الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وإذا رَأيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ في آياتِنا فَأعْرِضْ عَنْهم حَتّى يَخُوضُوا في حَدِيثٍ غَيْرِهِ وإمّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ القَوْمِ الظّالِمِينَ﴾ . اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى قالَ في الآيَةِ الأُولى: ﴿وكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وهو الحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكم بِوَكِيلٍ﴾ فَبَيَّنَ بِهِ أنَّ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِهَذا الدِّينِ فَإنَّهُ لا يَجِبُ عَلى الرَّسُولِ أنْ يُلازِمَهم، وأنْ يَكُونَ حَفِيظًا عَلَيْهِمْ ثُمَّ بَيَّنَ في هَذِهِ الآيَةِ أنَّ أُولَئِكَ المُكَذِّبِينَ إنْ ضَمُّوا إلى كُفْرِهِمْ وتْكَذِّبِيهِمْ الِاسْتِهْزاءَ بِالدِّينِ والطَّعْنَ في الرَّسُولِ فَإنَّهُ يَجِبُ الِاحْتِرازُ عَنْ مُقارَنَتِهِمْ وتَرْكُ مُجالَسَتَهم، وفي الآيَةِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: قَوْلُهُ: ﴿وإذا رَأيْتَ﴾ قِيلَ: إنَّهُ خِطابٌ لِلنَّبِيِّ ﷺ والمُرادُ غَيْرُهُ، وقِيلَ: الخِطابُ لِغَيْرِهِ أيْ إذا رَأيْتَ أيُّها السّامِعُ الَّذِينَ يَخُوضُونَ في آياتِنا. ونَقَلَ الواحِدِيُّ أنَّ المُشْرِكِينَ كانُوا إذا جالَسُوا المُؤْمِنِينَ وقَعُوا في رَسُولِ اللَّهِ ﷺ والقُرْآنِ، فَشَتَمُوا واسْتَهْزَءُوا فَأمَرَهم أنْ لا يَقْعُدُوا مَعَهم حَتّى يَخُوضُوا في حَدِيثٍ غَيْرِهِ. ولَفْظُ الخَوْضِ في اللُّغَةِ عِبارَةٌ عَنِ المُفاوَضَةِ عَلى وجْهِ العَبَثِ واللَّعِبِ، قالَ تَعالى حِكايَةً عَنِ الكُفّارِ: ﴿وكُنّا نَخُوضُ مَعَ الخائِضِينَ﴾ [المُدَّثِّرِ: ٤٥] وإذا سُئِلَ الرَّجُلُ عَنْ قَوْمٍ فَقالَ: تَرَكْتُهم يَخُوضُونَ. أفادَ ذَلِكَ أنَّهم شَرَعُوا في كَلِماتٍ لا يَنْبَغِي ذِكْرُها، ومِنَ الحَشْوِيَّةِ مَن تَمَسَّكَ بِهَذِهِ الآيَةِ في النَّهْيِ عَنِ الِاسْتِدْلالِ والمُناظَرَةِ في ذاتِ اللَّهِ تَعالى وصِفاتِهِ. قالَ: لِأنَّ ذَلِكَ خَوْضٌ في آياتِ اللَّهِ، والخَوْضُ في آياتِ اللَّهِ حَرامٌ بِدَلِيلِ هَذِهِ الآيَةِ، والجَوابُ عَنْهُ: أنّا نَقَلْنا عَنِ المُفَسِّرِينَ أنَّ المُرادَ مِن ”الخَوْضِ“ الشُّرُوعُ في آياتِ اللَّهِ تَعالى عَلى سَبِيلِ الطَّعْنِ والِاسْتِهْزاءِ. وبَيَّنّا أيْضًا أنَّ لَفْظَ ”الخَوْضِ“ وُضِعَ في أصْلِ اللُّغَةِ لِهَذا المَعْنى فَسَقَطَ هَذا الِاسْتِدْلالُ، واللَّهُ أعْلَمُ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قَرَأ ابْنُ عامِرٍ ﴿يُنْسِيَنَّكَ﴾ بِالتَّشْدِيدِ وفَعَلَ وأفْعَلَ يَجْرِيانِ مَجْرًى واحِدًا كَما بَيَّنّا ذَلِكَ في (p-٢٢)مَواضِعَ. وفي التَّنْزِيلِ ﴿فَمَهِّلِ الكافِرِينَ أمْهِلْهم رُوَيْدًا﴾ والِاخْتِيارُ قِراءَةُ العامَّةِ؛ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وما أنْسانِيهُ إلّا الشَّيْطانُ﴾ [الكهف: ٦٣] ومَعْنى الآيَةِ: إنْ نَسِيتَ وقَعَدْتَ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى، وقُمْ إذا ذَكَرْتَ. والذِّكْرى اسْمٌ لِلتَّذْكِرَةِ قالَهُ اللَّيْثُ. وقالَ الفَرّاءُ: الذِّكْرى يَكُونُ بِمَعْنى الذِّكْرِ، وقَوْلُهُ: ﴿مَعَ القَوْمِ الظّالِمِينَ﴾ يَعْنِي مَعَ المُشْرِكِينَ. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَأعْرِضْ عَنْهُمْ﴾ وهَذا الإعْراضُ يُحْتَمَلُ أنْ يَحْصُلَ بِالقِيامِ عَنْهم ويُحْتَمَلُ بِغَيْرِهِ. فَلَمّا قالَ بَعْدَ ذَلِكَ: ﴿فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى﴾ صارَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلى أنَّ المُرادَ أنْ يُعْرِضَ عَنْهم بِالقِيامِ مِن عِنْدِهِمْ، وهَهُنا سُؤالاتٌ: السُّؤالُ الأوَّلُ: هَلْ يَجُوزُ هَذا الإعْراضُ بِطَرِيقٍ آخَرَ سِوى القِيامِ عَنْهم ؟ والجَوابُ: الَّذِينَ يَتَمَسَّكُونَ بِظَواهِرِ الألْفاظِ ويَزْعُمُونَ وُجُوبَ إجْرائِها عَلى ظَواهِرِها لا يُجَوِّزُونَ ذَلِكَ، والَّذِينَ يَقُولُونَ المَعْنى هو المُعْتَبَرُ جَوَّزُوا ذَلِكَ قالُوا: لِأنَّ المَطْلُوبَ إظْهارُ الإنْكارِ، فَكُلُّ طَرِيقٍ أفادَ هَذا المَقْصُودَ فَإنَّهُ يَجُوزُ المَصِيرُ إلَيْهِ. السُّؤالُ الثّانِي: لَوْ خافَ الرَّسُولُ مِنَ القِيامِ عَنْهم، هَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ القِيامُ مَعَ ذَلِكَ ؟ الجَوابُ: كُلُّ ما أوْجَبَ عَلى الرَّسُولِ فِعْلَهُ وجَبَ عَلَيْهِ ذَلِكَ سَواءٌ ظَهَرَ أثَرُ الخَوْفِ أوْ لَمْ يَظْهَرْ فَإنّا إنْ جَوَّزْنا مِنهُ تَرْكَ الواجِبِ بِسَبَبِ الخَوْفِ، سَقَطَ الِاعْتِمادُ عَلى التَّكالِيفِ الَّتِي بَلَّغَها إلَيْنا. أمّا غَيْرُ الرَّسُولِ فَإنَّهُ عِنْدَ شِدَّةِ الخَوْفِ قَدْ يَسْقُطُ عَنْهُ الفَرْضُ؛ لِأنَّ إقْدامَهُ عَلى التَّرْكِ لا يُفْضِي إلى المَحْذُورِ المَذْكُورِ. المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: قَوْلُهُ: ﴿وإمّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى﴾ يُفِيدُ أنَّ التَّكْلِيفَ ساقِطٌ عَنِ النّاسِي قالَ الجُبّائِيُّ: إذا كانَ عَدَمُ العِلْمِ بِالشَّيْءِ يُوجِبُ سُقُوطَ التَّكْلِيفِ، فَعَدَمُ القُدْرَةِ عَلى الشَّيْءِ أوْلى بِأنْ يُوجِبَ سُقُوطَ التَّكْلِيفِ. وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ تَكْلِيفَ ما لا يُطاقُ لا يَقَعُ، ويَدُلُّ عَلى أنَّ الِاسْتِطاعَةَ حاصِلَةٌ قَبْلَ الفِعْلِ؛ لِأنَّها لَوْ لَمْ تَحْصُلْ إلّا مَعَ الفِعْلِ لَما كانَتْ حاصِلَةً قَبْلَ الفِعْلِ، فَوَجَبَ أنْ لا يَكُونَ الكافِرُ قادِرًا عَلى الإيمانِ فَوَجَبَ أنْ لا يَتَوَجَّهَ عَلَيْهِ الأمْرُ بِالإيمانِ. واعْلَمْ أنَّ هَذِهِ الكَلِماتِ كَثُرَ ذِكْرُها في هَذا الكِتابِ مَعَ الجَوابِ فَلا نُطَوِّلُ الكَلامَ بِذِكْرِ الجَوابِ. واللَّهُ أعْلَمُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب