الباحث القرآني

ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وإذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ ياقَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وقَدْ تَعْلَمُونَ أنِّي رَسُولُ اللَّهِ إلَيْكم فَلَمّا زاغُوا أزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهم واللَّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الفاسِقِينَ﴾ مَعْناهُ اذْكُرْ هَذِهِ القِصَّةَ، وإذْ مَنصُوبٌ بِإضْمارِ اذْكُرْ أيْ حِينِ قالَ لَهم: ﴿تُؤْذُونَنِي﴾ وكانُوا يُؤْذُونَهُ بِأنْواعِ الأذى قَوْلًا وفِعْلًا، فَقالُوا: ﴿أرِنا اللَّهَ جَهْرَةً﴾، ﴿لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ﴾ وقِيلَ: قَدْ رَمَوْهُ بِالأُدْرَةِ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وقَدْ تَعْلَمُونَ أنِّي رَسُولُ اللَّهِ﴾ في مَوْضِعِ الحالِ، أيْ تُؤْذُونَنِي عالِمِينَ عِلْمًا قَطْعِيًّا أنِّي رَسُولُ اللَّهِ وقَضِيَّةُ عِلْمِكم بِذَلِكَ مُوجِبَةٌ لِلتَّعْظِيمِ والتَّوْقِيرِ، وقَوْلُهُ: ﴿فَلَمّا زاغُوا﴾ أيْ مالُوا إلى غَيْرِ الحَقِّ ﴿أزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾ أيْ أمالَها عَنِ الحَقِّ، وهو قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ وقالَ مُقاتِلٌ: ”﴿زاغُوا﴾“ أيْ عَدَلُوا عَنِ الحَقِّ بِأبْدانِهِمْ ﴿أزاغَ اللَّهُ﴾ أيْ أمالَ اللَّهُ قُلُوبَهم عَنِ الحَقِّ وأضَلَّهم جَزاءَ ما عَمِلُوا، ويَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿واللَّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الفاسِقِينَ﴾ قالَ أبُو إسْحاقَ مَعْناهُ: واللَّهُ لا يَهْدِي مَن سَبَقَ في عَمَلِهِ أنَّهُ فاسِقٌ، وفي هَذا تَنْبِيهٌ عَلى عِظَمِ إيذاءِ الرَّسُولِ ﷺ حَتّى إنَّهُ يُؤَدِّي إلى الكُفْرِ وزَيْغِ القُلُوبِ عَنِ الهُدى ”وقَدْ“ مَعْناهُ التَّوْكِيدُ كَأنَّهُ قالَ: وتَعْلَمُونَ عِلْمًا يَقِينِيًّا لا شُبْهَةَ لَكم فِيهِ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وإذْ قالَ عِيسى ابْنُ مَرْيَمَ يابَنِي إسْرائِيلَ إنِّي رَسُولُ اللَّهِ إلَيْكم مُصَدِّقًا لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ ومُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أحْمَدُ فَلَمّا جاءَهم بِالبَيِّناتِ قالُوا هَذا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾ ﴿ومَن أظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلى اللَّهِ الكَذِبَ وهو يُدْعى إلى الإسْلامِ واللَّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الظّالِمِينَ﴾ قَوْلُهُ: ﴿إنِّي رَسُولُ اللَّهِ﴾ أيِ اذْكُرُوا أنِّي رَسُولُ اللَّهِ أُرْسِلْتُ إلَيْكم بِالوَصْفِ الَّذِي وُصِفْتُ بِهِ في التَّوْراةِ، ومُصَدِّقًا بِالتَّوْراةِ، وبِكُتُبِ اللَّهِ وبِأنْبِيائِهِ جَمِيعًا مِمَّنْ تَقَدَّمَ وتَأخَّرَ ﴿ومُبَشِّرًا بِرَسُولٍ﴾ يُصَدِّقُ بِالتَّوْراةِ عَلى مِثْلِ (p-٢٧٢)تَصْدِيقِي، فَكَأنَّهُ قِيلَ لَهُ: ما اسْمُهُ ؟ فَقالَ: اسْمُهُ أحْمَدُ، فَقَوْلُهُ: ﴿يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أحْمَدُ﴾ جُمْلَتانِ في مَوْضِعِ الجَرِّ لِأنَّهُما صِفَتانِ لِلنَّكِرَةِ الَّتِي هي رَسُولٌ، وفي ﴿بَعْدِي اسْمُهُ﴾ قِراءَتانِ تَحْرِيكُ الياءِ بِالفَتْحِ عَلى الأصْلِ، وهو الِاخْتِيارُ عِنْدَ الخَلِيلِ وسِيبَوَيْهِ في كُلِّ مَوْضِعٍ تَذْهَبُ فِيهِ الياءُ لِالتِقاءِ ساكِنَيْنِ، وإسْكانُها كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ﴾ [نوح: ٢٨] فَمَن أسْكَنَ في قَوْلِهِ: ﴿مِن بَعْدِي اسْمُهُ﴾ حَذَفَ الياءَ والسِّينَ مِنَ اسْمِهِ، قالَهُ المُبَرِّدُ وأبُو عَلِيٍّ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿أحْمَدُ﴾ يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ: أحَدُهُما: المُبالَغَةُ في الفاعِلِ، يَعْنِي أنَّهُ أكْثَرُ حَمْدًا لِلَّهِ مِن غَيْرِهِ. وثانِيهِما: المُبالَغَةُ مِنَ المَفْعُولِ، يَعْنِي أنَّهُ يُحْمَدُ بِما فِيهِ مِنَ الإخْلاصِ والأخْلاقِ الحَسَنَةِ أكْثَرَ ما يُحْمَدُ غَيْرُهُ. ولْنَذْكُرِ الآنَ بَعْضَ ما جاءَ بِهِ عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ، بِمَقْدَمِ سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلامُ في الإنْجِيلِ في عِدَّةِ مَواضِعَ: أوَّلُها: في الإصْحاحِ الرّابِعَ عَشَرَ مِن إنْجِيلِ يُوحَنّا هَكَذا: ”وأنا أطْلُبُ لَكم إلَيَّ أبِي حَتّى يَمْنَحَكم ويُعْطِيَكُمُ الفارَقَلِيطَ حَتّى يَكُونَ مَعَكم إلى الأبَدِ، والفارَقَلِيطُ هو رُوحُ الحَقِّ اليَقِينِ“ هَذا لَفْظُ الإنْجِيلِ المَنقُولِ إلى العَرَبِيِّ، وذَكَرَ في الإصْحاحِ الخامِسَ عَشَرَ هَذا اللَّفْظَ: ”وأمّا الفارَقَلِيطُ رُوحُ القُدُسِ يُرْسِلُهُ أبِي باسِمِي، ويُعَلِّمُكم ويَمْنَحُكم جَمِيعَ الأشْياءِ، وهو يُذَكِّرُكم ما قَلْتُ لَكم“ ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ بِقَلِيلٍ: ”وإنِّي قَدْ خَبَّرْتُكم بِهَذا قَبْلَ أنْ يَكُونَ حَتّى إذا كانَ ذَلِكَ تُؤْمِنُونَ“ . وثانِيها: ذَكَرَ في الإصْحاحِ السّادِسَ عَشَرَ هَكَذا: ”ولَكِنْ أقُولُ لَكُمُ الآنَ حَقًّا يَقِينًا انْطِلاقِي عَنْكم خَيْرٌ لَكم، فَإنْ لَمْ أنْطَلِقْ عَنْكم إلى أبِي لَمْ يَأْتِكُمُ الفارَقِلِيطُ، وإنِ انْطَلَقْتُ أرْسَلْتُهُ إلَيْكم، فَإذا جاءَ هو يُفِيدُ أهْلَ العالَمِ، ويُدِينُهم ويَمْنَحُهم ويُوقِفُهم عَلى الخَطِيئَةِ والبِرِّ والدِّينِ“ . وثالِثُها: ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ بِقَلِيلٍ هَكَذا: ”فَإنَّ لِي كَلامًا كَثِيرًا أُرِيدُ أنْ أقُولَهُ لَكم، ولَكِنْ لا تَقْدِرُونَ عَلى قَبُولِهِ والِاحْتِفاظِ بِهِ، ولَكِنْ إذا جاءَ رُوحُ الحَقِّ إلَيْكم يُلْهِمُكم ويُؤَيِّدُكم بِجَمِيعِ الحَقِّ، لِأنَّهُ لَيْسَ يَتَكَلَّمُ بِدْعَةً مِن تِلْقاءِ نَفْسِهِ“ هَذا ما في الإنْجِيلِ، فَإنْ قِيلَ: المُرادُ بِفارَقَلِيطَ إذا جاءَ يُرْشِدُهم إلى الحَقِّ ويُعَلِّمُهُمُ الشَّرِيعَةَ، وهو عِيسى يَجِيءُ بَعْدَ الصَّلْبِ ؟ نَقُولُ: ذَكَرَ الحَوارِيُّونَ في آخِرِ الإنْجِيلِ أنَّ عِيسى لَمّا جاءَ بَعْدَ الصَّلْبِ ما ذَكَرَ شَيْئًا مِنَ الشَّرِيعَةِ، وما عَلَّمَهم شَيْئًا مِنَ الأحْكامِ، وما لَبِثَ عِنْدَهم إلّا لَحْظَةً، وما تَكَلَّمَ إلّا قَلِيلًا، مِثْلَ أنَّهُ قالَ: ”أنا المَسِيحُ فَلا تَظُنُّونِي مَيِّتًا، بَلْ أنا ناجٍ عِنْدَ اللَّهِ ناظِرٌ إلَيْكم، وإنِّي ما أُوحِي بَعْدَ ذَلِكَ إلَيْكم“ فَهَذا تَمامُ الكَلامِ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَلَمّا جاءَهم بِالبَيِّناتِ﴾ قِيلَ: هو عِيسى، وقِيلَ: هو مُحَمَّدٌ، ويَدُلُّ عَلى أنَّ الَّذِي جاءَهم بِالبَيِّناتِ جاءَهم بِالمُعْجِزاتِ والبَيِّناتِ الَّتِي تُبَيِّنُ أنَّ الَّذِي جاءَ بِهِ مِن عِنْدِ اللَّهِ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿هَذا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾ أيْ ساحِرٌ مُبِينٌ. وقَوْلُهُ: ﴿ومَن أظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلى اللَّهِ الكَذِبَ﴾ أيْ مَن أقْبَحُ ظُلْمًا مِمَّنْ بَلَغَ افْتِراؤُهُ المَبْلَغَ الَّذِي يَفْتَرِي عَلى اللَّهِ الكَذِبَ وأنَّهم قَدْ عَلِمُوا أنَّ ما نالُوهُ مِن نِعْمَةٍ وكَرامَةٍ فَإنَّما نالُوهُ مِنَ اللَّهِ تَعالى، ثُمَّ كَفَرُوا بِهِ وكَذَبُوا عَلى اللَّهِ وعَلى رَسُولِهِ: ﴿واللَّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الظّالِمِينَ﴾ أيْ لا يُوَفِّقُهُمُ اللَّهُ لِلطّاعَةِ عُقُوبَةً لَهم. وفِي الآيَةِ بَحْثٌ: وهو أنْ يُقالَ: بِمَ انْتَصَبَ مُصَدِّقًا ومُبَشِّرًا أبِما في الرَّسُولِ مِن مَعْنى الإرْسالِ أمْ إلَيْكم ؟ نَقُولُ: بَلْ بِمَعْنى الإرْسالِ لِأنَّ إلَيْكم صِلَةٌ لِلرَّسُولِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب