الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الكِتابَ والحُكْمَ والنُّبُوَّةَ فَإنْ يَكْفُرْ بِها هَؤُلاءِ فَقَدْ وكَّلْنا بِها قَوْمًا لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ﴾
(p-٥٦)اعْلَمْ أنَّ قَوْلَهُ: (أُولَئِكَ) إشارَةٌ إلى الَّذِينَ مَضى ذِكْرُهم قَبْلَ ذَلِكَ وهُمُ الأنْبِياءُ الثَّمانِيَةَ عَشَرَ الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ اللَّهُ تَعالى قَبْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ ذَكَرَ تَعالى أنَّهُ آتاهُمُ الكِتابَ والحُكْمَ والنُّبُوَّةَ.
واعْلَمْ أنَّ العَطْفَ يُوجِبُ المُغايِرَةَ، فَهَذِهِ الألْفاظُ الثَّلاثَةُ لا بُدَّ وأنْ تَدُلَّ عَلى أُمُورٍ ثَلاثَةٍ مُتَغايِرَةٍ.
واعْلَمْ أنَّ الحُكّامَ عَلى الخَلْقِ ثَلاثُ طَوائِفَ:
أحَدُها: الَّذِينَ يَحْكُمُونَ عَلى بَواطِنِ النّاسِ وعَلى أرْواحِهِمْ، وهُمُ العُلَماءُ.
وثانِيها: الَّذِينَ يَحْكُمُونَ عَلى ظَواهِرِ الخَلْقِ، وهُمُ السَّلاطِينُ يَحْكُمُونَ عَلى النّاسِ بِالقَهْرِ والسَّلْطَنَةِ.
وثالِثُها: الأنْبِياءُ، وهُمُ الَّذِينَ أعْطاهُمُ اللَّهُ تَعالى مِنَ العُلُومِ والمَعارِفِ ما لِأجْلِهِ بِها يَقْدِرُونَ عَلى التَّصَرُّفِ في بَواطِنِ الخَلْقِ وأرْواحِهِمْ، وأيْضًا أعْطاهم مِنَ القُدْرَةِ والمُكْنَةِ ما لِأجْلِهِ يَقْدِرُونَ عَلى التَّصَرُّفِ في ظَواهِرِ الخَلْقِ، ولَمّا اسْتَجْمَعُوا هَذَيْنِ الوَصْفَيْنِ لا جَرَمَ كانُوا هُمُ الحُكّامَ عَلى الإطْلاقِ.
إذا عَرَفْتَ هَذِهِ المُقَدِّمَةَ فَقَوْلُهُ: ﴿آتَيْناهُمُ الكِتابَ﴾ إشارَةٌ إلى أنَّهُ تَعالى أعْطاهُمُ العَلَمَ الكَثِيرَ وقَوْلُهُ: (والحِكْمَ) إشارَةٌ إلى أنَّهُ تَعالى جَعَلَهم حُكّامًا عَلى النّاسِ نافِذِي الحُكْمِ فِيهِمْ بِحَسَبِ الظّاهِرِ. وقَوْلُهُ: (والنُّبُوَّةَ) إشارَةٌ إلى المَرْتَبَةِ الثّالِثَةِ، وهي الدَّرَجَةُ العالِيَةُ الرَّفِيعَةُ الشَّرِيفَةُ الَّتِي يَتَفَرَّعُ عَلى حُصُولِها حُصُولُ المُرَتَّبَتَيْنِ المُقَدَّمَتَيْنِ المَذْكُورَتَيْنِ، ولِلنّاسِ في هَذِهِ الألْفاظِ الثَّلاثَةِ تَفْسِيراتٌ كَثِيرَةٌ، والمُخْتارُ عِنْدَنا ما ذَكَرْناهُ.
واعْلَمْ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿آتَيْناهُمُ الكِتابَ﴾ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المُرادُ مِن هَذا الإيتاءِ الِابْتِداءَ بِالوَحْيِ والتَّنْزِيلِ عَلَيْهِ كَما في صُحُفِ إبْراهِيمَ وتَوْراةِ مُوسى، وإنْجِيلِ عِيسى - عَلَيْهِ السَّلامُ -، وقُرْآنِ مُحَمَّدٍ ﷺ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المُرادُ مِنهُ أنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ تَعالى فَهْمًا تامًّا لِما في الكِتابِ وعِلْمًا مُحِيطًا بِحَقائِقِهِ وأسْرارِهِ، وهَذا هو الأوْلى؛ لِأنَّ الأنْبِياءَ الثَّمانِيَةَ عَشَرَ المَذْكُورِينَ ما أنْزَلَ اللَّهُ تَعالى عَلى كُلِّ واحِدٍ مِنهم كِتابًا إلَهِيًّا عَلى التَّعْيِينِ والتَّخْصِيصِ.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿فَإنْ يَكْفُرْ بِها هَؤُلاءِ﴾ والمُرادُ فَإنْ يَكْفُرْ بِهَذا التَّوْحِيدِ والطَّعْنِ في الشِّرْكِ كَفّارُ قُرَيْشٍ ﴿فَقَدْ وكَّلْنا بِها قَوْمًا لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ﴾ وفِيهِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: اخْتَلَفُوا في أنَّ ذَلِكَ القَوْمَ مَن هم ؟ عَلى وُجُوهٍ:
فَقِيلَ: هم أهْلُ المَدِينَةِ وهُمُ الأنْصارُ.
وقِيلَ: المُهاجِرُونَ والأنْصارُ.
وقالَ الحَسَنُ: هُمُ الأنْبِياءُ الثَّمانِيَةَ عَشَرَ الَّذِينَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهم وهو اخْتِيارُ الزَّجّاجِ.
قالَ الزَّجّاجُ: والدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى بَعْدَ هَذِهِ الآيَةِ: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهِ﴾ .
وقالَ أبُو رَجاءٍ: يَعْنِي المَلائِكَةَ، وهو بَعِيدٌ لِأنَّ اسْمَ القَوْمِ قَلَّما يَقَعُ عَلى غَيْرِ بَنِي آدَمَ.
وقالَ مُجاهِدٌ: هُمُ الفُرْسُ.
وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: كُلُّ مَن لَمْ يَكْفُرْ فَهو مِنهم سَواءٌ كانَ مَلِكًا أوْ نَبِيًّا أوْ مِنَ الصَّحابَةِ أوْ مِنَ التّابِعِينَ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَقَدْ وكَّلْنا بِها قَوْمًا لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ﴾ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ إنَّما خَلَقَهم لِلْإيمانِ. وأمّا غَيْرُهم فَهو تَعالى ما خَلَقَهم لِلْإيمانِ؛ لِأنَّهُ تَعالى لَوْ خَلَقَ الكُلَّ لِلْإيمانِ كانَ البَيانُ والتَّمْكِينُ، وفِعْلُ الألْطافِ مُشْتَرَكًا فِيهِ بَيْنَ المُؤْمِنِ وغَيْرِ المُؤْمِنِ، وحِينَئِذٍ لا يَبْقى لِقَوْلِهِ: ﴿فَقَدْ وكَّلْنا بِها قَوْمًا لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ﴾ مَعْنًى.
وأجابَ الكَعْبِيُّ عَنْهُ مِن وجْهَيْنِ:
الأوَّلُ: أنَّهُ تَعالى زادَ المُؤْمِنِينَ عِنْدَ إيمانِهِمْ وبَعْدَهُ مِن ألْطافِهِ وفَوائِدِهِ وشَرِيفِ أحْكامِهِ ما لا يُحْصِيهِ إلّا اللَّهُ، وذَكَرَ في الجَوابِ وجْهًا ثانِيًا، فَقالَ: وبِتَقْدِيرِ أنْ يُسَوِّيَ لَكانَ بَعْضُهم إذا قَصَّرَ ولَمْ يَنْتَفِعْ صَحَّ أنْ يُقالَ بِحَسَبِ الظّاهِرِ إنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ نِعَمُ اللَّهِ كالوالِدِ الَّذِي يُسَوِّي بَيْنَ الوَلَدَيْنِ في (p-٥٧)العَطِيَّةِ، فَإنَّهُ يَصِحُّ أنْ يُقالَ: إنَّهُ أعْطى أحَدَهُما دُونَ الآخَرِ إذا كانَ ذَلِكَ الآخَرُ ضَيَّعَهُ وأفْسَدَهُ.
واعْلَمْ أنَّ الجَوابَ الأوَّلَ ضَعِيفٌ؛ لِأنَّ الألْطافَ الدّاعِيَةَ إلى الإيمانِ مُشْتَرَكَةٌ فِيما بَيْنَ الكافِرِ والمُؤْمِنِ؛ والتَّخْصِيصُ عِنْدَ المُعْتَزِلَةِ غَيْرُ جائِزٍ، والثّانِي أيْضًا فاسِدٌ؛ لِأنَّ الوالِدَ لَمّا سَوّى بَيْنَ الوَلَدَيْنِ في العَطِيَّةِ، ثُمَّ إنَّ أحَدَهُما ضَيَّعَ نَصِيبَهُ، فَأيُّ عاقِلٍ يَجُوزُ أنْ يُقالَ: إنَّ الأبَ ما أنْعَمَ عَلَيْهِ، وما أعْطاهُ شَيْئًا.
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: دَلَّتْ هَذِهِ الآيَةُ عَلى أنَّهُ تَعالى سَيَنْصُرُ نَبِيَّهُ ويُقَوِّي دِينَهُ، ويَجْعَلُهُ مُسْتَعْلِيًا عَلى كُلِّ مَن عاداهُ، قاهِرًا لِكُلِّ مَن نازَعَهُ، وقَدْ وقَعَ هَذا الَّذِي أخْبَرَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ في هَذا المَوْضِعِ، فَكانَ هَذا جارِيًا مَجْرى الإخْبارِ عَنِ الغَيْبِ، فَيَكُونُ مُعْجِزًا. واللَّهُ أعْلَمُ.
{"ayah":"أُو۟لَـٰۤىِٕكَ ٱلَّذِینَ ءَاتَیۡنَـٰهُمُ ٱلۡكِتَـٰبَ وَٱلۡحُكۡمَ وَٱلنُّبُوَّةَۚ فَإِن یَكۡفُرۡ بِهَا هَـٰۤؤُلَاۤءِ فَقَدۡ وَكَّلۡنَا بِهَا قَوۡمࣰا لَّیۡسُوا۟ بِهَا بِكَـٰفِرِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق