الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وكَذَلِكَ نُرِي إبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ والأرْضِ ولِيَكُونَ مِنَ المُوقِنِينَ﴾
فِيهِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: ”الكافُ“ في كَذَلِكَ لِلتَّشْبِيهِ، وذَلِكَ إشارَةٌ إلى غائِبٍ جَرى ذِكْرُهُ، والمَذْكُورُ هَهُنا فِيما قَبْلُ هو أنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - اسْتَقْبَحَ عِبادَةَ الأصْنامِ، وهو قَوْلُهُ: ﴿إنِّي أراكَ وقَوْمَكَ في ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ والمَعْنى: ومِثْلُ ما أرَيْناهُ مِن قُبْحِ عِبادَةِ الأصْنامِ نُرِيهِ مَلَكُوتَ السَّماواتِ والأرْضِ. وهَهُنا دَقِيقَةٌ عَقْلِيَّةٌ، وهي أنَّ نُورَ جَلالِ اللَّهِ (p-٣٥)تَعالى لائِحٌ غَيْرُ مُنْقَطِعٍ ولا زائِلٍ البَتَّةَ، والأرْواحُ البَشَرِيَّةُ لا تَصِيرُ مَحْرُومَةً عَنْ تِلْكَ الأنْوارِ إلّا لِأجْلِ حِجابٍ، وذَلِكَ الحِجابُ لَيْسَ إلّا الِاشْتِغالُ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعالى، فَإذا كانَ الأمْرُ كَذَلِكَ فَبِقَدْرِ ما يَزُولُ ذَلِكَ الحِجابُ يَحْصُلُ هَذا التَّجَلِّي فَقَوْلُ إبْراهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلامُ -: ﴿أتَتَّخِذُ أصْنامًا آلِهَةً﴾ إشارَةٌ إلى تَقْبِيحِ الِاشْتِغالِ بِعِبادَةِ غَيْرِ اللَّهِ تَعالى؛ لِأنَّ كُلَّ ما سِوى اللَّهِ فَهو حِجابٌ عَنِ اللَّهِ تَعالى، فَلَمّا زالَ ذَلِكَ الحِجابُ لا جَرَمَ تَجَلّى لَهُ مَلَكُوتُ السَّماواتِ بِالتَّمامِ، فَقَوْلُهُ: ﴿وكَذَلِكَ نُرِي إبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ﴾ مَعْناهُ: وبَعْدَ زَوالِ الِاشْتِغالِ بِغَيْرِ اللَّهِ حَصَلَ لَهُ نُورُ تَجَلِّي جَلالِ اللَّهِ تَعالى، فَكانَ قَوْلُهُ: (وكَذَلِكَ) مَنشَأً لِهَذِهِ الفائِدَةِ الشَّرِيفَةِ الرُّوحانِيَّةِ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: لِقائِلٍ أنْ يَقُولَ هَذِهِ الإراءَةُ قَدْ حَصَلَتْ فِيما تَقَدَّمَ مِنَ الزَّمانِ، فَكانَ الأوْلى أنْ يُقالَ: وكَذَلِكَ أرَيْنا إبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ والأرْضِ، فَلِمَ عَدَلَ عَنْ هَذِهِ اللَّفْظَةِ إلى قَوْلِهِ: ﴿وكَذَلِكَ نُرِي﴾ ؟
قُلْنا: الجَوابُ عَنْهُ مِن وُجُوهٍ:
الأوَّلُ: أنْ يَكُونَ تَقْدِيرُ الآيَةِ، وكَذَلِكَ كُنّا نُرِي إبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ والأرْضِ، فَيَكُونُ هَذا عَلى سَبِيلِ الحِكايَةِ عَنِ الماضِي. والمَعْنى أنَّهُ تَعالى لَمّا حَكى عَنْهُ أنَّهُ شافَهَ أباهُ الكَلامَ الخَشِنَ تَعَصُّبًا لِلدِّينِ الحَقِّ. فَكَأنَّهُ قِيلَ: وكَيْفَ بَلَغَ إبْراهِيمُ هَذا المَبْلَغَ العَظِيمَ في قُوَّةِ الدِّينِ، فَأُجِيبَ بِأنّا كُنّا نُرِيهِ مَلَكُوتَ السَّماواتِ والأرْضِ مِن وقْتِ طُفُولِيَّتِهِ لِأجْلِ أنْ يَصِيرَ مِنَ المُوقِنِينَ زَمانَ بُلُوغِهِ.
الوَجْهُ الثّانِي في الجَوابِ: وهو أعْلى وأشْرَفُ مِمّا تَقَدَّمَ، وهو أنّا نَقُولُ: إنَّهُ لَيْسَ المَقْصُودُ مِن إراءَةِ اللَّهِ إبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ والأرْضِ هو مُجَرَّدُ أنْ يَرى إبْراهِيمُ هَذا المَلَكُوتَ، بَلِ المَقْصُودُ أنْ يَراها فَيَتَوَسَّلَ بِها إلى مَعْرِفَةِ جَلالِ اللَّهِ تَعالى وقُدْسِهِ وعُلُوِّهِ وعَظَمَتِهِ. ومَعْلُومٌ أنَّ مَخْلُوقاتِ اللَّهِ وإنْ كانَتْ مُتَناهِيَةً في الذَّواتِ وفي الصِّفاتِ، إلّا أنَّ جِهاتِ دَلالاتِها عَلى الذَّواتِ والصِّفاتِ غَيْرُ مُتَناهِيَةٍ. وسَمِعْتُ الشَّيْخَ الإمامَ الوالِدَ عُمَرَ ضِياءَ الدِّينِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى - قالَ: سَمِعْتُ الشَّيْخَ أبا القاسِمِ الأنْصارِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ إمامَ الحَرَمَيْنِ يَقُولُ: مَعْلُوماتُ اللَّهِ تَعالى غَيْرُ مُتَناهِيَةٍ، ومَعْلُوماتُهُ في كُلِّ واحِدٍ مِن تِلْكَ المَعْلُوماتِ أيْضًا غَيْرُ مُتَناهِيَةٍ، وذَلِكَ لِأنَّ الجَوْهَرَ الفَرْدَ يُمْكِنُ وُقُوعُهُ في أحْيازٍ لا نِهايَةَ لَها عَلى البَدَلِ، ويُمْكِنُ إنْصافُهُ بِصِفاتٍ لا نِهايَةَ لَها عَلى البَدَلِ، وكُلُّ تِلْكَ الأحْوالِ التَّقْدِيرِيَّةِ دالَّةٌ عَلى حِكْمَةِ اللَّهِ تَعالى وقُدْرَتِهِ أيْضًا، وإذا كانَ الجَوْهَرُ الفَرْدُ والجُزْءُ الَّذِي لا يَتَجَزَّأُ كَذَلِكَ؛ فَكَيْفَ القَوْلُ في كُلِّ مَلَكُوتِ اللَّهِ تَعالى، فَثَبَتَ أنَّ دَلالَةَ مُلْكِ اللَّهِ تَعالى ومَلَكُوتِهِ عَلى نُعُوتِ جَلالِهِ وسِماتِ عَظَمَتِهِ وعِزَّتِهِ غَيْرُ مُتَناهِيَةٍ، وحُصُولُ المَعْلُوماتِ الَّتِي لا نِهايَةَ لَها دُفْعَةً واحِدَةً في عُقُولِ الخَلْقِ مُحالٌ، فَإذًا لا طَرِيقَ إلى تَحْصِيلِ تِلْكَ المَعارِفِ إلّا بِأنْ يَحْصُلَ بَعْضُها عَقِيبَ البَعْضِ لا إلى نِهايَةٍ ولا إلى آخِرٍ في المُسْتَقْبَلِ، فَلِهَذا السَّبَبِ -واللَّهُ أعْلَمُ- لَمْ يَقُلْ: وكَذَلِكَ أرَيْناهُ مَلَكُوتَ السَّماواتِ والأرْضِ، بَلْ قالَ: ﴿وكَذَلِكَ نُرِي إبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ والأرْضِ﴾ وهَذا هو المُرادُ مِن قَوْلِ المُحَقِّقِينَ السَّفَرُ إلى اللَّهِ لَهُ نِهايَةٌ، وأمّا السَّفَرُ في اللَّهِ فَإنَّهُ لا نِهايَةَ لَهُ. واللَّهُ أعْلَمُ.
* * *
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: ”المَلَكُوتُ“ هو المُلْكُ، و”التّاءُ“ لِلْمُبالَغَةِ كالرَّغَبُوتِ مِنَ الرَّغْبَةِ والرَّهَبُوتِ مِنَ الرَّهْبَةِ.
واعْلَمْ أنَّ في تَفْسِيرِهِ هَذِهِ الإراءَةَ قَوْلَيْنِ:
الأوَّلُ: أنَّ اللَّهَ أراهُ المَلَكُوتَ بِالعَيْنِ، قالُوا: إنَّ اللَّهَ تَعالى شَقَّ لَهُ السَّماواتِ حَتّى رَأى العَرْشَ والكُرْسِيَّ وإلى حَيْثُ يَنْتَهِي إلَيْهِ فَوْقِيَّةُ العالَمِ الجُسْمانِيِّ، وشَقَّ لَهُ الأرْضَ إلى حَيْثُ يَنْتَهِي إلى السَّطْحِ الآخَرِ مِنَ العالَمِ الجُسْمانِيِّ، ورَأى ما في السَّماواتِ مِنَ العَجائِبِ والبَدائِعِ، ورَأى ما في باطِنِ الأرْضِ مِنَ العَجائِبِ والبَدائِعِ. وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ قالَ: لَمّا أُسْرِيَ بِإبْراهِيمَ إلى السَّماءِ ورَأى ما في (p-٣٦)السَّماواتِ وما في الأرْضِ فَأبْصَرَ عَبْدًا عَلى فاحِشَةٍ فَدَعا عَلَيْهِ وعَلى آخَرَ بِالهَلاكِ، فَقالَ اللَّهُ تَعالى لَهُ: كُفَّ عَنْ عِبادِي فَهم بَيْنَ حالَيْنِ إمّا أنْ أجْعَلَ مِنهم ذَرِّيَّةً طَيِّبَةً أوْ يَتُوبُونَ فَأغْفِرَ لَهم أوِ النّارُ مِن ورائِهِمْ، وطَعَنَ القاضِي في هَذِهِ الرِّوايَةِ مِن وُجُوهٍ:
الأوَّلُ: أنَّ أهْلَ السَّماءِ هُمُ المَلائِكَةُ المُقَرَّبُونَ وهم لا يَعْصُونَ اللَّهَ، فَلا يَلِيقُ أنْ يُقالَ: إنَّهُ لَمّا رُفِعَ إلى السَّماءِ أبْصَرَ عَبْدًا عَلى فاحِشَةٍ.
الثّانِي: أنَّ الأنْبِياءَ لا يَدْعُونَ بِهَلاكِ المُذْنِبِ إلّا عَنْ أمْرِ اللَّهِ تَعالى، وإذا أذِنَ اللَّهُ تَعالى فِيهِ لَمْ يَجُزْ أنْ يَمْنَعَهُ مِن إجابَةِ دُعائِهِ.
الثّالِثُ: أنَّ ذَلِكَ الدُّعاءَ إمّا أنْ يَكُونَ صَوابًا أوْ خَطَأً، فَإنْ كانَ صَوابًا فَلِمَ رَدَّهُ في المَرَّةِ الثّانِيَةِ ؟ وإنْ كانَ خَطَأً فَلِمَ قَبِلَهُ في المَرَّةِ الأُولى ؟ ثُمَّ قالَ: وأخْبارُ الآحادِ إذا ورَدَتْ عَلى خِلافِ دَلائِلِ العُقُولِ وجَبَ التَّوَقُّفُ فِيها.
والقَوْلُ الثّانِي: أنَّ هَذِهِ الإراءَةَ كانَتْ بِعَيْنِ البَصِيرَةِ والعَقْلِ، لا بِالبَصَرِ الظّاهِرِ والحِسِّ الظّاهِرِ. واحْتَجَّ القائِلُونَ بِهَذا القَوْلِ بِوُجُوهٍ:
الحُجَّةُ الأُولى: أنَّ مَلَكُوتَ السَّماواتِ عِبارَةٌ عَنْ مُلْكِ السَّماءِ، والمُلْكُ عِبارَةٌ عَنِ القُدْرَةِ، وقُدْرَةُ اللَّهِ لا تُرى، وإنَّما تُعْرَفُ بِالعَقْلِ، وهَذا كَلامٌ قاطِعٌ، إلّا أنْ يُقالَ: المُرادُ بِمَلَكُوتِ السَّماواتِ والأرْضِ نَفْسُ السَّماواتِ والأرْضِ، إلّا أنَّ عَلى هَذا التَّقْدِيرِ يَضِيعُ لَفْظُ المَلَكُوتِ ولا يَحْصُلُ مِنهُ فائِدَةٌ.
والحُجَّةُ الثّانِيَةُ: أنَّهُ تَعالى ذَكَرَ هَذِهِ الإراءَةَ في أوَّلِ الآيَةِ عَلى سَبِيلِ الإجْمالِ وهو قَوْلُهُ: ﴿وكَذَلِكَ نُرِي إبْراهِيمَ﴾ [الأنْعامِ: ٧٥] ثُمَّ فَسَّرَها بَعْدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ﴿فَلَمّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَبًا﴾ [الأنعام: ٧٦] فَجَرى ذِكْرُ هَذا الِاسْتِدْلالِ كالشَّرْحِ والتَّفْسِيرِ لِتِلْكَ الإراءَةِ فَوَجَبَ أنْ يُقالَ: إنَّ تِلْكَ الإراءَةَ كانَتْ عِبارَةً عَنْ هَذا الِاسْتِدْلالِ.
والحُجَّةُ الثّالِثَةُ: أنَّهُ تَعالى قالَ في آخِرِ الآيَةِ: ﴿وتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ﴾ [الأنْعامِ: ٨٣] والرُّؤْيَةُ بِالعَيْنِ لا تَصِيرُ حُجَّةً عَلى قَوْمِهِ؛ لِأنَّهم كانُوا غائِبِينَ عَنْها وكانُوا يُكَذِّبُونَ إبْراهِيمَ فِيها وما كانَ يَجُوزُ لَهم تَصْدِيقُ إبْراهِيمَ في تِلْكَ الدَّعْوى إلّا بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ ومُعْجِزَةٍ باهِرَةٍ، وإنَّما كانَتِ الحُجَّةُ الَّتِي أوْرَدَها إبْراهِيمُ عَلى قَوْمِهِ في الِاسْتِدْلالِ بِالنُّجُومِ مِنَ الطَّرِيقِ الَّذِي نَطَقَ بِهِ القُرْآنُ. فَإنَّ تِلْكَ الأدِلَّةَ كانَتْ ظاهِرَةً لَهم كَما أنَّها كانَتْ ظاهِرَةً لِإبْراهِيمَ.
والحُجَّةُ الرّابِعَةُ: أنَّ إراءَةَ جَمِيعِ العالِمِ تُفِيدُ العِلْمَ الضَّرُورِيَّ بِأنَّ لِلْعالَمِ إلَهًا قادِرًا عَلى كُلِّ المُمْكِناتِ. ومِثْلُ هَذِهِ الحالَةِ لا يَحْصُلُ لِلْإنْسانِ بِسَبَبِها اسْتِحْقاقُ المَدْحِ والتَّعْظِيمِ. ألا تَرى أنَّ الكُفّارَ في الآخِرَةِ يَعْرِفُونَ اللَّهَ تَعالى بِالضَّرُورَةِ ولَيْسَ لَهم في تِلْكَ المَعْرِفَةِ مَدْحٌ ولا ثَوابٌ. وأمّا الِاسْتِدْلالُ بِصِفاتِ المَخْلُوقاتِ عَلى وُجُودِ الصّانِعِ وقُدْرَتِهِ وحِكْمَتِهِ فَذاكَ هو الَّذِي يُفِيدُ المَدْحَ والتَّعْظِيمَ.
والحُجَّةُ الخامِسَةُ: أنَّهُ تَعالى كَما قالَ في حَقِّ إبْراهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلامُ -: ﴿وكَذَلِكَ نُرِي إبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ والأرْضِ﴾ فَكَذَلِكَ قالَ في حَقِّ هَذِهِ الأُمَّةِ: ﴿سَنُرِيهِمْ آياتِنا في الآفاقِ وفي أنْفُسِهِمْ﴾ [فصلت: ٥٣] فَكَما كانَتْ هَذِهِ الإراءَةُ بِالبَصِيرَةِ الباطِنَةِ لا بِالبَصَرِ الظّاهِرِ فَكَذَلِكَ في حَقِّ إبْراهِيمَ لا يَبْعُدُ أنْ يَكُونَ الأمْرُ كَذَلِكَ.
الحُجَّةُ السّادِسَةُ: أنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - لَمّا تَمَّمَ الِاسْتِدْلالَ بِالنَّجْمِ والقَمَرِ والشَّمْسِ قالَ بَعْدَهُ: ﴿إنِّي وجَّهْتُ﴾ (p-٣٧)﴿وجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ والأرْضَ﴾ [الأنعام: ٧٩] فَحُكِمَ عَلى السَّماواتِ والأرْضِ بِكَوْنِها مَخْلُوقَةً لِأجْلِ الدَّلِيلِ الَّذِي ذَكَرَهُ في النَّجْمِ والقَمَرِ والشَّمْسِ. وذَلِكَ الدَّلِيلُ لَوْ لَمْ يَكُنْ عامًّا في كُلِّ السَّماواتِ والأرْضِ لَكانَ الحُكْمُ العامُّ بِناءً عَلى دَلِيلٍ خاصٍّ وإنَّهُ خَطَأٌ، فَثَبَتَ أنَّ ذَلِكَ الدَّلِيلَ كانَ عامًّا فَكانَ ذِكْرُ النَّجْمِ والقَمَرِ والشَّمْسِ كالمِثالِ لِإراءَةِ المَلَكُوتِ. فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ المُرادُ مِن إراءَةِ المَلَكُوتِ تَعْرِيفُ كَيْفِيَّةِ دَلالَتِها بِحَسَبِ تَغَيُّرِها وإمْكانِها وحُدُوثِها عَلى وُجُودِ الإلَهِ العالِمِ القادِرِ الحَكِيمِ فَتَكُونُ هَذِهِ الإراءَةُ بِالقَلْبِ لا بِالعَيْنِ.
الحُجَّةُ السّابِعَةُ: أنَّ اليَقِينَ عِبارَةٌ عَنِ العِلْمِ المُسْتَفادِ بِالتَّأمُّلِ إذا كانَ مَسْبُوقًا بِالشَّكِّ وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولِيَكُونَ مِنَ المُوقِنِينَ﴾ كالغَرَضِ مِن تِلْكَ الإراءَةِ فَيَصِيرُ تَقْدِيرُ الآيَةِ نُرِي إبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ والأرْضِ لِأجْلِ أنْ يَصِيرَ مِنَ المُوقِنِينَ. فَلَمّا كانَ اليَقِينُ هو العِلْمُ المُسْتَفادُ مِنَ الدَّلِيلِ، وجَبَ أنْ تَكُونَ تِلْكَ الإراءَةُ عِبارَةً عَنِ الِاسْتِدْلالِ.
الحُجَّةُ الثّامِنَةُ: أنَّ جَمِيعَ مَخْلُوقاتِ اللَّهِ تَعالى دالَّةٌ عَلى وُجُودِ الصّانِعِ وقُدْرَتِهِ بِاعْتِبارٍ واحِدٍ وهو أنَّها مُحْدَثَةٌ مُمْكِنَةٌ، وكُلُّ مُحْدَثٍ مُمْكِنٍ فَهو مُحْتاجٌ إلى الصّانِعِ. وإذا عَرَفَ الإنْسانُ هَذا الوَجْهَ الواحِدَ فَقَدْ كَفاهُ ذَلِكَ في الِاسْتِدْلالِ عَلى الصّانِعِ وكَأنَّهُ بِمَعْرِفَةِ هاتَيْنِ المُقَدِّمَتَيْنِ قَدْ طالَعَ جَمِيعَ المَلَكُوتِ بِعَيْنِ عَقْلِهِ وسَمِعَ بِأُذُنِ عَقْلِهِ شَهادَتَها بِالِاحْتِياجِ والِافْتِقارِ وهَذِهِ الرُّؤْيَةُ رُؤْيَةٌ باقِيَةٌ غَيْرُ زائِلَةٍ البَتَّةَ. ثُمَّ إنَّها غَيْرُ شامِلَةٍ عَنِ اللَّهِ تَعالى بَلْ هي شاغِلَةٌ لِلْقَلْبِ والرُّوحِ بِاللَّهِ. أمّا رُؤْيَةُ العَيْنِ فالإنْسانُ لا يُمْكِنُهُ أنْ يَرى بِالعَيْنِ أشْياءَ كَثِيرَةً دُفْعَةً واحِدَةً عَلى سَبِيلِ الكَمالِ. ألا تَرى أنَّ مَن نَظَرَ إلى صَحِيفَةٍ مَكْتُوبَةٍ فَإنَّهُ لا يَرى مِن تِلْكَ الصَّحِيفَةِ رُؤْيَةً كامِلَةً تامَّةً إلّا حَرْفًا واحِدًا، فَإنْ حَدَّقَ نَظَرَهُ إلى حَرْفٍ آخَرَ وشَغَلَ بَصَرَهُ بِهِ صارَ مَحْرُومًا عَنْ إدْراكِ الحَرْفِ الأوَّلِ، أوْ عَنْ إبْصارِهِ. فَثَبَتَ أنَّ رُؤْيَةَ الأشْياءِ الكَثِيرَةِ دُفْعَةً واحِدَةً غَيْرُ مُمْكِنَةٍ. وبِتَقْدِيرِ أنْ تَكُونَ مُمْكِنَةً هي غَيْرُ باقِيَةٍ، وبِتَقْدِيرِ أنْ تَكُونَ باقِيَةً هي شاغِلَةٌ عَنِ اللَّهِ تَعالى. ألا تَرى أنَّهُ تَعالى مَدَحَ مُحَمَّدًا - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - في تَرْكِ هَذِهِ الرُّؤْيَةِ فَقالَ: ﴿ما زاغَ البَصَرُ وما طَغى﴾ [النجم: ١٧] فَثَبَتَ بِجُمْلَةِ هَذِهِ الدَّلائِلِ أنَّ تِلْكَ الإراءَةَ كانَتْ إراءَةً بِحَسَبِ بَصِيرَةِ العَقْلِ، لا بِحَسَبِ البَصَرِ الظّاهِرِ.
فَإنْ قِيلَ: فَرُؤْيَةُ القَلْبِ عَلى هَذا التَّفْسِيرِ حاصِلَةٌ لِجَمِيعِ المُوَحِّدِينَ فَأيُّ فَضِيلَةٍ تَحْصُلُ لِإبْراهِيمَ بِسَبَبِها ؟
قُلْنا: جَمِيعُ المُوَحِّدِينَ وإنْ كانُوا يَعْرِفُونَ أصْلَ هَذا الدَّلِيلِ إلّا أنَّ الِاطِّلاعَ عَلى آثارِ حِكْمَةِ اللَّهِ تَعالى في كُلِّ واحِدٍ مِن مَخْلُوقاتِ هَذا العالَمِ بِحَسَبِ أجْناسِها وأنْواعِها وأصْنافِها وأشْخاصِها وأحْوالِها مِمّا لا يَحْصُلُ إلّا لِلْأكابِرِ مِنَ الأنْبِياءِ - عَلَيْهِمُ السَّلامُ -، ولِهَذا المَعْنى «كانَ رَسُولُنا - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - يَقُولُ في دُعائِهِ: ”اللَّهُمَّ أرِنا الأشْياءَ كَما هِيَ“» فَزالَ هَذا الإشْكالُ. واللَّهُ أعْلَمُ.
* * *
المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: اخْتَلَفُوا في ”الواوِ“ في قَوْلِهِ: ﴿ولِيَكُونَ مِنَ المُوقِنِينَ﴾ وذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا:
الأوَّلُ: الواوُ زائِدَةٌ والتَّقْدِيرُ: نُرِي إبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ والأرْضِ لِيَسْتَدِلَّ بِها لِيَكُونَ مِنَ المُوقِنِينَ.
الثّانِي: أنْ يَكُونَ هَذا كَلامًا مُسْتَأْنَفًا لِبَيانِ عِلَّةِ الإراءَةِ، والتَّقْدِيرُ: ولِيَكُونَ مِنَ المُوقِنِينَ نُرِيهِ مَلَكُوتَ السَّماواتِ والأرْضِ.
الثّالِثُ: أنَّ الإراءَةَ قَدْ تَحْصُلُ وتَصِيرُ سَبَبًا لِمَزِيدِ الضَّلالِ كَما في حَقِّ فِرْعَوْنَ قالَ تَعالى: ﴿ولَقَدْ أرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وأبى﴾ [طه: ٥٦] وقَدْ تَصِيرُ سَبَبًا لِمَزِيدِ الهِدايَةِ واليَقِينِ. فَلَمّا احْتَمَلَتِ الإراءَةُ هَذَيْنِ الِاحْتِمالَيْنِ قالَ (p-٣٨)تَعالى في حَقِّ إبْراهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلامُ -: إنّا أرَيْناهُ هَذِهِ الآياتِ لِيَراها ولِأجْلِ أنْ يَكُونَ مِنَ المُوقِنِينَ لا مِنَ الجاحِدِينَ. واللَّهُ أعْلَمُ.
المَسْألَةُ الخامِسَةُ: اليَقِينُ عِبارَةٌ عَنْ عِلْمٍ يَحْصُلُ بَعْدَ زَوالِ الشُّبْهَةِ بِسَبَبِ التَّأمُّلِ، ولِهَذا المَعْنى لا يُوصَفُ عِلْمُ اللَّهِ تَعالى بِكَوْنِهِ يَقِينًا؛ لِأنَّ عِلْمَهُ غَيْرُ مَسْبُوقٍ بِالشُّبْهَةِ وغَيْرُ مُسْتَفادٍ مِنَ الفِكْرِ والتَّأمُّلِ. واعْلَمْ أنَّ الإنْسانَ في أوَّلِ ما يَسْتَدِلُّ فَإنَّهُ لا يَنْفَكُّ قَلْبُهُ عَنْ شَكٍّ وشُبْهَةٍ مِن بَعْضِ الوُجُوهِ، فَإذا كَثُرَتِ الدَّلائِلُ وتَوافَقَتْ وتَطابَقَتْ صارَتْ سَبَبًا لِحُصُولِ اليَقِينِ؛ وذَلِكَ لِوُجُوهٍ:
الأوَّلُ: أنَّهُ يَحْصُلُ لِكُلِّ واحِدٍ مِن تِلْكَ الدَّلائِلِ نَوْعُ تَأثُّرٍ وقُوَّةٍ فَلا تَزالُ القُوَّةُ تَتَزايَدُ حَتّى نَنْتَهِيَ إلى الجَزْمِ.
الثّانِي: أنَّ كَثْرَةَ الأفْعالِ سَبَبٌ لِحُصُولِ المَلَكَةِ فَكَثْرَةُ الِاسْتِدْلالِ بِالدَّلائِلِ المُخْتَلِفَةِ عَلى المَدْلُولِ الواحِدِ جارٍ مَجْرى تَكْرارِ الدَّرْسِ الواحِدِ، فَكَما أنَّ كَثْرَةَ التَّكْرارِ تُفِيدُ الحِفْظَ المُتَأكَّدَ الَّذِي لا يَزُولُ عَنِ القَلْبِ، فَكَذا هَهُنا.
الثّالِثُ: أنَّ القَلْبَ عِنْدَ الِاسْتِدْلالِ كانَ مُظْلِمًا جِدًّا فَإذا حَصَلَ فِيهِ الِاعْتِقادُ المُسْتَفادُ مِنَ الدَّلِيلِ الأوَّلِ امْتَزَجَ نُورُ ذَلِكَ الِاسْتِدْلالِ بِظُلْمَةِ سائِرِ الصِّفاتِ الحاصِلَةِ في القَلْبِ، فَحَصَلَ فِيهِ حالَةٌ شَبِيهَةٌ بِالحالَةِ المُمْتَزِجَةِ مِنَ النُّورِ والظُّلْمَةِ، فَإذا حَصَلَ الِاسْتِدْلالُ الثّانِي امْتَزَجَ نُورُهُ بِالحالَةِ الأُولى، فَيَصِيرُ الإشْراقُ واللَّمَعانُ أتَمَّ. وكَما أنَّ الشَّمْسَ إذا قَرُبَتْ مِنَ المَشْرِقِ ظَهَرَ نُورُها في أوَّلِ الأمْرِ وهو الصُّبْحُ. فَكَذَلِكَ الِاسْتِدْلالُ الأوَّلُ يَكُونُ كالصُّبْحِ، ثُمَّ كَما أنَّ الصُّبْحَ لا يَزالُ يَتَزايَدُ بِسَبَبِ تَزايُدِ قُرْبِ الشَّمْسِ مِن سَمْتِ الرَّأْسِ، فَإذا وصَلَتْ إلى سَمْتِ الرَّأْسِ حَصَلَ النُّورُ التّامُّ، فَكَذَلِكَ العَبْدُ كُلَّما كانَ تَدَبُّرُهُ في مَراتِبِ مَخْلُوقاتِ اللَّهِ تَعالى أكْثَرَ كانَ شُرُوقُ نُورِ المَعْرِفَةِ والتَّوْحِيدِ أجْلى. إلّا أنَّ الفَرْقَ بَيْنَ شَمْسِ العِلْمِ وبَيْنَ شَمْسِ العالَمِ أنَّ شَمْسَ العالَمِ الجُسْمانِيِّ لَها في الِارْتِقاءِ والتَّصاعُدِ حَدٌّ مُعَيَّنٌ لا يُمْكِنُ أنْ يُزادَ عَلَيْهِ في الصُّعُودِ، وأمّا شَمْسُ المَعْرِفَةِ والعَقْلِ والتَّوْحِيدِ، فَلا نِهايَةَ لِتَصاعُدِها ولا غايَةَ لِازْدِيادِها فَقَوْلُهُ: ﴿وكَذَلِكَ نُرِي إبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ والأرْضِ﴾ إشارَةٌ إلى مَراتِبَ الدَّلائِلِ والبَيِّناتِ، وقَوْلُهُ: ﴿ولِيَكُونَ مِنَ المُوقِنِينَ﴾ إشارَةٌ إلى دَرَجاتِ أنْوارِ التَّجَلِّي وشُرُوقِ شَمْسِ المَعْرِفَةِ والتَّوْحِيدِ. واللَّهُ أعْلَمُ.
{"ayah":"وَكَذَ ٰلِكَ نُرِیۤ إِبۡرَ ٰهِیمَ مَلَكُوتَ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَلِیَكُونَ مِنَ ٱلۡمُوقِنِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق