الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قُلْ أيُّ شَيْءٍ أكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وبَيْنَكم وأُوحِيَ إلَيَّ هَذا القُرْآنُ لِأُنْذِرَكم بِهِ ومَن بَلَغَ أئِنَّكم لَتَشْهَدُونَ أنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أشْهَدُ قُلْ إنَّما هو إلَهٌ واحِدٌ وإنَّنِي بَرِيءٌ مِمّا تُشْرِكُونَ﴾
فِي الآيَةِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: اعْلَمْ أنَّ الآيَةَ تَدُلُّ عَلى أنَّ أكْبَرَ الشَّهاداتِ وأعْظَمَها شَهادَةُ اللَّهِ تَعالى. ثُمَّ بَيَّنَ أنَّ شَهادَةَ اللَّهِ حاصِلَةٌ إلّا أنَّ الآيَةَ لَمْ تَدُلَّ عَلى أنَّ تِلْكَ الشَّهادَةَ حَصَلَتْ في إثْباتِ أيِّ المَطالِبِ، فَنَقُولُ: يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ المُرادُ حُصُولَ شَهادَةِ اللَّهِ في ثُبُوتِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ، ويُمْكِنُ أنْ يَكُونَ المُرادُ حُصُولَ هَذِهِ الشَّهادَةِ في ثُبُوتِ وحْدانِيَّةِ اللَّهِ تَعالى.
أمّا الِاحْتِمالُ الأوَّلُ: فَقَدْ رَوى ابْنُ عَبّاسٍ أنَّ رُؤَساءَ أهْلِ مَكَّةَ قالُوا: يا مُحَمَّدُ ما وجَدَ اللَّهُ غَيْرَكَ رَسُولًا ! وما نَرى أحَدًا يُصَدِّقُكَ، وقَدْ سَألْنا اليَهُودَ والنَّصارى عَنْكَ فَزَعَمُوا أنَّهُ لا ذِكْرَ لَكَ عِنْدَهم بِالنُّبُوَّةِ فَأرِنا مَن يَشْهَدُ لَكَ بِالنُّبُوَّةِ، فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى هَذِهِ الآيَةَ، وقالَ: قُلْ يا مُحَمَّدُ: أيُّ شَيْءٍ أكْبَرُ شَهادَةً مِنَ اللَّهِ حَتّى يَعْتَرِفُوا بِالنُّبُوَّةِ، فَإنَّ أكْبَرَ الأشْياءِ شَهادَةً هو اللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى فَإذا اعْتَرَفُوا بِذَلِكَ فَقُلْ إنَّ اللَّهَ شَهِيدٌ لِي بِالنُّبُوَّةِ؛ لِأنَّهُ أوْحى إلَيَّ هَذا القُرْآنَ وهَذا القُرْآنُ مُعْجِزٌ، لِأنَّكم أنْتُمُ الفُصَحاءُ والبُلَغاءُ وقَدْ عَجَزْتُمْ عَنْ مُعارَضَتِهِ فَإذا كانَ مُعْجِزًا، كانَ إظْهارُ اللَّهِ إيّاهُ عَلى وفْقِ دَعْوايَ شَهادَةً مِنَ اللَّهِ عَلى كَوْنِي صادِقًا في دَعْوايَ. والحاصِلُ: أنَّهم طَلَبُوا شاهِدًا (p-١٤٦)مَقْبُولَ القَوْلِ يَشْهَدُ عَلى نُبُوَّتِهِ فَبَيَّنَ تَعالى أنَّ أكْبَرَ الأشْياءِ شَهادَةً هو اللَّهُ، ثُمَّ بَيَّنَ أنَّهُ شَهِدَ لَهُ بِالنُّبُوَّةِ وهو المُرادُ مِن قَوْلِهِ: ﴿قُلْ أيُّ شَيْءٍ أكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ﴾ فَهَذا تَقْرِيرٌ واضِحٌ.
وأمّا الِاحْتِمالُ الثّانِي: وهو أنْ يَكُونَ المُرادُ حُصُولَ هَذِهِ الشَّهادَةِ في وحْدانِيَّةِ اللَّهِ تَعالى.
فاعْلَمْ أنَّ هَذا الكَلامَ يَجِبُ أنْ يَكُونَ مَسْبُوقًا بِمُقَدِّمَةٍ، وهي أنّا نَقُولُ: المَطالِبُ عَلى أقْسامٍ ثَلاثَةٍ: مِنها ما يَمْتَنِعُ إثْباتُهُ بِالدَّلائِلِ السَّمْعِيَّةِ، فَإنَّ كُلَّ ما يَتَوَقَّفُ صِحَّةُ السَّمْعِ عَلى صِحَّتِهِ امْتَنَعَ إثْباتُهُ بِالسَّمْعِ، وإلّا لَزِمَ الدَّوْرُ. ومِنها ما يَمْتَنِعُ إثْباتُهُ بِالعَقْلِ وهو كُلُّ شَيْءٍ يَصِحُّ وُجُودُهُ ويَصِحُّ عَدَمُهُ عَقْلًا، فَلا امْتِناعَ في أحَدِ الطَّرَفَيْنِ أصْلًا، فالقَطْعُ عَلى أحَدِ الطَّرَفَيْنِ بِعَيْنِهِ لا يُمْكِنُ إلّا بِالدَّلِيلِ السَّمْعِيِّ، ومِنها ما يُمْكِنُ إثْباتُهُ بِالعَقْلِ والسَّمْعِ مَعًا، وهو كُلُّ أمْرٍ عَقْلِيٍّ لا يَتَوَقَّفُ عَلى العِلْمِ بِهِ، فَلا جَرَمَ أمْكَنَ إثْباتُهُ بِالدَّلائِلِ السَّمْعِيَّةِ.
إذا عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ: قَوْلُهُ: ﴿قُلْ أيُّ شَيْءٍ أكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وبَيْنَكُمْ﴾ في إثْباتِ الوَحْدانِيَّةِ والبَراءَةِ عَنِ الشُّرَكاءِ والأضْدادِ والأنْدادِ والأمْثالِ والأشْباهِ.
* * *
ثُمَّ قالَ: ﴿قُلْ أيُّ شَيْءٍ أكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ﴾ أيْ إنَّ القَوْلَ بِالتَّوْحِيدِ هو الحَقُّ الواجِبُ، وإنَّ القَوْلَ بِالشِّرْكِ باطِلٌ مَرْدُودٌ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: نُقِلَ عَنْ جَهْمٍ أنَّهُ يُنْكِرُ كَوْنَهُ تَعالى شَيْئًا.
واعْلَمْ أنَّهُ لا يُنازِعُ في كَوْنِهِ تَعالى ذاتًا مَوْجُودًا وحَقِيقَةً إلّا أنَّهُ يُنْكِرُ تَسْمِيَتَهُ تَعالى بِكَوْنِهِ شَيْئًا، فَيَكُونُ هَذا خِلافًا في مُجَرَّدِ العِبارَةِ. واحْتَجَّ الجُمْهُورُ عَلى تَسْمِيَةِ اللَّهِ تَعالى بِالشَّيْءِ بِهَذِهِ الآيَةِ وتَقْرِيرُهُ أنَّهُ قالَ: أيُّ الأشْياءِ أكْبَرُ شَهادَةً. ثُمَّ ذَكَرَ في الجَوابِ عَنْ هَذا السُّؤالِ قَوْلَهُ: (قُلِ اللَّهُ) وهَذا يُوجِبُ كَوْنَهُ تَعالى شَيْئًا، كَما أنَّهُ لَوْ قالَ: أيُّ النّاسِ أصْدَقُ، فَلَوْ قِيلَ: جِبْرِيلُ، كانَ هَذا الجَوابُ خَطَأً؛ لِأنَّ جِبْرِيلَ لَيْسَ مِنَ النّاسِ فَكَذا هَهُنا.
فَإنْ قِيلَ: قَوْلُهُ: ﴿قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وبَيْنَكُمْ﴾ كَلامٌ تامٌّ مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ لا تَعَلُّقَ لَهُ بِما قَبْلَهُ لِأنَّ قَوْلَهُ: (اللَّهُ) مُبْتَدَأٌ، وقَوْلُهُ: ﴿شَهِيدٌ بَيْنِي وبَيْنَكُمْ﴾ خَبَرُهُ، وهو جُمْلَةٌ تامَّةٌ مُسْتَقِلَّةٌ بِنَفْسِها لا تَعَلُّقُ لَها بِما قَبْلَها.
قُلْنا: الجَوابُ في وجْهَيْنِ:
الأوَّلُ: أنْ نَقُولَ قَوْلُهُ: ﴿قُلْ أيُّ شَيْءٍ أكْبَرُ شَهادَةً﴾ لا شَكَّ أنَّهُ سُؤالٌ ولا بُدَّ لَهُ مِن جَوابٍ: إمّا مَذْكُورٍ، وإمّا مَحْذُوفٍ.
فَإنْ قُلْنا: الجَوابُ مَحْذُوفٌ فَنَقُولُ: هَذا عَلى خِلافِ الدَّلِيلِ، وأيْضًا فَبِتَقْدِيرِ أنْ يَكُونَ الجَوابُ مَحْذُوفًا، إلّا أنَّ ذَلِكَ المَحْذُوفَ لا بُدَّ وأنْ يَكُونَ أمْرًا يَدُلُّ المَذْكُورُ عَلَيْهِ ويَكُونَ لائِقًا بِذَلِكَ المَوْضِعِ.
والجَوابُ اللّائِقُ بِقَوْلِهِ: ﴿أيُّ شَيْءٍ أكْبَرُ شَهادَةً﴾ هو أنْ يُقالَ: هو اللَّهُ، ثُمَّ يُقالُ بَعْدَهُ ﴿اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وبَيْنَكُمْ﴾ وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ فَيَصِحُّ الِاسْتِدْلالُ بِهَذِهِ الآيَةِ أيْضًا عَلى أنَّهُ تَعالى يُسَمّى باسْمِ الشَّيْءِ فَهَذا تَمامُ تَقْرِيرِ هَذا الدَّلِيلِ. (p-١٤٧)وفِي المَسْألَةِ دَلِيلٌ آخَرُ وهو قَوْلُهُ تَعالى: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إلّا وجْهَهُ﴾ [القصص: ٨٨] والمُرادُ بِوَجْهِهِ ذاتُهُ، فَهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّهُ تَعالى اسْتَثْنى ذاتَ نَفْسِهِ مِن قَوْلِهِ: (كُلُّ شَيْءٍ) والمُسْتَثْنى يَجِبُ أنْ يَكُونَ داخِلًا تَحْتَ المُسْتَثْنى مِنهُ، فَهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّهُ تَعالى يُسَمّى باسْمِ الشَّيْءِ. واحْتَجَّ جَهْمٌ عَلى فَسادِ هَذا الِاسْمِ بِوُجُوهٍ:
الأوَّلُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى: ١١] والمُرادُ لَيْسَ مِثْلَ مِثْلِهِ شَيْءٌ وذاتُ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلُ مِثْلِ نَفْسِهِ فَهَذا تَصْرِيحٌ بِأنَّ اللَّهَ تَعالى لا يُسَمّى باسِمِ الشَّيْءِ، ولا يُقالُ: الكافُ زائِدَةٌ، والتَّقْدِيرُ: لَيْسَ مِثْلَهُ شَيْءٌ؛ لِأنَّ جَعْلَ كَلِمَةٍ مِن كَلِماتِ القُرْآنِ عَبَثًا باطِلًا لا يَلِيقُ بِأهْلِ الدِّينِ المَصِيرُ إلَيْهِ إلّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ الشَّدِيدَةِ.
والثّانِي: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [الزمر: ٦٢] .
ولَوْ كانَ تَعالى مُسَمّى بِالشَّيْءِ لَزِمَ كَوْنُهُ خالِقًا لِنَفْسِهِ، وهو مُحالٌ لا يُقالُ، هَذا عامٌّ دَخَلَهُ التَّخْصِيصُ لِأنّا نَقُولُ إدْخالُ التَّخْصِيصِ إنَّما يَجُوزُ في صُورَةٍ نادِرَةٍ شاذَّةٍ لا يُؤْبَهُ بِها ولا يُلْتَفَتُ إلَيْها، فَيَجْرِي وُجُودُها مَجْرى عَدَمِها فَيُطْلَقُ لَفْظُ الكُلِّ عَلى الأكْثَرِ تَنْبِيهًا، عَلى أنَّ البَقِيَّةَ جارِيَةٌ مَجْرى العَدَمِ، ومِنَ المَعْلُومِ أنَّ البارِي تَعالى لَوْ كانَ مُسَمًّى بِاسْمِ الشَّيْءِ لَكانَ هو تَعالى أعْظَمَ الأشْياءِ وأشْرَفَها، وإطْلاقُ لَفْظِ الكُلِّ مَعَ أنْ يَكُونَ هَذا القِسْمُ خارِجًا عَنْهُ يَكُونُ مَحْضَ كَذِبٍ ولا يَكُونُ مِن بابِ التَّخْصِيصِ.
الثّالِثُ: التَّمَسُّكُ بِقَوْلِهِ: ﴿ولِلَّهِ الأسْماءُ الحُسْنى فادْعُوهُ بِها﴾ [الأعراف: ١٨٠] والِاسْمُ إنَّما يَحْسُنُ لِحُسْنِ مُسَمّاهُ وهو أنْ يَدُلَّ عَلى صِفَةٍ مِن صِفاتِ الكَمالِ، ونَعَتٍ مِن نُعُوتِ الجَلالِ، ولَفَظُ الشَّيْءِ أعَمُّ الأشْياءِ فَيَكُونُ مُسَمّاهُ حاصِلًا في أحْسَنِ الأشْياءِ وفي أرْذَلِها، ومَتى كانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنِ المُسَمّى بِهَذا اللَّفْظِ صِفَةً مِن صِفاتِ الكَمالِ ولا نَعْتًا مِن نُعُوتِ الجَلالِ. فَوَجَبَ أنْ لا يَجُوزَ دَعْوَةُ اللَّهِ تَعالى بِهَذا الِاسْمِ؛ لِأنَّ هَذا الِاسْمَ لَمّا لَمْ يَكُنْ مِنَ الأسْماءِ الحُسْنى واللَّهُ تَعالى أمَرَ بِأنْ يُدْعى بِالأسْماءِ الحُسْنى، وجَبَ أنْ لا يَجُوزَ دُعاءُ اللَّهِ تَعالى بِهَذا الِاسْمِ، وكُلُّ مَن مَنَعَ مِن دُعاءِ اللَّهِ بِهَذا الِاسْمِ قالَ: إنَّ هَذا اللَّفْظَ لَيْسَ اسْمًا مِن أسْماءِ اللَّهِ تَعالى البَتَّةَ.
الرّابِعُ: أنَّ اسْمَ الشَّيْءِ يَتَناوَلُ المَعْدُومَ، فَوَجَبَ أنْ لا يَجُوزَ إطْلاقُهُ عَلى اللَّهِ تَعالى.
بَيانُ الأوَّلِ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إنِّي فاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا﴾ [الكهف: ٢٣] سَمّى الشَّيْءَ الَّذِي سَيَفْعَلُهُ غَدًا بِاسْمِ الشَّيْءِ في الحالِ والَّذِي سَيَفْعَلُهُ غَدًا يَكُونُ مَعْدُومًا في الحالِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّ اسْمَ الشَّيْءِ يَقَعُ عَلى المَعْدُومِ.
وإذا ثَبَتَ هَذا فَقَوْلُنا: إنَّهُ شَيْءٌ لا يُفِيدُ امْتِيازَ ذاتِهِ عَنْ سائِرِ الذَّواتِ بِصِفَةٍ مَعْلُومَةٍ ولا بِخاصَّةِ مُتَمَيِّزَةٍ، ولا يُفِيدُ كَوْنَهُ مَوْجُودًا فَيَكُونُ هَذا لَفْظًا لا يُفِيدُ فائِدَةً في حَقِّ اللَّهِ تَعالى ألْبَتَّةَ، فَكانَ عَبَثًا مُطْلَقًا، فَوَجَبَ أوْ لا يَجُوزُ إطْلاقُهُ عَلى اللَّهِ تَعالى.
والجَوابُ عَنْ هَذِهِ الوُجُوهِ أنْ يُقالَ: لَمّا تَعارَضَتِ الدَّلائِلُ فَنَقُولُ: لَفْظُ الشَّيْءِ أعَمُّ الألْفاظِ، ومَتى صَدَقَ الخاصُّ صَدَقَ العامُّ، فَمَتى صَدَقَ فِيهِ كَوْنُهُ ذاتًا وحَقِيقَةً وجَبَ أنْ يَصْدُقَ عَلَيْهِ كَوْنُهُ شَيْئًا وذَلِكَ هو المَطْلُوبُ واللَّهُ أعْلَمُ.
أمّا قَوْلُهُ: ﴿وأُوحِيَ إلَيَّ هَذا القُرْآنُ لِأُنْذِرَكم بِهِ ومَن بَلَغَ﴾ فالمُرادُ أنَّهُ تَعالى أوْحى إلَيَّ هَذا القُرْآنَ لِأُنْذِرَكم بِهِ، وهو خِطابٌ لِأهْلِ مَكَّةَ، وقَوْلُهُ: (ومَن بَلَغَ) عَطْفٌ عَلى المُخاطَبِينَ مِن أهْلِ مَكَّةَ أيْ لِأُنْذِرَكم بِهِ، وأُنْذِرَ كُلَّ مَن بَلَغَهُ القُرْآنُ مِنَ العَرَبِ والعَجَمِ، وقِيلَ: مِنَ الثَّقَلَيْنِ، وقِيلَ: مَن بَلَغَهُ إلى يَوْمِ القِيامَةِ، وعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: مَن بَلَغَهُ القُرْآنُ، فَكَأنَّما رَأى مُحَمَّدًا ﷺ، وعَلى هَذا التَّفْسِيرِ فَيَحْصُلُ في الآيَةِ حَذْفٌ، والتَّقْدِيرُ: وأُوحِيَ إلَيَّ هَذا القُرْآنُ لِأُنْذِرَكم بِهِ، ومَن بَلَغَهُ هَذا القُرْآنُ. إلّا أنَّ هَذا العائِدَ مَحْذُوفٌ لِدَلالَةِ الكَلامِ (p-١٤٨)عَلَيْهِ، كَما يُقالُ: الَّذِي رَأيْتُ زَيْدٌ، والَّذِي ضَرَبْتُ عَمْرٌو. وفي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: (ومَن بَلَغَ) قَوْلٌ آخَرُ، وهو أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: (ومَن بَلَغَ) أيْ ومَنِ احْتَلَمَ وبَلَغَ حَدَّ التَّكْلِيفِ، وعِنْدَ هَذا لا يُحْتاجُ إلى إضْمارِ العائِدِ إلّا أنَّ الجُمْهُورَ عَلى القَوْلِ الأوَّلِ.
* * *
أمّا قَوْلُهُ: ﴿أئِنَّكم لَتَشْهَدُونَ أنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أشْهَدُ قُلْ إنَّما هو إلَهٌ واحِدٌ وإنَّنِي بَرِيءٌ مِمّا تُشْرِكُونَ﴾ فَنَقُولُ: فِيهِ بَحْثانِ:
البَحْثُ الأوَّلُ: قَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ: ”أيِنَّكم“ بِهَمْزَةٍ وكَسْرَةٍ بَعْدَها خَفِيفَةٍ مُشْبِهَةٍ ياءً ساكِنَةً بِلا مَدٍّ، وأبُو عَمْرٍو وقالُونُ عَنْ نافِعٍ كَذَلِكَ إلّا أنَّهُ يَمُدُّ والباقُونَ بِهَمْزَتَيْنِ بِلا مَدٍّ.
والبَحْثُ الثّانِي: أنَّ هَذا اسْتِفْهامٌ مَعْناهُ الجَحْدُ والإنْكارُ. قالَ الفَرّاءُ: ولَمْ يَقُلْ آخَرُ لِأنَّ الآلِهَةَ جَمْعٌ والجَمْعُ يَقَعُ عَلَيْهِ التَّأْنِيثُ كَما قالَ: ﴿ولِلَّهِ الأسْماءُ الحُسْنى﴾ [الأعراف: ١٨٠] وقالَ: ﴿فَما بالُ القُرُونِ الأُولى﴾ [طه: ٥١] ولَمْ يَقُلِ الأوَّلِ ولا الأوَّلِينَ وكُلُّ ذَلِكَ صَوابٌ.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿قُلْ لا أشْهَدُ قُلْ إنَّما هو إلَهٌ واحِدٌ وإنَّنِي بَرِيءٌ مِمّا تُشْرِكُونَ﴾
واعْلَمْ أنَّ هَذا الكَلامَ دالٌّ عَلى إيجابِ التَّوْحِيدِ والبَراءَةِ عَنِ الشِّرْكِ مِن ثَلاثَةِ أوْجُهٍ:
أوَّلُها: قَوْلُهُ: ﴿قُلْ لا أشْهَدُ﴾ أيْ لا أشْهَدُ بِما تَذْكُرُونَهُ مِن إثْباتِ الشُّرَكاءِ.
وثانِيها: قَوْلُهُ: ﴿قُلْ إنَّما هو إلَهٌ واحِدٌ﴾ وكَلِمَةُ: ”إنَّما“ تُفِيدُ الحَصْرَ، ولَفْظُ الواحِدِ صَرِيحٌ في التَّوْحِيدِ ونَفْيِ الشُّرَكاءِ.
وثالِثُها: قَوْلُهُ: ﴿وإنَّنِي بَرِيءٌ مِمّا تُشْرِكُونَ﴾ وفِيهِ تَصْرِيحٌ بِالبَراءَةِ عَنْ إثْباتِ الشُّرَكاءِ. فَثَبَتَ دَلالَةُ هَذِهِ الآيَةِ عَلى إيجابِ التَّوْحِيدِ بِأعْظَمِ طُرُقِ البَيانِ وأبْلَغِ وُجُوهِ التَّأْكِيدِ. قالَ العُلَماءُ: المُسْتَحَبُّ لِمَن أسْلَمَ ابْتِداءً أنْ يَأْتِيَ بِالشَّهادَتَيْنِ ويَتَبَرَّأ مِن كُلِّ دِينٍ سِوى دِينِ الإسْلامِ. ونَصَّ الشّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلى اسْتِحْبابِ ضَمِّ التَّبَرِّي إلى الشَّهادَةِ لِقَوْلِهِ: ﴿وإنَّنِي بَرِيءٌ مِمّا تُشْرِكُونَ﴾ عُقَيْبَ التَّصْرِيحِ بِالتَّوْحِيدِ.
{"ayah":"قُلۡ أَیُّ شَیۡءٍ أَكۡبَرُ شَهَـٰدَةࣰۖ قُلِ ٱللَّهُۖ شَهِیدُۢ بَیۡنِی وَبَیۡنَكُمۡۚ وَأُوحِیَ إِلَیَّ هَـٰذَا ٱلۡقُرۡءَانُ لِأُنذِرَكُم بِهِۦ وَمَنۢ بَلَغَۚ أَىِٕنَّكُمۡ لَتَشۡهَدُونَ أَنَّ مَعَ ٱللَّهِ ءَالِهَةً أُخۡرَىٰۚ قُل لَّاۤ أَشۡهَدُۚ قُلۡ إِنَّمَا هُوَ إِلَـٰهࣱ وَ ٰحِدࣱ وَإِنَّنِی بَرِیۤءࣱ مِّمَّا تُشۡرِكُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق