الباحث القرآني
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا واغْفِرْ لَنا رَبَّنا إنَّكَ أنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ﴾ ﴿لَقَدْ كانَ لَكم فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كانَ يَرْجُو اللَّهَ واليَوْمَ الآخِرَ ومَن يَتَوَلَّ فَإنَّ اللَّهَ هو الغَنِيُّ الحَمِيدُ﴾ ﴿عَسى اللَّهُ أنْ يَجْعَلَ بَيْنَكم وبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنهم مَوَدَّةً واللَّهُ قَدِيرٌ واللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾
قَوْلُهُ: ﴿رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً﴾ مِن دُعاءِ إبْراهِيمَ. قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: لا تُسَلِّطْ عَلَيْنا أعْداءَنا فَيَظُنُّوا أنَّهم عَلى الحَقِّ، وقالَ مُجاهِدٌ: لا تُعَذِّبْنا بِأيْدِيهِمْ ولا بِعَذابٍ مِن عِنْدِكَ فَيَقُولُوا لَوْ كانَ هَؤُلاءِ عَلى الحَقِّ لَما أصابَهم ذَلِكَ، وقِيلَ: لا تَبْسُطْ عَلَيْهِمُ الرِّزْقَ دُونَنا، فَإنَّ ذَلِكَ فِتْنَةٌ لَهم، وقِيلَ: قَوْلُهُ لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً، أيْ عَذابًا أيْ سَبَبًا يُعَذَّبُ بِهِ الكَفَرَةُ، وعَلى هَذا لَيْسَتِ الآيَةُ مِن قَوْلِ إبْراهِيمَ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿واغْفِرْ لَنا رَبَّنا﴾ الآيَةَ، مِن جُمْلَةِ ما مَرَّ، فَكَأنَّهُ قِيلَ: لِأصْحابِ مُحَمَّدٍ ﷺ: ﴿رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾ ثُمَّ أعادَ ذِكْرَ الأُسْوَةِ تَأْكِيدًا لِلْكَلامِ، فَقالَ: ﴿لَقَدْ كانَ لَكم فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ أيْ في إبْراهِيمَ والَّذِينَ مَعَهُ، وهَذا هو الحَثُّ عَنِ الِائْتِساءِ بِإبْراهِيمَ وقَوْمِهِ، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: كانُوا يَبْغَضُونَ مَن خالَفَ اللَّهَ ويُحِبُّونَ مَن أحَبَّ اللَّهَ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿لِمَن كانَ يَرْجُو اللَّهَ﴾ بَدَلٌ مِن قَوْلِهِ: (لَكم) وبَيانُ أنَّ هَذِهِ الأُسْوَةَ لِمَن يَخافُ اللَّهَ ويَخافُ عَذابَ الآخِرَةِ، ﴿ومَن يَتَوَلَّ﴾ أيْ يُعْرِضْ عَنِ الِائْتِساءِ بِهِمْ ويَمِيلُ إلى مَوَدَّةِ الكُفّارِ ﴿فَإنَّ اللَّهَ هو الغَنِيُّ﴾ عَنْ مُخالَفَةِ أعْدائِهِ ﴿الحَمِيدُ﴾ إلى أوْلِيائِهِ.
أمّا قَوْلُهُ: (عَسى اللَّهُ) فَقالَ مُقاتِلٌ: لَمّا أمَرَ اللَّهُ تَعالى المُؤْمِنِينَ بِعَداوَةِ الكُفّارِ شَدَّدُوا في عَداوَةِ آبائِهِمْ وأبْنائِهِمْ وجَمِيعِ أقارِبِهِمْ والبَراءَةِ مِنهم فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى قَوْلَهُ: ﴿عَسى اللَّهُ أنْ يَجْعَلَ بَيْنَكم وبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنهُمْ﴾ أيْ مِن كَفّارِ مَكَّةَ (مَوَدَّةً) وذَلِكَ بِمَيْلِهِمْ إلى الإسْلامِ ومُخالَطَتِهِمْ مَعَ أهْلِ الإسْلامِ ومُناكَحَتِهِمْ إيّاهم. وقِيلَ: «تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أُمَّ حَبِيبَةَ، فَلانَتْ عِنْدَ ذَلِكَ عَرِيكَةُ أبِي سُفْيانَ، واسْتَرْخَتْ شَكِيمَتُهُ في العَداوَةِ، وكانَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ قَدْ أسْلَمَتْ، وهاجَرَتْ مَعَ زَوْجِها عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ إلى الحَبَشَةِ، فَتَنَصَّرَ وراوَدَها عَلى النَّصْرانِيَّةِ فَأبَتْ، وصَبَرَتْ عَلى دِينِها، وماتَ زَوْجُها، فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إلى النَّجاشِيِّ، فَخَطَبَها عَلَيْهِ، وساقَ عَنْهُ إلَيْها أرْبَعَمِائَةِ دِينارٍ، وبَلَغَ ذَلِكَ أباها فَقالَ: ذَلِكَ الفَحْلُ لا يُفْدَغُ أنْفُهُ»، و(عَسى) وعْدٌ مِنَ اللَّهِ تَعالى: ﴿وبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنهم مَوَدَّةً﴾ يُرِيدُ نَفَرًا مِن قُرَيْشٍ آمَنُوا بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ، مِنهم أبُو سُفْيانَ بْنُ حَرْبٍ، وأبُو سُفْيانَ بْنُ الحارِثِ، والحارِثُ بْنُ هِشامٍ، وسُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، وحَكِيمُ بْنُ حِزامٍ، واللَّهُ تَعالى قادِرٌ عَلى تَقْلِيبِ القُلُوبِ، وتَغْيِيرِ الأحْوالِ، وتَسْهِيلِ أسْبابِ المَوَدَّةِ، ﴿واللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ بِهِمْ إذا تابُوا وأسْلَمُوا، ورَجَعُوا إلى حَضْرَةِ اللَّهِ تَعالى، قالَ بَعْضُهم: لا تَهْجُرُوا كُلَّ الهَجْرِ، فَإنَّ اللَّهَ مُطَّلِعٌ عَلى الخَفِيّاتِ والسَّرائِرِ. ويُرْوى: «أحْبِبْ حَبِيبَكَ هَوْنًا ما، عَسى أنْ يَكُونَ بَغِيضَكَ يَوْمًا ما» .
ومِنَ المَباحِثِ في هَذِهِ الحِكْمَةِ هو أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً﴾ إذا كانَ تَأْوِيلُهُ: لا تُسَلِّطْ عَلَيْنا أعْداءَنا مَثَلًا، فَلِمَ تَرَكَ هَذا، وأتى بِذَلِكَ ؟ فَنَقُولُ: إذا كانَ ذَلِكَ بِحَيْثُ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ عِبارَةً عَنْ هَذا، فَإذا أتى بِهِ فَكَأنَّهُ أتى بِهَذا وذَلِكَ، وفِيهِ مِنَ الفَوائِدِ ما لَيْسَ في الِاقْتِصارِ عَلى واحِدٍ مِن تِلْكَ التَّأْوِيلاتِ.
الثّانِي: لِقائِلٍ أنْ يَقُولَ: ما الفائِدَةُ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿واغْفِرْ لَنا رَبَّنا﴾ وقَدْ كانَ الكَلامُ مُرَتَّبًا إذا قِيلَ: لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينِ كَفَرُوا إنَّكَ أنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ. فَنَقُولُ: إنَّهم طَلَبُوا البَراءَةَ عَنِ الفِتْنَةِ، والبَراءَةُ عَنِ الفِتْنَةِ لا (p-٢٦٣)يُمْكِنُ وُجُودُها بِدُونِ المَغْفِرَةِ، إذِ العاصِي لَوْ لَمْ يَكُنْ مَغْفُورًا كانَ مَقْهُورًا بِقَهْرِ العَذابِ، وذَلِكَ فِتْنَةٌ، إذِ الفِتْنَةُ عِبارَةٌ عَنْ كَوْنِهِ مَقْهُورًا، و﴿الحَمِيدُ﴾ قَدْ يَكُونُ بِمَعْنى الحامِدِ، وبِمَعْنى المَحْمُودِ، فالمَحْمُودُ أيْ يَسْتَحِقُّ الحَمْدَ مِن خَلْقِهِ بِما أنْعَمَ عَلَيْهِمْ، والحامِدُ أيْ يَحْمَدُ الخَلْقَ، ويَشْكُرُهم حَيْثُ يَجْزِيهِمْ بِالكَثِيرِ مِنَ الثَّوابِ عَنِ القَلِيلِ مِنَ الأعْمالِ.
ثُمَّ إنَّهُ تَعالى بَعْدَ ما ذَكَرَ مِن تَرْكِ انْقِطاعِ المُؤْمِنِينَ بِالكُلِّيَّةِ عَنِ الكُفّارِ رَخَّصَ في صِلَةِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوهم مِنَ الكُفّارِ فَقالَ:
{"ayahs_start":5,"ayahs":["رَبَّنَا لَا تَجۡعَلۡنَا فِتۡنَةࣰ لِّلَّذِینَ كَفَرُوا۟ وَٱغۡفِرۡ لَنَا رَبَّنَاۤۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡعَزِیزُ ٱلۡحَكِیمُ","لَقَدۡ كَانَ لَكُمۡ فِیهِمۡ أُسۡوَةٌ حَسَنَةࣱ لِّمَن كَانَ یَرۡجُوا۟ ٱللَّهَ وَٱلۡیَوۡمَ ٱلۡـَٔاخِرَۚ وَمَن یَتَوَلَّ فَإِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلۡغَنِیُّ ٱلۡحَمِیدُ","۞ عَسَى ٱللَّهُ أَن یَجۡعَلَ بَیۡنَكُمۡ وَبَیۡنَ ٱلَّذِینَ عَادَیۡتُم مِّنۡهُم مَّوَدَّةࣰۚ وَٱللَّهُ قَدِیرࣱۚ وَٱللَّهُ غَفُورࣱ رَّحِیمࣱ"],"ayah":"۞ عَسَى ٱللَّهُ أَن یَجۡعَلَ بَیۡنَكُمۡ وَبَیۡنَ ٱلَّذِینَ عَادَیۡتُم مِّنۡهُم مَّوَدَّةࣰۚ وَٱللَّهُ قَدِیرࣱۚ وَٱللَّهُ غَفُورࣱ رَّحِیمࣱ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق