الباحث القرآني

أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهم بِالغَداةِ والعَشِيِّ يُرِيدُونَ وجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِن حِسابِهِمْ مِن شَيْءٍ وما مِن حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهم فَتَكُونَ مِنَ الظّالِمِينَ﴾ فِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أنَّهُ قالَ: «مَرَّ المَلَأُ مِن قُرَيْشٍ عَلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وعِنْدَهُ صُهَيْبٌ وخَبّابٌ وبِلالٌ وعَمّارٌ وغَيْرُهم مِن ضُعَفاءِ المُسْلِمِينَ، فَقالُوا: يا مُحَمَّدُ أرَضِيتَ بِهَؤُلاءِ عَنْ قَوْمِكَ ؟ أفَنَحْنُ نَكُونُ تَبَعًا لِهَؤُلاءِ ؟ اطْرُدْهم عَنْ نَفْسِكَ، فَلَعَلَّكَ إنْ طَرَدْتَهُمُ اتَّبَعْناكَ، فَقالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: ”ما أنا بِطارِدِ المُؤْمِنِينَ“ فَقالُوا: فَأقِمْهم عَنّا إذا جِئْنا، فَإذا أقَمْنا فَأقْعِدْهم مَعَكَ إنْ شِئْتَ، فَقالَ: ”نَعَمْ“ طَمَعًا في إيمانِهِمْ» . ورُوِيَ أنَّ عُمَرَ قالَ لَهُ: لَوْ فَعَلْتَ حَتّى نَنْظُرَ إلى ماذا يَصِيرُونَ، ثُمَّ ألَحُّوا وقالُوا لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلامُ: اكْتُبْ لَنا بِذَلِكَ كِتابًا فَدَعا بِالصَّحِيفَةِ وبِعَلِيٍّ لِيَكْتُبَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ، فَرَمى الصَّحِيفَةَ، واعْتَذَرَ عُمَرُ عَنْ مَقالَتِهِ، فَقالَ سَلْمانُ وخَبّابٌ: فِينا نَزَلَتْ، فَكانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَقْعُدُ مَعَنا ونَدْنُو مِنهُ حَتّى تَمَسَّ رُكْبَتُنا رُكْبَتَهُ، وكانَ يَقُومُ عَنّا إذا أرادَ القِيامَ، فَنَزَلَ قَوْلُهُ: ﴿واصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ﴾ [الكهف: ٢٨] فَتَرَكَ القِيامَ عَنّا إلى أنْ نَقُومَ عَنْهُ وقالَ: ”«الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يُمِتْنِي حَتّى أمَرَنِي أنِ أصْبِرَ نَفْسِيَ مَعَ قَوْمٍ مِن أُمَّتِي مَعَكُمُ المَحْيا ومَعَكُمُ المَماتُ» “ . * * * المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: احْتَجَّ الطّاعِنُونَ في عِصْمَةِ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ بِهَذِهِ الآيَةِ مِن وُجُوهٍ: الأوَّلُ: أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ طَرَدَهم واللَّهُ تَعالى نَهاهُ عَنْ ذَلِكَ الطَّرْدِ، فَكانَ ذَلِكَ الطَّرْدُ ذَنْبًا. والثّانِي: أنَّهُ تَعالى قالَ: ﴿فَتَطْرُدَهم فَتَكُونَ مِنَ الظّالِمِينَ﴾ وقَدْ ثَبَتَ أنَّهُ طَرَدَهم، فَيَلْزَمُ أنْ يُقالَ: إنَّهُ كانَ مِنَ الظّالِمِينَ. والثّالِثُ: أنَّهُ تَعالى حَكى عَنْ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلامُ أنَّهُ قالَ: ﴿وما أنا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [هود: ٢٩] ثُمَّ إنَّهُ تَعالى أمَرَ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ السَّلامُ بِمُتابَعَةِ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ في جَمِيعِ الأعْمالِ الحَسَنَةِ، حَيْثُ قالَ: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهِ﴾ [الأنعام: ٩٠] فَبِهَذا الطَّرِيقِ وجَبَ عَلى مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلامُ أنْ لا يَطْرُدَهم، فَلَمّا طَرَدَهم كانَ ذَلِكَ ذَنْبًا. والرّابِعُ: أنَّهُ تَعالى ذَكَرَ هَذِهِ الآيَةَ في سُورَةِ الكَهْفِ، فَزادَ فِيها فَقالَ: ﴿تُرِيدُ زِينَةَ الحَياةِ الدُّنْيا﴾ [الكهف: ٢٨] ثُمَّ إنَّهُ تَعالى نَهاهُ عَنِ الِالتِفاتِ إلى زِينَةِ الحَياةِ الدُّنْيا في آيَةٍ أُخْرى فَقالَ: ﴿ولا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى ما مَتَّعْنا بِهِ أزْواجًا مِنهم زَهْرَةَ الحَياةِ الدُّنْيا﴾ [طه: ١٣١] فَلَمّا نُهِيَ عَنِ الِالتِفاتِ إلى زِينَةِ الدُّنْيا، ثُمَّ ذُكِرَ في تِلْكَ الآيَةِ أنَّهُ يُرِيدُ زِينَةَ الحَياةِ الدُّنْيا كانَ ذَلِكَ ذَنْبًا. الخامِسُ: نُقِلَ أنَّ أُولَئِكَ الفُقَراءَ كُلَّما دَخَلُوا عَلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بَعْدَ (p-١٩٤)هَذِهِ الواقِعَةِ فَكانَ عَلَيْهِ السَّلامُ يَقُولُ: «مَرْحَبًا بِمَن عاتَبَنِي رَبِّي فِيهِمْ» أوْ لَفْظٌ هَذا مَعْناهُ، وذَلِكَ يَدُلُّ أيْضًا عَلى الذَّنْبِ. والجَوابُ عَنِ الأوَّلِ: أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ ما طَرَدَهم لِأجْلِ الِاسْتِخْفافِ بِهِمْ والِاسْتِنْكافِ مِن فَقْرِهِمْ، وإنَّما عَيَّنَ لِجُلُوسِهِمْ وقْتًا مُعَيَّنًا سِوى الوَقْتِ الَّذِي كانَ يَحْضُرُ فِيهِ أكابِرُ قُرَيْشٍ، فَكانَ غَرَضُهُ مِنهُ التَّلَطُّفَ في إدْخالِهِمْ في الإسْلامِ، ولَعَلَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ كانَ يَقُولُ هَؤُلاءِ الفُقَراءُ مِنَ المُسْلِمِينَ لا يَفُوتُهم بِسَبَبِ هَذِهِ المُعامَلَةِ أمْرٌ مُهِمٌّ في الدُّنْيا وفي الدِّينِ، وهَؤُلاءِ الكُفّارُ فَإنَّهُ يَفُوتُهُمُ الدِّينُ والإسْلامُ فَكانَ تَرْجِيحُ هَذا الجانِبِ أوْلى. فَأقْصى ما يُقالُ إنَّ هَذا الِاجْتِهادَ وقَعَ خَطَأً إلّا أنَّ الخَطَأ في الِاجْتِهادِ مَغْفُورٌ. وأمّا قَوْلُهُ ثانِيًا: إنَّ طَرْدَهم يُوجِبُ كَوْنَهُ عَلَيْهِ السَّلامُ مِنَ الظّالِمِينَ. فَجَوابُهُ: أنَّ الظُّلْمَ عِبارَةٌ عَنْ وضْعِ الشَّيْءِ في غَيْرِ مَوْضِعِهِ، والمَعْنى أنَّ أُولَئِكَ الضُّعَفاءَ الفُقَراءَ كانُوا يَسْتَحِقُّونَ التَّعْظِيمَ مِنَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلامُ فَإذا طَرَدَهم عَنْ ذَلِكَ المَجْلِسِ كانَ ذَلِكَ ظُلْمًا، إلّا أنَّهُ مِن بابِ تَرْكِ الأوْلى والأفْضَلِ لا مِن بابِ تَرْكِ الواجِباتِ، وكَذا الجَوابُ عَنْ سائِرِ الوُجُوهِ فَإنّا نَحْمِلُ كُلَّ هَذِهِ الوُجُوهِ عَلى تَرْكِ الأفْضَلِ والأكْمَلِ والأوْلى والأحْرى، واللَّهُ أعْلَمُ. * * * المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: قَرَأ ابْنُ عامِرٍ ”بِالغُدْوَةِ والعَشِيِّ“ بِالواوِ وضَمِّ الغَيْنِ وفي سُورَةِ الكَهْفِ مِثْلَهُ والباقُونَ بِالألِفِ وفَتْحِ الغَيْنِ. قالَ أبُو عَلِيٍّ الفارِسِيُّ الوَجْهُ قِراءَةُ العامَّةِ بِالغَداةِ؛ لِأنَّها تُسْتَعْمَلُ نَكِرَةً فَأمْكَنَ تَعْرِيفُها بِإدْخالِ لامِ التَّعْرِيفِ عَلَيْها. فَأمّا ”غُدْوَةٌ“ فَمَعْرِفَةٌ وهو عَلَمٌ صِيغَ لَهُ، وإذا كانَ كَذَلِكَ، فَوَجَبَ أنْ يَمْتَنِعَ إدْخالُ لامِ التَّعْرِيفِ عَلَيْهِ، كَما يَمْتَنِعُ إدْخالُهُ عَلى سائِرِ المَعارِفِ. وكِتْبَةُ هَذِهِ الكَلِمَةِ بِالواوِ في المُصْحَفِ لا تَدُلُّ عَلى قَوْلِهِمْ، ألا تَرى أنَّهم كَتَبُوا ”الصَّلَوةَ“ بِالواوِ وهي ألِفٌ فَكَذا هَهُنا. قالَ سِيبَوَيْهِ ”غُدْوَةٌ وبُكْرَةٌ“ جُعِلَ كُلُّ واحِدٍ مِنهُما اسْمًا لِلْجِنْسِ كَما جَعَلُوا أمَّ حُبَيْنٍ اسْمًا لِدابَّةٍ مَعْرُوفَةٍ. قالَ: وزَعَمَ يُونُسُ عَنْ أبِي عَمْرٍو أنَّكَ إذا قُلْتَ: لَقِيتُهُ يَوْمًا مِنَ الأيّامِ غُدْوَةً أوْ بُكْرَةً وأنْتَ تُرِيدُ المَعْرِفَةَ لَمْ تُنَوِّنْ. فَهَذِهِ الأشْياءُ تُقَوِّي قِراءَةَ العامَّةِ، وأمّا وجْهُ قِراءَةِ ابْنِ عامِرٍ فَهو أنَّ سِيبَوَيْهِ قالَ: زَعَمَ الخَلِيلُ أنَّهُ يَجُوزُ أنْ يُقالَ أتَيْتُكَ اليَوْمَ غُدْوَةً وبُكْرَةً فَجَعَلَهُما بِمَنزِلَةِ ”ضَحْوَةً“، واللَّهُ أعْلَمُ. المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: في قَوْلِهِ: ﴿يَدْعُونَ رَبَّهم بِالغَداةِ والعَشِيِّ﴾ قَوْلانِ: الأوَّلُ: أنَّ المُرادَ مِنَ الدُّعاءِ الصَّلاةُ، يَعْنِي يَعْبُدُونَ رَبَّهم بِالصَّلاةِ المَكْتُوبَةِ، وهي صَلاةُ الصُّبْحِ وصَلاةُ العَصْرِ وهَذا قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ والحَسَنِ ومُجاهِدٍ. وقِيلَ: المُرادُ مِنَ الغَداةِ والعَشِيِّ طَرَفا النَّهارِ، وذَكَرَ هَذَيْنِ القِسْمَيْنِ تَنْبِيهًا عَلى كَوْنِهِمْ مُواظِبِينَ عَلى الصَّلَواتِ الخَمْسِ. والقَوْلُ الثّانِي: المُرادُ مِنَ الدُّعاءِ الذِّكْرُ قالَ إبْراهِيمُ: الدُّعاءُ هَهُنا هو الذِّكْرُ والمَعْنى يَذْكُرُونَ رَبَّهم طَرَفَيِ النَّهارِ. * * * المَسْألَةُ الخامِسَةُ: المُجَسِّمَةُ تَمَسَّكُوا في إثْباتِ الأعْضاءِ لِلَّهِ تَعالى بِقَوْلِهِ: ﴿يُرِيدُونَ وجْهَهُ﴾ وسائِرُ الآياتِ المُناسِبَةِ لَهُ مِثْلُ قَوْلِهِ: ﴿ويَبْقى وجْهُ رَبِّكَ﴾ [الرحمن: ٢٧] . وجَوابُهُ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿قُلْ هو اللَّهُ أحَدٌ﴾ يَقْتَضِي الوِحْدانِيَّةَ التّامَّةَ، وذَلِكَ يُنافِي التَّرْكِيبَ مِنَ الأعْضاءِ (p-١٩٥)والأجْزاءِ، فَثَبَتَ أنَّهُ لا بُدَّ مِنَ التَّأْوِيلِ، وهو مِن وجْهَيْنِ: الأوَّلُ: قَوْلُهُ: ﴿يُرِيدُونَ وجْهَهُ﴾ المَعْنى يُرِيدُونَهُ إلّا أنَّهم يَذْكُرُونَ لَفْظَ الوَجْهِ لِلتَّعْظِيمِ، كَما يُقالُ هَذا وجْهُ الرَّأْيِ وهَذا وجْهُ الدَّلِيلِ. والثّانِي: أنَّ مَن أحَبَّ ذاتًا أحَبَّ أنْ يَرى وجْهَهُ، فَرُؤْيَةُ الوَجْهِ مِن لَوازِمِ المَحَبَّةِ، فَلِهَذا السَّبَبِ جُعِلَ الوَجْهُ كِنايَةً عَنِ المَحَبَّةِ وطَلَبِ الرِّضا، وتَمامُ هَذا الكَلامِ تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ: ﴿ولِلَّهِ المَشْرِقُ والمَغْرِبُ فَأيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وجْهُ اللَّهِ﴾ [البقرة: ١١٥] . * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ما عَلَيْكَ مِن حِسابِهِمْ مِن شَيْءٍ وما مِن حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِن شَيْءٍ﴾ اخْتَلَفُوا في أنَّ الضَّمِيرَ في قَوْلِهِ: ”حِسابِهِمْ“ وفي قَوْلِهِ: ”عَلَيْهِمْ“ إلى ماذا يَعُودُ ؟ والقَوْلُ الأوَّلُ: أنَّهُ عائِدٌ إلى المُشْرِكِينَ، والمَعْنى ما عَلَيْكَ مِن حِسابِ المُشْرِكِينَ مِن شَيْءٍ ولا حِسابُكَ عَلى المُشْرِكِينَ وإنَّما اللَّهُ هو الَّذِي يُدَبِّرُ عَبِيدَهُ كَما يَشاءُ وأرادَ. والغَرَضُ مِن هَذا الكَلامِ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ يَتَحَمَّلُ هَذا الِاقْتِراحَ مِن هَؤُلاءِ الكُفّارِ، فَلَعَلَّهم يَدْخُلُونَ في الإسْلامِ ويَتَخَلَّصُونَ مِن عِقابِ الكُفْرِ، فَقالَ تَعالى: لا تَكُنْ في قَيْدِ أنَّهم يَتَّقُونَ الكُفْرَ أمْ لا فَإنَّ اللَّهَ تَعالى هو الهادِي والمُدَبِّرُ. القَوْلُ الثّانِي: أنَّ الضَّمِيرَ عائِدٌ إلى الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهم بِالغَداةِ والعَشِيِّ، وهُمُ الفُقَراءُ، وذَلِكَ أشْبَهُ بِالظّاهِرِ. والدَّلِيلُ عَلَيْهِ أنَّ الكِنايَةَ في قَوْلِهِ: ﴿فَتَطْرُدَهم فَتَكُونَ مِنَ الظّالِمِينَ﴾ عائِدَةٌ لا مَحالَةَ إلى هَؤُلاءِ الفُقَراءِ، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ سائِرُ الكِناياتِ عائِدَةً إلَيْهِمْ، وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ فَذَكَرُوا في قَوْلِهِ: ﴿ما عَلَيْكَ مِن حِسابِهِمْ مِن شَيْءٍ﴾ قَوْلَيْنِ: أحَدُهُما: أنَّ الكُفّارَ طَعَنُوا في إيمانِ أُولَئِكَ الفُقَراءِ، وقالُوا: يا مُحَمَّدُ إنَّهم إنَّما اجْتَمَعُوا عِنْدَكَ وقَبِلُوا دِينَكَ لِأنَّهم يَجِدُونَ بِهَذا السَّبَبِ مَأْكُولًا ومَلْبُوسًا عِنْدَكَ، وإلّا فَهِمَ فارِغُونَ عَنْ دِينِكَ، فَقالَ اللَّهُ تَعالى إنْ كانَ الأمْرُ كَما يَقُولُونَ، فَما يَلْزَمُكَ إلّا اعْتِبارُ الظّاهِرِ وإنْ كانَ لَهم باطِنٌ غَيْرُ مَرْضِيٍّ عِنْدَ اللَّهِ، فَحِسابُهم عَلَيْهِ لازِمٌ لَهم، لا يَتَعَدّى إلَيْكَ، كَما أنَّ حِسابَكَ عَلَيْكَ لا يَتَعَدّى إلَيْهِمْ، كَقَوْلِهِ: ﴿ولا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى﴾ [الأنعام: ١٦٤] . فَإنْ قِيلَ: أما كَفى قَوْلُهُ: ﴿ما عَلَيْكَ مِن حِسابِهِمْ مِن شَيْءٍ﴾ حَتّى ضَمَّ إلَيْهِ قَوْلَهُ: ﴿وما مِن حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِن شَيْءٍ﴾ قُلْنا: جُعِلَتِ الجُمْلَتانِ بِمَنزِلَةِ جُمْلَةٍ واحِدَةٍ قُصِدَ بِهِما مَعْنًى واحِدٌ وهو المَعْنى في قَوْلِهِ: ﴿ولا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى﴾ ولا يَسْتَقِلُّ بِهَذا المَعْنى إلّا الجُمْلَتانِ جَمِيعًا، كَأنَّهُ قِيلَ لا تُؤاخَذُ أنْتَ ولا هم بِحِسابِ صاحِبِهِ. القَوْلُ الثّانِي: ما عَلَيْكَ مِن حِسابِ رِزْقِهِمْ مِن شَيْءٍ فَتَمَلَّهم وتَطْرُدَهم، ولا حِسابُ رِزْقِكَ عَلَيْهِمْ، وإنَّما الرّازِقُ لَهم ولَكَ هو اللَّهُ تَعالى، فَدَعْهم يَكُونُوا عِنْدَكَ ولا تَطْرُدْهم. واعْلَمْ أنَّ هَذِهِ القِصَّةَ شَبِيهَةٌ بِقِصَّةِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلامُ إذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ: ﴿أنُؤْمِنُ لَكَ واتَّبَعَكَ الأرْذَلُونَ﴾ [الشعراء: ١١١] فَأجابَهم نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلامُ و﴿قالَ وما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ ﴿إنْ حِسابُهم إلّا عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ﴾ وعَنَوْا بِقَوْلِهِمْ: ”الأرْذَلُونَ“ الحاكَّةَ والمُحْتَرِفِينَ بِالحِرَفِ الخَسِيسَةِ، فَكَذَلِكَ هَهُنا. وقَوْلُهُ: ﴿فَتَطْرُدَهُمْ﴾ جَوابُ النَّفْيِ ومَعْناهُ، ما عَلَيْكَ مِن حِسابِهِمْ مِن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهم، بِمَعْنى أنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ حِسابُهم حَتّى أنَّكَ لِأجْلِ ذَلِكَ الحِسابِ تَطْرُدُهم، وقَوْلُهُ: ﴿فَتَكُونَ مِنَ الظّالِمِينَ﴾ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلى (p-١٩٦)قَوْلِهِ: ﴿فَتَطْرُدَهُمْ﴾ عَلى وجْهِ التَّسَبُّبِ لِأنَّ كَوْنَهُ ظالِمًا مَعْلُولُ طَرْدِهم ومُسَبَّبٌ لَهُ. وأمّا قَوْلُهُ: ﴿فَتَكُونَ مِنَ الظّالِمِينَ﴾ فَفِيهِ قَوْلانِ: الأوَّلُ: ﴿فَتَكُونَ مِنَ الظّالِمِينَ﴾ لِنَفْسِكَ بِهَذا الطَّرْدِ. الثّانِي: أنْ تَكُونَ مِنَ الظّالِمِينَ لَهم لِأنَّهم لَمّا اسْتَوْجَبُوا مَزِيدَ التَّقْرِيبِ والتَّرْحِيبِ كانَ طَرْدُهم ظُلْمًا لَهم، واللَّهُ أعْلَمُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب