الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وكَذَلِكَ فَتَنّا بَعْضَهم بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِن بَيْنِنا ألَيْسَ اللَّهُ بِأعْلَمَ بِالشّاكِرِينَ﴾
فِيهِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى بَيَّنَ في هَذِهِ الآيَةِ أنَّ كُلَّ واحِدٍ مُبْتَلًى بِصاحِبِهِ، فَأُولَئِكَ الكُفّارُ الرُّؤَساءُ الأغْنِياءُ كانُوا يَحْسُدُونَ فُقَراءَ الصَّحابَةِ عَلى كَوْنِهِمْ سابِقِينَ في الإسْلامِ مُسارِعِينَ إلى قَبُولِهِ فَقالُوا: لَوْ دَخَلْنا في الإسْلامِ لَوَجَبَ عَلَيْنا أنْ نَنْقادَ لِهَؤُلاءِ الفُقَراءِ المَساكِينِ، وأنْ نَعْتَرِفَ لَهم بِالتَّبَعِيَّةِ، فَكانَ ذَلِكَ يَشُقُّ عَلَيْهِمْ. ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنا﴾ [القمر: ٢٥] ﴿لَوْ كانَ خَيْرًا ما سَبَقُونا إلَيْهِ﴾ [الأحقاف: ١١] وأمّا فُقَراءُ الصَّحابَةِ فَكانُوا يَرَوْنَ أُولَئِكَ الكُفّارَ في الرّاحاتِ والمَسَرّاتِ والطَّيِّباتِ والخِصْبِ والسَّعَةِ، فَكانُوا يَقُولُونَ: كَيْفَ حَصَلَتْ هَذِهِ الأحْوالُ لِهَؤُلاءِ مَعَ أنّا بَقِينا في هَذِهِ الشِّدَّةِ والضِّيقِ والقِلَّةِ ؟ فَقالَ تَعالى: ﴿وكَذَلِكَ فَتَنّا بَعْضَهم بِبَعْضٍ﴾ فَأحَدُ الفَرِيقَيْنِ يَرى الآخَرَ مُتَقَدِّمًا عَلَيْهِ في المَناصِبِ الدِّينِيَّةِ، والفَرِيقُ الآخَرُ يَرى الفَرِيقَ الأوَّلَ مُتَقَدِّمًا عَلَيْهِ في المَناصِبِ الدُّنْيَوِيَّةِ، فَكانُوا يَقُولُونَ: أهَذا هو الَّذِي فَضَّلَهُ اللَّهُ عَلَيْنا ! وأمّا المُحَقِّقُونَ فَهُمُ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ أنَّ كُلَّ ما فَعَلَهُ اللَّهُ تَعالى فَهو حَقٌّ وصِدْقٌ وحِكْمَةٌ وصَوابٌ ولا اعْتِراضَ عَلَيْهِ، إمّا بِحُكْمِ المالِكِيَّةِ عَلى ما هو قَوْلُ أصْحابِنا أوْ بِحَسَبِ المَصْلَحَةِ عَلى ما هو قَوْلُ المُعْتَزِلَةِ، فَكانُوا صابِرِينَ في وقْتِ البَلاءِ، شاكِرِينَ في وقْتِ الآلاءِ والنَّعْماءِ وهُمُ الَّذِينَ قالَ اللَّهُ تَعالى في حَقِّهِمْ: ﴿ألَيْسَ اللَّهُ بِأعْلَمَ بِالشّاكِرِينَ﴾ .
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: احْتَجَّ أصْحابُنا بِهَذِهِ الآيَةِ في مَسْألَةِ خَلْقِ الأفْعالِ مِن وجْهَيْنِ:
الأوَّلُ: أنَّ قَوْلَهُ: ﴿وكَذَلِكَ فَتَنّا بَعْضَهم بِبَعْضٍ﴾ تَصْرِيحٌ بِأنَّ إلْقاءَ تِلْكَ الفِتْنَةِ مِنَ اللَّهِ تَعالى، والمُرادُ مِن تِلْكَ الفِتْنَةِ لَيْسَ إلّا اعْتِراضَهم عَلى اللَّهِ في أنْ جَعَلَ أُولَئِكَ الفُقَراءَ رُؤَساءَ في الدِّينِ، والِاعْتِراضُ عَلى اللَّهِ كُفْرٌ وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ تَعالى هو الخالِقُ لِلْكُفْرِ.
والثّانِي: أنَّهُ تَعالى حَكى عَنْهم أنَّهم قالُوا: ﴿أهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِن بَيْنِنا﴾ والمُرادُ مِن قَوْلِهِ: ﴿مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ﴾ هو أنَّهُ مَنَّ عَلَيْهِمْ بِالإيمانِ بِاللَّهِ ومُتابَعَةِ الرَّسُولِ، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّ هَذِهِ المَعانِيَ إنَّما تَحْصُلُ مِنَ اللَّهِ تَعالى؛ لِأنَّهُ لَوْ كانَ المُوجِدُ لِلْإيمانِ هو العَبْدَ، فاللَّهُ ما مَنَّ عَلَيْهِ بِهَذا الإيمانِ، بَلِ العَبْدُ هو الَّذِي مَنَّ عَلى نَفْسِهِ بِهَذا الإيمانِ، فَصارَتْ هَذِهِ الآيَةُ دَلِيلًا عَلى قَوْلِنا في هَذِهِ المَسْألَةِ مِن هَذَيْنِ (p-١٩٧)الوَجْهَيْنِ. أجابَ الجُبّائِيُّ عَنْهُ، بِأنَّ الفِتْنَةَ في التَّكْلِيفِ ما يُوجِبُ التَّشْدِيدَ، وإنَّما فَعَلْنا ذَلِكَ لِيَقُولُوا أهَؤُلاءِ ؟ أيْ: لِيَقُولَ بَعْضُهم لِبَعْضٍ اسْتِفْهامًا لا إنْكارًا ﴿أهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِن بَيْنِنا﴾ بِالإيمانِ ؟ وأجابَ الكَعْبِيُّ عَنْهُ بِأنْ قالَ: ﴿وكَذَلِكَ فَتَنّا بَعْضَهم بِبَعْضٍ﴾ لِيَصْبِرُوا أوْ لِيَشْكُرُوا، فَكانَ عاقِبَةُ أمْرِهِمْ أنْ قالُوا: ﴿أهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِن بَيْنِنا﴾ عَلى مِيثاقِ قَوْلِهِ: ﴿فالتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهم عَدُوًّا وحَزَنًا﴾ [القصص: ٨] .
والجَوابُ عَنِ الوَجْهَيْنِ: أنَّهُ عُدُولٌ عَنِ الظّاهِرِ مِن غَيْرِ دَلِيلٍ، لا سِيَّما والدَّلِيلُ العَقْلِيُّ قائِمٌ عَلى صِحَّةِ هَذا الظّاهِرِ، وذَلِكَ لِأنَّهُ لَمّا كانَتْ مُشاهَدَةُ هَذِهِ الأحْوالِ تُوجِبُ الأنَفَةَ، والأنَفَةُ تُوجِبُ العِصْيانَ والإصْرارَ عَلى الكُفْرِ، ومُوجَبُ المُوجَبِ مُوجَبٌ، كانَ الإلْزامُ وارِدًا، واللَّهُ أعْلَمُ.
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: في كَيْفِيَّةِ افْتِتانِ البَعْضِ بِالبَعْضِ وُجُوهٌ:
الأوَّلُ: أنَّ الغِنى والفَقْرَ كانا سَبَبَيْنِ لِحُصُولِ هَذا الِافْتِتانِ كَما ذَكَرْنا في قِصَّةِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلامُ، وكَما قالَ في قِصَّةِ قَوْمِ صالِحٍ: ﴿قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إنّا بِالَّذِي آمَنتُمْ بِهِ كافِرُونَ﴾ [الأعراف: ٧٦] .
والثّانِي: ابْتِلاءُ الشَّرِيفِ بِالوَضِيعِ.
والثّالِثُ: ابْتِلاءُ الذَّكِيِّ بِالأبْلَهِ.
وبِالجُمْلَةِ فَصِفاتُ الكَمالِ مُخْتَلِفَةٌ مُتَفاوِتَةٌ، ولا تَجْتَمِعُ في إنْسانٍ واحِدٍ البَتَّةَ، بَلْ هي مُوَزَّعَةٌ عَلى الخَلْقِ، وصِفاتُ الكَمالِ مَحْبُوبَةٌ لِذاتِها، فَكُلُّ أحَدٍ يَحْسُدُ صاحِبَهُ عَلى ما آتاهُ اللَّهُ مِن صِفاتِ الكَمالِ.
فَأمّا مَن عَرَفَ سِرَّ اللَّهِ تَعالى في القَضاءِ والقَدَرِ رَضِيَ بِنَصِيبِ نَفْسِهِ وسَكَتَ عَنِ التَّعَرُّضِ لِلْخَلْقِ، وعاشَ عَيْشًا طَيِّبًا في الدُّنْيا والآخِرَةِ، واللَّهُ أعْلَمُ.
المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: قالَ هِشامُ بْنُ الحَكَمِ: إنَّهُ تَعالى لا يَعْلَمُ الجُزْئِيّاتِ إلّا عِنْدَ حُدُوثِها، واحْتَجَّ بِهَذِهِ الآيَةِ، لِأنَّ الِافْتِتانَ هو الِاخْتِبارُ والِامْتِحانُ، وذَلِكَ لا يَصِحُّ إلّا لِطَلَبِ العِلْمِ. وجَوابُهُ قَدْ مَرَّ غَيْرَ مَرَّةٍ.
{"ayah":"وَكَذَ ٰلِكَ فَتَنَّا بَعۡضَهُم بِبَعۡضࣲ لِّیَقُولُوۤا۟ أَهَـٰۤؤُلَاۤءِ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَیۡهِم مِّنۢ بَیۡنِنَاۤۗ أَلَیۡسَ ٱللَّهُ بِأَعۡلَمَ بِٱلشَّـٰكِرِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











