ وذَلِكَ هو النُّورُ، والكِتابُ هو المُبِينُ قالَ تَعالى: ﴿تِلْكَ آياتُ الكِتابِ المُبِينِ﴾ [يوسف: ١] فالإبانَةُ والكِتابُ هو النُّورُ، أوْ يُقالُ: الكِتابُ حُجَّةٌ لِكَوْنِهِ مُعْجِزًا، والحُجَّةُ هو النُّورُ، فالكِتابُ كَذَلِكَ، أوْ يُقالُ في الرَّسُولِ إنَّهُ النُّورُ، وإلّا لَما وُصِفَ بِصِفَةِ كَوْنِهِ رَحْمَةً لِلْعالِمِينَ، إذِ الرَّحْمَةُ بِإظْهارِ ما يَكُونُ مِنَ الأسْرارِ وذَلِكَ بِالنُّورِ، أوْ نَقُولُ: إنَّهُ هو النُّورُ، لِأنَّهُ بِواسِطَتِهِ اهْتَدى الخَلْقُ، أوْ هو النُّورُ لِكَوْنِهِ مُبَيِّنًا لِلنّاسِ ما نَزَلَ إلَيْهِمْ، والمُبِينُ هو النُّورُ، ثُمَّ الفَوائِدُ في كَوْنِهِ نُورًا وُجُوهٌ
مِنها: أنَّهُ يَدُلُّ عَلى عُلُوِّ شَأْنِهِ وعَظْمَةِ بُرْهانِهِ، وذَلِكَ لِوَجْهَيْنِ:
أحَدُهُما: الوَصْفُ بِالنُّورِ.
وثانِيهِما: الإضافَةُ إلى الحَضْرَةِ.
(ومِنها): أنَّهُ إذا كانَ نُورًا مِن أنْوارِ اللَّهِ تَعالى كانَ مُشْرِقًا في جَمِيعِ أقْطارِ العالَمِ، لِأنَّهُ لا يَكُونُ مَخْصُوصًا بِبَعْضِ الجَوانِبِ، فَكانَ رَسُولًا إلى جَمِيعِ الخَلائِقِ، لِما رُوِيَ عَنْهُ ﷺ: ”«بُعِثْتُ إلى الأحْمَرِ والأسْوَدِ» “ فَلا يُوجَدُ شَخْصٌ مِنَ الجِنِّ والإنْسِ إلّا ويَكُونُ مِن أُمَّتِهِ إنْ كانَ مُؤْمِنًا فَهو مِن أُمَّةِ المُتابَعَةِ، وإنْ كانَ كافِرًا فَهو مِن أُمَّةِ الدَّعْوَةِ.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولَوْ كَرِهَ الكافِرُونَ﴾ أيِ اليَهُودُ والنَّصارى وغَيْرُهم مِنَ المُشْرِكِينَ، وقَوْلُهُ: ﴿بِالهُدى﴾ لِمَنِ اتَّبَعَهُ (ودِينِ الحَقِّ) قِيلَ: الحَقُّ هو اللَّهُ تَعالى، أيْ دِينِ اللَّهِ. وقِيلَ: نَعْتٌ لِلدِّينِ، أيْ والدِّينُ هو الحَقُّ، وقِيلَ: الَّذِي يَحِقُّ أنْ يَتَّبِعَهُ كُلُّ أحَدٍ و﴿لِيُظْهِرَهُ عَلى الدِّينِ كُلِّهِ﴾ يُرِيدُ الإسْلامَ، وقِيلَ: لِيَظْهَرَهُ، أيِ الرَّسُولُ ﷺ بِالغَلَبَةِ وذَلِكَ بِالحُجَّةِ، وهَهُنا مَباحِثُ:
الأوَّلُ: ﴿واللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ﴾ والتَّمامُ لا يَكُونُ إلّا عِنْدَ النُّقْصانِ، فَكَيْفَ نُقْصانُ هَذا النُّورِ ؟ فَنَقُولُ إتْمامُهُ بِحَسَبِ النُّقْصانِ في الأثَرِ، وهو الظُّهُورُ في سائِرِ البِلادِ مِنَ المَشارِقِ إلى المَغارِبِ، إذِ الظُّهُورُ لا يَظْهَرُ إلّا بِالإظْهارِ وهو الإتْمامُ، يُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿اليَوْمَ أكْمَلْتُ لَكم دِينَكُمْ﴾ [المائدة: ٣] وعَنْ أبِي هُرَيْرَةَ: أنَّ ذَلِكَ عِنْدَ نُزُولِ عِيسى مِنَ السَّماءِ، قالَهُ مُجاهِدٌ.(p-٢٧٤)
الثّانِي: قالَ هَهُنا: ﴿مُتِمُّ نُورِهِ﴾ وقالَ في مَوْضِعٍ آخَرَ: ﴿مَثَلُ نُورِهِ﴾ [النور: ٣٥] وهَذا عَيْنُ ذَلِكَ أوْ غَيْرُهُ ؟ نَقُولُ: هو غَيْرُهُ، لِأنَّ نُورَ اللَّهِ في ذَلِكَ المَوْضِعِ هو اللَّهُ تَعالى عِنْدَ أهْلِ التَّحْقِيقِ، وهُنا هو الدِّينُ أوِ الكِتابُ أوِ الرَّسُولُ.
الثّالِثُ: قالَ في الآيَةِ المُتَقَدِّمَةِ: ﴿ولَوْ كَرِهَ الكافِرُونَ﴾ وقالَ في المُتَأخِّرَةِ: ﴿ولَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ﴾ فَما الحِكْمَةُ فِيهِ ؟ فَنَقُولُ: إنَّهم أنْكَرُوا الرَّسُولَ، وما أُنْزِلَ إلَيْهِ وهو الكِتابُ، وذَلِكَ مِن نِعَمِ اللَّهِ، والكافِرُونَ كُلُّهم في كُفْرانِ النِّعَمِ، فَلِهَذا قالَ: ﴿ولَوْ كَرِهَ الكافِرُونَ﴾ ولِأنَّ لَفْظَ الكافِرِ أعَمُّ مِن لَفْظِ المُشْرِكِ، والمُرادُ مِنَ الكافِرِينَ هَهُنا اليَهُودُ والنَّصارى والمُشْرِكُونَ، وهُنا ذَكَرَ النُّورَ وإطْفاءَهُ، واللّائِقُ الكُفْرُ لِأنَّهُ السَّتْرُ والتَّغْطِيَةُ، لِأنَّ مَن يُحاوِلُ الإطْفاءَ إنَّما يُرِيدُ الزَّوالَ، وفي الآيَةِ الثّانِيَةِ ذَكَرَ الرَّسُولَ والإرْسالَ ودِينَ الحَقِّ، وذَلِكَ مَنزِلَةٌ عَظِيمَةٌ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلامُ، وهي اعْتِراضٌ عَلى اللَّهِ تَعالى كَما قالَ:
؎ألا قُلْ لِمَن ظَلَّ لِي حاسِدًا أتَدْرِي عَلى مَن أسَأْتَ الأدَبَ
؎أسَأْتَ عَلى اللَّهِ في فِعْلِهِ ∗∗∗ كَأنَّهُ لَمْ تَرْضَ لِي ما وهَبَ
والِاعْتِراضُ قَرِيبٌ مِنَ الشِّرْكِ، ولِأنَّ الحاسِدِينَ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلامُ كانَ أكْثَرُهم مِن قُرَيْشٍ وهُمُ المُشْرِكُونَ، ولَمّا كانَ النُّورُ أعَمَّ مِنَ الدِّينِ والرَّسُولِ، لا جَرَمَ قابَلَهُ بِالكافِرِينَ الَّذِينَ هم جَمِيعُ مُخالِفِي الإسْلامِ والإرْسالِ، والرَّسُولُ والدِّينُ أخَصُّ مِنَ النُّورِ قابَلَهُ بِالمُشْرِكِينَ الَّذِينَ هم أخَصُّ مِنَ الكافِرِينَ.
{"ayahs_start":8,"ayahs":["یُرِیدُونَ لِیُطۡفِـُٔوا۟ نُورَ ٱللَّهِ بِأَفۡوَ ٰهِهِمۡ وَٱللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِۦ وَلَوۡ كَرِهَ ٱلۡكَـٰفِرُونَ","هُوَ ٱلَّذِیۤ أَرۡسَلَ رَسُولَهُۥ بِٱلۡهُدَىٰ وَدِینِ ٱلۡحَقِّ لِیُظۡهِرَهُۥ عَلَى ٱلدِّینِ كُلِّهِۦ وَلَوۡ كَرِهَ ٱلۡمُشۡرِكُونَ"],"ayah":"هُوَ ٱلَّذِیۤ أَرۡسَلَ رَسُولَهُۥ بِٱلۡهُدَىٰ وَدِینِ ٱلۡحَقِّ لِیُظۡهِرَهُۥ عَلَى ٱلدِّینِ كُلِّهِۦ وَلَوۡ كَرِهَ ٱلۡمُشۡرِكُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق