الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قُلْ لَوْ أنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الأمْرُ بَيْنِي وبَيْنَكم واللَّهُ أعْلَمُ بِالظّالِمِينَ﴾ .
اعْلَمْ أنَّ المَعْنى ﴿لَوْ أنَّ عِنْدِي﴾ أيْ في قُدْرَتِي وإمْكانِي ﴿ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ﴾ مِنَ العَذابِ ﴿لَقُضِيَ الأمْرُ بَيْنِي وبَيْنَكُمْ﴾ لَأهْلَكْتُكم عاجِلًا غَضَبًا لِرَبِّي، واقْتِصاصًا مِن تَكْذِيبِكم بِهِ، ولَتَخَلَّصْتُ سَرِيعًا ﴿واللَّهُ أعْلَمُ بِالظّالِمِينَ﴾ وبِما يَجِبُ في الحِكْمَةِ مِن وقْتِ عِقابِهِمْ ومِقْدارِهِ، والمَعْنى: إنِّي لا أعْلَمُ وقْتَ عُقُوبَةِ الظّالِمِينَ. واللَّهُ تَعالى يَعْلَمُ ذَلِكَ فَهو يُؤَخِّرُهُ إلى وقْتِهِ، واللَّهُ أعْلَمُ.
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وعِنْدَهُ مَفاتِحُ الغَيْبِ لا يَعْلَمُها إلّا هو ويَعْلَمُ ما في البَرِّ والبَحْرِ وما تَسْقُطُ مِن ورَقَةٍ إلّا يَعْلَمُها ولا حَبَّةٍ في ظُلُماتِ الأرْضِ ولا رَطْبٍ ولا يابِسٍ إلّا في كِتابٍ مُبِينٍ﴾ .
اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى قالَ في الآيَةِ الأُولى: ﴿واللَّهُ أعْلَمُ بِالظّالِمِينَ﴾ يَعْنِي أنَّهُ سُبْحانَهُ هو العالِمُ بِكُلِّ شَيْءٍ فَهو يُعَجِّلُ ما تَعْجِيلُهُ أصْلَحُ ويُؤَخِّرُ ما تَأْخِيرُهُ أصْلَحُ. وفي الآيَةِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: المَفاتِحُ جَمْعُ مِفْتَحٍ ومَفْتَحٍ، والمِفْتَحُ بِالكَسْرِ المِفْتاحُ الَّذِي يُفْتَحُ بِهِ، والمَفْتَحُ بِفَتْحِ المِيمِ الخِزانَةُ وكُلُّ خِزانَةٍ كانَتْ لِصِنْفٍ مِنَ الأشْياءِ فَهو مَفْتَحٌ، قالَ الفَرّاءُ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ما إنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالعُصْبَةِ﴾ [القصص: ٧٦] يَعْنِي خَزائِنَهُ فَلَفْظُ المَفاتِحِ يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ المُرادُ مِنهُ المَفاتِيحَ، ويُمْكِنُ أنْ يُرادَ مِنهُ الخَزائِنَ. أمّا عَلى التَّقْدِيرِ الأوَّلِ، فَقَدْ جَعَلَ لِلْغَيْبِ مَفاتِيحَ عَلى طَرِيقِ الِاسْتِعارَةِ؛ لِأنَّ المَفاتِيحَ يُتَوَصَّلُ بِها إلى ما في الخَزائِنِ المُسْتَوْثَقِ مِنها بِالأغْلاقِ والأقْفالِ، فالعالِمُ بِتِلْكَ المَفاتِيحِ وكَيْفِيَّةِ اسْتِعْمالِها في فَتْحِ تِلْكَ الأغْلاقِ والأقْفالِ يُمْكِنُهُ أنْ يَتَوَصَّلَ بِتِلْكَ المَفاتِيحِ إلى ما في تِلْكَ الخَزائِنِ، فَكَذَلِكَ هَهُنا الحَقُّ سُبْحانَهُ لَمّا كانَ عالِمًا بِجَمِيعِ المَعْلُوماتِ، عَبَّرَ عَنْ هَذا المَعْنى بِالعِبارَةِ المَذْكُورَةِ وقُرِئَ ”مَفاتِيحُ“ . وأمّا عَلى التَّقْدِيرِ الثّانِي فالمَعْنى وعِنْدَهُ خَزائِنُ الغَيْبِ. فَعَلى التَّقْدِيرِ الأوَّلِ يَكُونُ المُرادُ العِلْمَ بِالغَيْبِ، وعَلى التَّقْدِيرِ الثّانِي المُرادُ مِنهُ القُدْرَةُ عَلى كُلِّ المُمَكِناتِ كَما في قَوْلِهِ: ﴿وإنْ مِن شَيْءٍ إلّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وما نُنَزِّلُهُ إلّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ﴾ [الحجر: ٢١] ولِلْحُكَماءِ في تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ كَلامٌ عَجِيبٌ مُفَرَّعٌ عَلى أُصُولِهِمْ فَإنَّهم قالُوا: ثَبَتَ أنَّ العِلْمَ بِالعِلَّةِ عِلَّةٌ لِلْعِلْمِ (p-٩)بِالمَعْلُولِ، وأنَّ العِلْمَ بِالمَعْلُولِ لا يَكُونُ عِلَّةً لِلْعِلْمِ بِالعِلَّةِ. قالُوا: وإذا ثَبَتَ هَذا فَنَقُولُ: المَوْجُودُ إمّا أنْ يَكُونَ واجِبًا لِذاتِهِ، وإمّا أنْ يَكُونَ مُمْكِنًا لِذاتِهِ، والواجِبُ لِذاتِهِ لَيْسَ إلّا اللَّهَ سُبْحانَهُ وتَعالى. وكُلُّ ما سِواهُ فَهو مُمْكِنٌ لِذاتِهِ، والمُمْكِنُ لِذاتِهِ لا يُوجَدُ إلّا بِتَأْثِيرِ الواجِبِ لِذاتِهِ وكُلُّ ما سِوى الحَقِّ سُبْحانَهُ فَهو مَوْجُودٌ بِإيجادِهِ كائِنٌ بِتَكْوِينِهِ واقِعٌ بِإيقاعِهِ. إمّا بِغَيْرِ واسِطَةٍ وإمّا بِواسِطَةٍ واحِدَةٍ وإمّا بِوَسائِطَ كَثِيرَةٍ عَلى التَّرْتِيبِ النّازِلِ مِن عِنْدِهِ طُولًا وعَرْضًا. إذا ثَبَتَ هَذا فَنَقُولُ: عِلْمُهُ بِذاتِهِ يُوجِبُ عِلْمَهُ بِالأثَرِ الأوَّلِ الصّادِرِ مِنهُ، ثُمَّ عِلْمُهُ بِذَلِكَ الأثَرِ الأوَّلِ يُوجِبُ عِلْمَهُ بِالأثَرِ الثّانِي؛ لِأنَّ الأثَرَ الأوَّلَ عِلَّةٌ قَرِيبَةٌ لِلْأثَرِ الثّانِي. وقَدْ ذَكَرْنا أنَّ العِلْمَ بِالعِلَّةِ يُوجِبُ العِلْمَ بِالمَعْلُولِ فَبِهَذا عِلْمُ الغَيْبِ لَيْسَ إلّا عِلْمَ الحَقِّ بِذاتِهِ المَخْصُوصَةِ ثُمَّ يَحْصُلُ لَهُ مِن عَلْمِهِ بِذاتِهِ عِلْمُهُ بِالآثارِ الصّادِرَةِ عَنْهُ عَلى تَرْتِيبِها المُعْتَبَرِ، ولَمّا كانَ عِلْمُهُ بِذاتِهِ لَمْ يَحْصُلْ إلّا لِذاتِهِ لا جَرَمَ صَحَّ أنْ يُقالَ: ﴿وعِنْدَهُ مَفاتِحُ الغَيْبِ لا يَعْلَمُها إلّا هُوَ﴾ فَهَذا هو طَرِيقَةُ هَؤُلاءِ الفِرْقَةِ الَّذِينَ فَسَّرُوا هَذِهِ الآيَةَ بِناءً عَلى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ.
ثُمَّ اعْلَمْ أنَّ هَهُنا دَقِيقَةً أُخْرى، وهي: أنَّ القَضايا العَقْلِيَّةَ المَحْضَةَ يَصْعُبُ تَحْصِيلُ العِلْمِ بِها عَلى سَبِيلِ التَّمامِ والكَمالِ إلّا لِلْعُقَلاءِ الكامِلِينَ الَّذِينَ تَعَوَّدُوا الإعْراضَ عَنْ قَضايا الحِسِّ والخَيالِ، وألِفُوا اسْتِحْضارَ المَعْقُولاتِ المُجَرَّدَةِ، ومِثْلُ هَذا الإنْسانِ يَكُونُ كالنّادِرِ وقَوْلُهُ: ﴿وعِنْدَهُ مَفاتِحُ الغَيْبِ لا يَعْلَمُها إلّا هُوَ﴾ قَضِيَّةٌ عَقْلِيَّةٌ مَحْضَةٌ مُجَرَّدَةٌ، فالإنْسانُ الَّذِي يَقْوى عَقْلُهُ عَلى الإحاطَةِ بِمَعْنى هَذِهِ القَضِيَّةِ نادِرٌ جِدًّا. والقُرْآنُ إنَّما أُنْزِلَ لِيَنْتَفِعَ بِهِ جَمِيعُ الخَلْقِ. فَهَهُنا طَرِيقٌ آخَرُ وهو أنَّ مَن ذَكَرَ القَضِيَّةَ العَقْلِيَّةَ المَحْضَةَ المُجَرَّدَةَ، فَإذا أرادَ إيصالَها إلى عَقْلِ كُلِّ أحَدٍ ذَكَرَ لَها مِثالًا مِنَ الأُمُورِ المَحْسُوسَةِ الدّاخِلَةِ تَحْتَ القَضِيَّةِ العَقْلِيَّةِ الكُلِّيَّةِ؛ لِيَصِيرَ ذَلِكَ المَعْقُولُ بِمُعاوَنَةِ هَذا المِثالِ المَحْسُوسِ مَفْهُومًا لِكُلِّ أحَدٍ، والأمْرُ في هَذِهِ الآيَةِ ورَدَ عَلى هَذا القانُونِ؛ لِأنَّهُ قالَ أوَّلًا: ﴿وعِنْدَهُ مَفاتِحُ الغَيْبِ لا يَعْلَمُها إلّا هُوَ﴾ ثُمَّ أكَّدَ هَذا المَعْقُولَ الكُلِّيَّ المُجَرَّدَ بِجُزْئِيٍّ مَحْسُوسٍ فَقالَ: ﴿ويَعْلَمُ ما في البَرِّ والبَحْرِ﴾ وذَلِكَ لِأنَّ أحَدَ أقْسامِ مَعْلُوماتِ اللَّهِ هو جَمِيعُ دَوابِّ البَرِّ والبَحْرِ. والحِسُّ والخَيالُ قَدْ وقَفَ عَلى عَظَمَةِ أحْوالِ البَرِّ والبَحْرِ، فَذِكْرُ هَذا المَحْسُوسِ يَكْشِفُ عَنْ حَقِيقَةِ عَظَمَةِ ذَلِكَ المَعْقُولِ.
وفِيهِ دَقِيقَةٌ أُخْرى وهي: أنَّهُ تَعالى قَدَّمَ ذِكْرَ البَرِّ، لِأنَّ الإنْسانَ قَدْ شاهَدَ أحْوالَ البَرِّ، وكَثْرَةَ ما فِيهِ مِنَ المُدُنِ والقُرى والمَفاوِزِ والجِبالِ والتِّلالِ، وكَثْرَةَ ما فِيها مِنَ الحَيَوانِ والنَّباتِ والمَعادِنِ. وأمّا البَحْرُ فَإحاطَةُ العَقْلِ بِأحْوالِهِ أقَلُّ إلّا أنَّ الحِسَّ يَدُلُّ عَلى أنَّ عَجائِبَ البِحارِ في الجُمْلَةِ أكْثَرُ، وطُولَها وعَرْضَها أعْظَمُ، وما فِيها مِنَ الحَيَواناتِ وأجْناسِ المَخْلُوقاتِ أعْجَبُ. فَإذا اسْتَحْضَرَ الخَيالُ صُورَةَ البَحْرِ والبَرِّ عَلى هَذِهِ الوُجُوهِ. ثُمَّ عَرَفَ أنَّ مَجْمُوعَها قِسْمٌ حَقِيرٌ مِنَ الأقْسامِ الدّاخِلَةِ تَحْتَ قَوْلِهِ: ﴿وعِنْدَهُ مَفاتِحُ الغَيْبِ لا يَعْلَمُها إلّا هُوَ﴾ فَيَصِيرُ هَذا المِثالُ المَحْسُوسُ مُقَوِّيًا ومُكَمِّلًا لِلْعَظَمَةِ الحاصِلَةِ تَحْتَ قَوْلِهِ: ﴿وعِنْدَهُ مَفاتِحُ الغَيْبِ لا يَعْلَمُها إلّا هُوَ﴾ ثُمَّ إنَّهُ تَعالى كَما كَشَفَ عَنْ عَظَمَةِ قَوْلِهِ: ﴿وعِنْدَهُ مَفاتِحُ الغَيْبِ﴾ بِذِكْرِ البَرِّ والبَحْرِ كَشَفَ عَنْ عَظَمَةِ البَرِّ والبَحْرِ بِقَوْلِهِ: ﴿وما تَسْقُطُ مِن ورَقَةٍ إلّا يَعْلَمُها﴾ وذَلِكَ لِأنَّ العَقْلَ يَسْتَحْضِرُ جَمِيعَ ما في وجْهِ الأرْضِ مِنَ المُدُنِ والقُرى والمَفاوِزِ والجِبالِ والتِّلالِ، ثُمَّ يَسْتَحْضِرُ كَمْ فِيها مِنَ النَّجْمِ والشَّجَرِ ثُمَّ يَسْتَحْضِرُ أنَّهُ لا يَتَغَيَّرُ حالُ ورَقَةٍ إلّا والحَقُّ سُبْحانَهُ يَعْلَمُها، ثُمَّ يَتَجاوَزُ مِن هَذا المِثالِ إلى مِثالٍ آخَرٍ أشَدَّ هَيْئَةً مِنهُ وهو قَوْلُهُ: ﴿ولا حَبَّةٍ في ظُلُماتِ الأرْضِ﴾ وذَلِكَ لِأنَّ الحَبَّةَ في غايَةِ الصِّغَرِ وظُلُماتُ الأرْضِ مَوْضِعٌ يَبْقى أكْبَرُ الأجْسامِ وأعْظَمُها (p-١٠)مَخْفِيًّا فِيها، فَإذا سَمِعَ أنَّ تِلْكَ الحَبَّةَ الصَّغِيرَةَ المُلْقاةَ في ظُلُماتِ الأرْضِ عَلى اتِّساعِها وعَظَمَتِها لا تَخْرُجُ عَنْ عِلْمِ اللَّهِ تَعالى البَتَّةَ، صارَتْ هَذِهِ الأمْثِلَةُ مُنَبِّهَةً عَلى عَظَمَةٍ عَظِيمَةٍ وجَلالَةٍ عالِيَةٍ مِنَ المَعْنى المُشارِ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: ﴿وعِنْدَهُ مَفاتِحُ الغَيْبِ لا يَعْلَمُها إلّا هُوَ﴾ بِحَيْثُ تَتَحَيَّرُ العُقُولُ فِيها وتَتَقاصَرُ الأفْكارُ والألْبابُ عَنِ الوُصُولِ إلى مَبادِيها، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى لَمّا قَوّى أمْرَ ذَلِكَ المَعْقُولِ المَحْضِ المُجَرَّدِ بِذِكْرِ هَذِهِ الجُزْئِيّاتِ المَحْسُوسَةِ فَبَعْدَ ذِكْرِها عادَ إلى ذِكْرِ تِلْكَ القَضِيَّةِ العَقْلِيَّةِ المَحْضَةِ المُجَرَّدَةِ بِعِبارَةٍ أُخْرى فَقالَ: ﴿ولا رَطْبٍ ولا يابِسٍ إلّا في كِتابٍ مُبِينٍ﴾ وهو عَيْنُ المَذْكُورِ في قَوْلِهِ: ﴿وعِنْدَهُ مَفاتِحُ الغَيْبِ لا يَعْلَمُها إلّا هُوَ﴾ فَهَذا ما عَقَلْناهُ في تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ الشَّرِيفَةِ العالِيَةِ. ومِنَ اللَّهِ التَّوْفِيقُ.
* * *
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: المُتَكَلِّمُونَ قالُوا: إنَّهُ تَعالى فاعِلُ العالَمِ بِجَواهِرِهِ وأعْراضِهِ عَلى سَبِيلِ الإحْكامِ والإتْقانِ، ومَن كانَ كَذَلِكَ كانَ عالِمًا بِها فَوَجَبَ كَوْنُهُ تَعالى عالِمًا بِها والحُكَماءُ قالُوا: إنَّهُ تَعالى مَبْدَأٌ لِجَمِيعِ المُمْكِناتِ، والعِلْمُ بِالمَبْدَأِ يُوجِبُ العِلْمَ بِالأثَرِ فَوَجَبَ كَوْنُهُ تَعالى عالِمًا بِكُلِّها:
واعْلَمْ أنَّ هَذا الكَلامَ مِن أدَلَّ الدَّلائِلِ عَلى كَوْنِهِ تَعالى عالِمًا بِجَمِيعِ الجُزْئِيّاتِ الزَّمانِيَّةِ؛ وذَلِكَ لِأنَّهُ لَمّا ثَبَتَ أنَّهُ تَعالى مَبْدَأٌ لِكُلِّ ما سِواهُ وجَبَ كَوْنُهُ مَبْدَأً لِهَذِهِ الجُزْئِيّاتِ بِالأثَرِ. فَوَجَبَ كَوْنُهُ تَعالى عالِمًا بِهَذِهِ التَّغَيُّراتِ والزَّمانِيّاتِ مِن حَيْثُ أنَّها مُتَغَيِّرَةٌ وزَمانِيَّةٌ وذَلِكَ هو المَطْلُوبُ.
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وعِنْدَهُ مَفاتِحُ الغَيْبِ لا يَعْلَمُها إلّا هُوَ﴾ يَدُلُّ عَلى كَوْنِهِ تَعالى مُنَزَّهًا عَنِ الضِّدِّ والنِّدِّ وتَقْرِيرُهُ: أنَّ قَوْلَهُ: ﴿وعِنْدَهُ مَفاتِحُ الغَيْبِ﴾ يُفِيدُ الحَصْرَ، أيْ عِنْدَهُ لا عِنْدَ غَيْرِهِ. ولَوْ حَصَلَ مَوْجُودٌ آخَرُ واجِبُ الوُجُودِ لَكانَ مَفاتِحُ الغَيْبِ حاصِلَةً أيْضًا عِنْدَ ذَلِكَ الآخَرِ، وحِينَئِذٍ يَبْطُلُ الحَصْرُ. وأيْضًا فَكَما أنَّ لَفْظَ الآيَةِ يَدُلُّ عَلى هَذا التَّوْحِيدِ، فَكَذَلِكَ البُرْهانُ العَقْلِيُّ يُساعِدُ عَلَيْهِ. وتَقْرِيرُهُ: أنَّ المَبْدَأ لِحُصُولِ العِلْمِ بِالآثارِ والنَّتائِجِ والصَّنائِعِ هو العِلْمُ بِالمُؤَثِّرِ، والمُؤَثِّرُ الأوَّلُ في كُلِّ المُمْكِناتِ هو الحَقُّ سُبْحانَهُ. فالمَفْتَحُ الأوَّلُ لِلْعِلْمِ بِجَمِيعِ المَعْلُوماتِ هو العِلْمُ بِهِ سُبْحانَهُ، لَكِنَّ العِلْمَ بِهِ لَيْسَ إلّا لَهُ لِأنَّ ما سِواهُ أثَرٌ والعِلْمُ بِالأثَرِ لا يُفِيدُ العِلْمَ بِالمُؤَثِّرِ. فَظَهَرَ بِهَذا البُرْهانِ أنَّ مَفاتِحَ الغَيْبِ لَيْسَتْ إلّا عِنْدَ الحَقِّ سُبْحانَهُ. واللَّهُ أعْلَمُ.
المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: قُرِئَ ”ولا حَبَّةٌ، ولا رَطْبٌ، ولا يابِسٌ“ بِالرَّفْعِ وفِيهِ وجْهانِ:
الأوَّلُ: أنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلى مَحَلٍّ مِن ورَقَةٍ.
وأنْ يَكُونَ رَفْعًا عَلى الِابْتِداءِ وخَبَرُهُ ﴿إلّا في كِتابٍ مُبِينٍ﴾ كَقَوْلِكَ: لا رَجُلَ مِنهم ولا امْرَأةٌ إلّا في الدّارِ.
المَسْألَةُ الخامِسَةُ: قَوْلُهُ: ﴿إلّا في كِتابٍ مُبِينٍ﴾ فِيهِ قَوْلانِ:
الأوَّلُ: أنَّ ذَلِكَ الكِتابَ المُبِينَ هو عِلْمُ اللَّهِ تَعالى لا غَيْرَ. وهَذا هو الصَّوابُ.
والثّانِي: قالَ الزَّجّاجُ: يَجُوزُ أنْ يَكُونَ اللَّهُ جَلَّ ثَناؤُهُ أثْبَتَ كَيْفِيَّةَ المَعْلُوماتِ في كِتابٍ مِن قَبْلِ أنْ يَخْلُقَ الخَلْقَ كَما قالَ عَزَّ وجَلَّ: ﴿ما أصابَ مِن مُصِيبَةٍ في الأرْضِ ولا في أنْفُسِكم إلّا في كِتابٍ مِن قَبْلِ أنْ نَبْرَأها﴾ [الحديد: ٢٢] .
وفائِدَةُ هَذا الكِتابِ أُمُورٌ:
أحَدُها: أنَّهُ تَعالى إنَّما كَتَبَ هَذِهِ الأحْوالَ في اللَّوْحِ المَحْفُوظِ لِتَقِفَ المَلائِكَةُ عَلى نَفاذِ عِلْمِ اللَّهِ تَعالى في المَعْلُوماتِ، وأنَّهُ لا يَغِيبُ عَنْهُ مِمّا في السَّماواتِ والأرْضِ شَيْءٌ. فَيَكُونُ في ذَلِكَ عِبْرَةٌ تامَّةٌ كامِلَةٌ لِلْمَلائِكَةِ المُوَكَّلِينَ بِاللَّوْحِ المَحْفُوظِ؛ لِأنَّهم يُقابِلُونَ بِهِ ما يَحْدُثُ في صَحِيفَةِ هَذا العالَمِ فَيَجِدُونَهُ مُوافِقًا لَهُ.
وثانِيها: يَجُوزُ أنْ يُقالَ: إنَّهُ تَعالى ذَكَرَ ما ذَكَرَ مِنَ الوَرَقَةِ والحَبَّةِ تَنْبِيهًا لِلْمُكَلَّفِينَ عَلى أمْرِ الحِسابِ وإعْلامًا بِأنَّهُ لا يَفُوتُهُ مِن كُلِّ ما يَصْنَعُونَ في الدُّنْيا شَيْءٌ؛ لِأنَّهُ إذا كانَ (p-١١)لا يُهْمِلُ الأحْوالَ الَّتِي لَيْسَ فِيها ثَوابٌ ولا عِقابٌ ولا تَكْلِيفٌ، فَبِأنْ لا يُهْمِلَ الأحْوالَ المُشْتَمِلَةَ عَلى الثَّوابِ والعِقابِ أوْلى.
وثالِثُها: أنَّهُ تَعالى عَلِمَ أحْوالَ جَمِيعِ المَوْجُوداتِ فَيَمْتَنِعُ تَغْيِيرُها عَنْ مُقْتَضى ذَلِكَ العِلْمِ، وإلّا لَزِمَ الجَهْلُ. فَإذا كَتَبَ أحْوالَ جَمِيعِ المَوْجُوداتِ في ذَلِكَ الكِتابِ عَلى التَّفْصِيلِ التّامِّ امْتَنَعَ أيْضًا تَغْيِيرُها وإلّا لَزِمَ الكَذِبُ فَتَصِيرُ كِتْبَةُ جُمْلَةِ الأحْوالِ في ذَلِكَ الكِتابِ مُوجِبًا تامًّا وسَبَبًا كامِلًا في أنَّهُ يَمْتَنِعُ تَقَدُّمُ ما تَأخَّرَ، وتَأخُّرُ ما تَقَدَّمَ كَما قالَ - صَلَواتُ اللَّهِ عَلَيْهِ -: «جَفَّ القَلَمُ بِما هو كائِنٌ إلى يَوْمِ القِيامَةِ» واللَّهُ أعْلَمُ.
{"ayah":"۞ وَعِندَهُۥ مَفَاتِحُ ٱلۡغَیۡبِ لَا یَعۡلَمُهَاۤ إِلَّا هُوَۚ وَیَعۡلَمُ مَا فِی ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِۚ وَمَا تَسۡقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا یَعۡلَمُهَا وَلَا حَبَّةࣲ فِی ظُلُمَـٰتِ ٱلۡأَرۡضِ وَلَا رَطۡبࣲ وَلَا یَابِسٍ إِلَّا فِی كِتَـٰبࣲ مُّبِینࣲ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق