الباحث القرآني

(p-١٧٣)قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وقالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِن رَبِّهِ قُلْ إنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أنْ يُنَزِّلَ آيَةً ولَكِنَّ أكْثَرَهم لا يَعْلَمُونَ﴾ اعْلَمْ أنَّ هَذا النَّوْعُ الرّابِعُ مِن شُبُهاتِ مُنْكِرِي نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ، وذَلِكَ لِأنَّهم قالُوا: لَوْ كانَ رَسُولًا مِن عِنْدِ اللَّهِ فَهَلّا أنْزَلَ عَلَيْهِ آيَةً قاهِرَةً ومُعْجِزَةً باهِرَةً ! ويُرْوى أنَّ بَعْضَ المُلْحِدَةِ طَعَنَ [ في كَوْنِ مُحَمَّدٍ ﷺ أتى بِمُعْجِزَةٍ ] فَقالَ: لَوْ كانَ مُحَمَّدٌ ﷺ قَدْ أتى بِآيَةٍ مُعْجِزَةٍ لَما صَحَّ أنْ يَقُولَ أُولَئِكَ الكُفّارُ: ﴿لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ﴾ ولَما قالَ: ﴿وقالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِن رَبِّهِ﴾ . والجَوابُ عَنْهُ: أنَّ القُرْآنَ مُعْجِزَةٌ قاهِرَةٌ وبَيِّنَةٌ باهِرَةٌ، بِدَلِيلِ أنَّهُ ﷺ تَحَدّاهم بِهِ فَعَجَزُوا عَنْ مُعارَضَتِهِ، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى كَوْنِهِ مُعْجِزًا. بَقِيَ أنْ يُقالَ: فَإذا كانَ الأمْرُ كَذَلِكَ فَكَيْفَ قالُوا: ﴿لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِن رَبِّهِ﴾ ؟ فَنَقُولُ: الجَوابُ عَنْهُ مِن وُجُوهٍ: الوَجْهُ الأوَّلُ: لَعَلَّ القَوْمَ طَعَنُوا في كَوْنِ القُرْآنِ مُعْجِزًا عَلى سَبِيلِ اللَّجاجِ والعِنادِ، وقالُوا: إنَّهُ مِن جِنْسِ الكُتُبِ، والكِتابُ لا يَكُونُ مِن جِنْسِ المُعْجِزاتِ، كَما في التَّوْراةِ والزَّبُورِ والإنْجِيلِ، ولِأجْلِ هَذِهِ الشُّبْهَةِ طَلَبُوا المُعْجِزَةَ. والوَجْهُ الثّانِي: أنَّهم طَلَبُوا مُعْجِزاتٍ قاهِرَةً مِن جِنْسِ مُعْجِزاتِ سائِرِ الأنْبِياءِ مِثْلَ فَلْقِ البَحْرِ وإظْلالِ الجَبَلِ وإحْياءِ المَوْتى. والوَجْهُ الثّالِثُ: أنَّهم طَلَبُوا مَزِيدَ الآياتِ والمُعْجِزاتِ عَلى سَبِيلِ التَّعَنُّتِ واللَّجاجِ مِثْلَ إنْزالِ المَلائِكَةِ وإسْقاطِ السَّماءِ كِسَفًا وسائِرِ ما حَكاهُ عَنِ الكافِرِينَ. والوَجْهُ الرّابِعُ: أنْ يَكُونَ المُرادُ ما حَكاهُ اللَّهُ تَعالى عَنْ بَعْضِهِمْ في قَوْلِهِ: ﴿اللَّهُمَّ إنْ كانَ هَذا هو الحَقَّ مِن عِنْدِكَ فَأمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أوِ ائْتِنا بِعَذابٍ ألِيمٍ﴾ [الأنفال: ٣٢] فَكُلُّ هَذِهِ الوُجُوهِ مِمّا يَحْتَمِلُها لَفْظُ الآيَةِ. ثُمَّ إنَّهُ تَعالى أجابَ عَنْ سُؤالِهِمْ بِقَوْلِهِ: ﴿قُلْ إنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أنْ يُنَزِّلَ آيَةً﴾ يَعْنِي أنَّهُ تَعالى قادِرٌ عَلى إيجادِ ما طَلَبْتُمُوهُ وتَحْصِيلِ ما اقْتَرَحْتُمُوهُ ﴿ولَكِنَّ أكْثَرَهم لا يَعْلَمُونَ﴾ واخْتَلَفُوا في تَفْسِيرِ هَذِهِ الكَلِمَةِ عَلى وُجُوهٍ: الوَجْهُ الأوَّلُ: أنْ يَكُونَ المُرادُ أنَّهُ تَعالى لَمّا أنْزَلَ آيَةً باهِرَةً ومُعْجِزَةً قاهِرَةً وهي القُرْآنُ كانَ طَلَبُ الزِّيادَةِ جارِيًا مَجْرى التَّحَكُّمِ والتَّعَنُّتِ الباطِلِ، واللَّهُ سُبْحانَهُ لَهُ الحُكْمُ والأمْرُ فَإنْ شاءَ فَعَلَ وإنْ شاءَ لَمْ يَفْعَلْ، فَإنَّ فاعِلِيَّتَهُ لا تَكُونُ إلّا بِحَسَبِ مَحْضِ المَشِيئَةِ عَلى قَوْلِ أهْلِ السُّنَّةِ، أوْ عَلى وفْقِ المَصْلَحَةِ عَلى قَوْلِ المُعْتَزِلَةِ، وعَلى التَّقْدِيرَيْنِ فَإنَّها لا تَكُونُ عَلى وفْقِ اقْتِراحاتِ النّاسِ ومُطالَباتِهِمْ، فَإنْ شاءَ أجابَهم إلَيْها، وإنْ شاءَ لَمْ يُجِبْهم إلَيْها. والوَجْهُ الثّانِي: هو أنَّهُ لَمّا ظَهَرَتِ المُعْجِزَةُ القاهِرَةُ والدَّلالَةُ الباهِرَةُ الكافِيَةُ لَمْ يَبْقَ لَهم عُذْرٌ ولا عِلَّةٌ، فَبَعْدَ ذَلِكَ لَوْ أجابَهُمُ اللَّهُ تَعالى في ذَلِكَ الِاقْتِراحِ فَلَعَلَّهم يَقْتَرِحُونَ اقْتِراحًا ثانِيًا، وثالِثًا، ورابِعًا، وهَكَذا إلى ما (p-١٧٤)لا غايَةَ لَهُ، وذَلِكَ يُفْضِي إلى أنْ لا يَسْتَقِرَّ الدَّلِيلُ ولا تَتِمَّ الحُجَّةُ، فَوَجَبَ في أوَّلِ الأمْرِ سَدُّ هَذا البابِ والِاكْتِفاءُ بِما سَبَقَ مِنَ المُعْجِزَةِ القاهِرَةِ والدَّلالَةِ الباهِرَةِ. والوَجْهُ الثّالِثُ: أنَّهُ تَعالى لَوْ أعْطاهم ما طَلَبُوهُ مِنَ المُعْجِزاتِ القاهِرَةِ، فَلَوْ لَمْ يُؤْمِنُوا عِنْدَ ظُهُورِها لاسْتَحَقُّوا عَذابَ الِاسْتِئْصالِ، فاقْتَضَتْ رَحْمَةُ اللَّهِ صَوْنَهم عَنْ هَذا البَلاءِ فَما أعْطاهم هَذا المَطْلُوبَ رَحْمَةً مِنهُ تَعالى عَلَيْهِمْ، وإنْ كانُوا لا يَعْلَمُونَ كَيْفِيَّةَ هَذِهِ الرَّحْمَةِ، فَلِهَذا المَعْنى قالَ: ﴿ولَكِنَّ أكْثَرَهم لا يَعْلَمُونَ﴾ . والوَجْهُ الرّابِعُ: أنَّهُ تَعالى عَلِمَ مِنهم أنَّهم إنَّما يَطْلُبُونَ هَذِهِ المُعْجِزاتِ لا لِطَلَبِ الفائِدَةِ بَلْ لِأجْلِ العِنادِ والتَّعَصُّبِ وعَلِمَ أنَّهُ تَعالى لَوْ أعْطاهم مَطْلُوبَهم فَهم لا يُؤْمِنُونَ، فَلِهَذا السَّبَبِ ما أعْطاهم مَطْلُوبَهم لِعِلْمِهِ تَعالى أنَّهُ لا فائِدَةَ في ذَلِكَ، فالمُرادُ مِن قَوْلِهِ: ﴿ولَكِنَّ أكْثَرَهم لا يَعْلَمُونَ﴾ هو أنَّ القَوْمَ لا يَعْلَمُونَ أنَّهم لَمّا طَلَبُوا ذَلِكَ عَلى سَبِيلِ التَّعَنُّتِ والتَّعَصُّبِ فَإنَّ اللَّهَ تَعالى لا يُعْطِيهِمْ مَطْلُوبَهم، ولَوْ كانُوا عالِمِينَ عاقِلِينَ لَطَلَبُوا ذَلِكَ عَلى سَبِيلِ طَلَبِ الفائِدَةِ، وحِينَئِذٍ كانَ اللَّهُ تَعالى يُعْطِيهِمْ ذَلِكَ المَطْلُوبَ عَلى أكْمَلِ الوُجُوهِ. واللَّهُ أعْلَمُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب