الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قُلْ إنَّنِي هَدانِي رَبِّي إلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إبْراهِيمَ حَنِيفًا وما كانَ مِنَ المُشْرِكِينَ﴾ .
اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا عَلَّمَ رَسُولَهُ أنْواعَ دَلائِلِ التَّوْحِيدِ، والرَّدَّ عَلى القائِلِينَ بِالشُّرَكاءِ والأنْدادِ والأضْدادِ وبالَغَ في تَقْرِيرِ إثْباتِ التَّوْحِيدِ والنّافِينَ لِلْقَضاءِ والقَدَرِ، ورَدَّ عَلى أهْلِ الجاهِلِيَّةِ في أباطِيلِهِمْ، أمَرَهُ أنْ يَخْتِمَ الكَلامَ بِقَوْلِهِ: ﴿إنَّنِي هَدانِي رَبِّي إلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّ الهِدايَةَ لا تَحْصُلُ إلّا بِاللَّهِ، وانْتَصَبَ ”دِينًا“ لِوَجْهَيْنِ:
أحَدُهُما: عَلى البَدَلِ مِن مَحَلِّ صِراطٍ؛ لِأنَّ مَعْناهُ هَدانِي رَبِّي صِراطًا مُسْتَقِيمًا كَما قالَ: ﴿ويَهْدِيَكَ صِراطًا مُسْتَقِيمًا﴾ [الفَتْحِ: ٢] .
والثّانِي: أنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: الزَمُوا دِينًا، وقَوْلُهُ: (قِيَمًا) قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: القَيِّمُ فَيْعِلٌ مِن قامَ كَسَيِّدٍ مِن سادَ وهو أبْلَغُ مِنَ القائِمِ، وقَرَأ أهْلُ الكُوفَةِ: (قِيَمًا) مَكْسُورَةَ القافِ خَفِيفَةَ الياءِ، قالَ الزَّجّاجُ: هو مَصْدَرٌ بِمَعْنى القِيامِ كالصِّغَرِ والكِبَرِ والحِوَلِ والشِّبَعِ، والتَّأْوِيلُ: دِينًا ذا قِيَمٍ، ووَصَفَ الدِّينَ بِهَذا الوَصْفِ عَلى سَبِيلِ المُبالَغَةِ.
وقَوْلُهُ: ﴿مِلَّةَ إبْراهِيمَ حَنِيفًا﴾ فَقَوْلُهُ: (مِلَّةَ) بَدَلٌ مِن قَوْلِهِ: ﴿دِينًا قِيَمًا﴾ وحَنِيفًا مَنصُوبٌ عَلى الحالِ مِن إبْراهِيمَ، والمَعْنى: هَدانِي رَبِّي وعَرَّفَنِي مِلَّةَ إبْراهِيمَ حالَ كَوْنِها مَوْصُوفَةً بِالحَنِيفِيَّةِ، ثُمَّ قالَ في صِفَةِ إبْراهِيمَ: ﴿وما كانَ مِنَ المُشْرِكِينَ﴾ والمَقْصُودُ مِنهُ الرَّدُّ عَلى المُشْرِكِينَ.
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قُلْ إنَّ صَلاتِي ونُسُكِي ومَحْيايَ ومَماتِي لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ﴾ ﴿لا شَرِيكَ لَهُ وبِذَلِكَ أُمِرْتُ وأنا أوَّلُ المُسْلِمِينَ﴾
اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى كَما عَرَّفَهُ الدِّينَ المُسْتَقِيمَ عَرَّفَهُ كَيْفَ يَقُومُ بِهِ ويُؤَدِّيهِ، فَقَوْلُهُ: ﴿قُلْ إنَّ صَلاتِي ونُسُكِي ومَحْيايَ ومَماتِي لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ﴾ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ يُؤَدِّيهِ مَعَ الإخْلاصِ وأكَّدَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿لا شَرِيكَ لَهُ﴾ وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّهُ لا يَكْفِي في العِباداتِ أنْ يُؤْتى بِها كَيْفَ كانَتْ بَلْ يَجِبُ أنْ يُؤْتى بِها مَعَ تَمامِ الإخْلاصِ، وهَذا مِن أقْوى الدَّلائِلِ عَلى أنَّ شَرْطَ صِحَّةِ الصَّلاةِ أنْ يُؤْتى بِها مَقْرُونَةً بِالإخْلاصِ.
أمّا قَوْلُهُ: ﴿ونُسُكِي﴾ فَقِيلَ: المُرادُ بِالنُّسُكِ الذَّبِيحَةُ بِعَيْنِها، يَقُولُ: مَن فَعَلَ كَذا فَعَلَيْهِ نُسُكٌ؛ أيْ: دَمٌ يُهَرِيقُهُ، وجَمَعَ بَيْنَ الصَّلاةِ والذَّبْحِ، كَما في قَوْلِهِ: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وانْحَرْ﴾ [الكَوْثَرِ: ٢] ورَوى ثَعْلَبٌ عَنِ ابْنِ الأعْرابِيِّ أنَّهُ قالَ: النُّسُكُ سَبائِكُ الفِضَّةِ، كُلُّ سَبِيكَةٍ مِنها نَسِيكَةٌ، وقِيلَ لِلْمُتَعَبِّدِ ناسِكٌ؛ لِأنَّهُ خَلَّصَ نَفْسَهُ مِن دَنَسِ الآثامِ، وصَفّاها كالسَّبِيكَةِ المُخَلَّصَةِ مِنَ الخَبَثِ، وعَلى هَذا التَّأْوِيلِ، فالنُّسُكُ كُلُّ ما تَقَرَّبْتَ بِهِ إلى اللَّهِ تَعالى. إلّا أنَّ الغالِبَ عَلَيْهِ في العُرْفِ الذَّبْحُ، وقَوْلُهُ: ﴿ومَحْيايَ ومَماتِي﴾ أيْ حَياتِي ومَوْتِي لِلَّهِ.
(p-١١)واعْلَمْ أنَّهُ تَعالى قالَ: ﴿إنَّ صَلاتِي ونُسُكِي ومَحْيايَ ومَماتِي لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ﴾ فَأثْبَتَ كَوْنَ الكُلِّ لِلَّهِ، والمَحْيا والمَماتُ لَيْسا لِلَّهِ بِمَعْنى أنَّهُ يُؤْتى بِهِما لِطاعَةِ اللَّهِ تَعالى، فَإنَّ ذَلِكَ مُحالٌ، بَلْ مَعْنى كَوْنِهِما لِلَّهِ أنَّهُما حاصِلانِ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعالى، فَكَذَلِكَ أنْ يَكُونَ كَوْنُ الصَّلاةِ والنُّسُكِ لِلَّهِ مُفَسَّرًا بِكَوْنِهِما واقِعَيْنِ بِخَلْقِ اللَّهِ، وذَلِكَ مِن أدَلِّ الدَّلائِلِ عَلى أنَّ طاعاتِ العَبْدِ مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ تَعالى.
وقَرَأ نافِعٌ (مَحْيايْ) ساكِنَةَ الياءِ ونَصَبَها في مَماتِي، وإسْكانُ الياءِ في مَحْيايَ شاذٌّ غَيْرُ مُسْتَعْمَلٍ، لِأنَّ فِيهِ جَمْعًا بَيْنَ ساكِنَيْنِ لا يَلْتَقِيانِ عَلى هَذا الحَدِّ في نَثْرٍ ولا نَظْمٍ، ومِنهم مَن قالَ: إنَّهُ لُغَةٌ لِبَعْضِهِمْ، وحاصِلُ الكَلامِ، أنَّهُ تَعالى أمَرَ رَسُولَهُ أنْ يُبَيِّنَ أنَّ صَلاتَهُ وسائِرَ عِباداتِهِ وحَياتَهُ ومَماتَهُ كُلَّها واقِعَةٌ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعالى، وتَقْدِيرِهِ وقَضائِهِ وحُكْمِهِ، ثُمَّ نَصَّ عَلى أنْ لا شَرِيكَ لَهُ في الخَلْقِ، والتَّقْدِيرُ: ثُمَّ يَقُولُ وبِذَلِكَ أُمِرْتُ: أيْ وبِهَذا التَّوْحِيدِ أُمِرْتُ.
ثُمَّ يَقُولُ: ﴿وأنا أوَّلُ المُسْلِمِينَ﴾ أيِ المُسْتَسْلِمِينَ لِقَضاءِ اللَّهِ وقَدَرِهِ، ومَعْلُومٌ أنَّهُ لَيْسَ أوَّلًا لِكُلِّ مُسْلِمٍ، فَيَجِبُ أنْ يَكُونَ المُرادُ كَوْنَهُ أوَّلًا لِمُسْلِمِي زَمانِهِ.
{"ayahs_start":161,"ayahs":["قُلۡ إِنَّنِی هَدَىٰنِی رَبِّیۤ إِلَىٰ صِرَ ٰطࣲ مُّسۡتَقِیمࣲ دِینࣰا قِیَمࣰا مِّلَّةَ إِبۡرَ ٰهِیمَ حَنِیفࣰاۚ وَمَا كَانَ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِینَ","قُلۡ إِنَّ صَلَاتِی وَنُسُكِی وَمَحۡیَایَ وَمَمَاتِی لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَـٰلَمِینَ","لَا شَرِیكَ لَهُۥۖ وَبِذَ ٰلِكَ أُمِرۡتُ وَأَنَا۠ أَوَّلُ ٱلۡمُسۡلِمِینَ"],"ayah":"قُلۡ إِنَّنِی هَدَىٰنِی رَبِّیۤ إِلَىٰ صِرَ ٰطࣲ مُّسۡتَقِیمࣲ دِینࣰا قِیَمࣰا مِّلَّةَ إِبۡرَ ٰهِیمَ حَنِیفࣰاۚ وَمَا كَانَ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق