الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿سَيَقُولُ الَّذِينَ أشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أشْرَكْنا ولا آباؤُنا ولا حَرَّمْنا مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ حَتّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكم مِن عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إنْ تَتَّبِعُونَ إلّا الظَّنَّ وإنْ أنْتُمْ إلّا تَخْرُصُونَ﴾ ﴿قُلْ فَلِلَّهِ الحُجَّةُ البالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكم أجْمَعِينَ﴾ اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا حَكى عَنْ أهْلِ الجاهِلِيَّةِ إقْدامَهم عَلى الحُكْمِ في دِينِ اللَّهِ بِغَيْرِ حُجَّةٍ ولا دَلِيلٍ، حَكى عَنْهم عُذْرَهم في كُلِّ ما يُقْدِمُونَ عَلَيْهِ مِنَ الكُفْرِيّاتِ، فَيَقُولُونَ: لَوْ شاءَ اللَّهُ مِنّا أنْ لا نَكْفُرَ لَمَنَعَنا عَنْ هَذا الكُفْرِ، وحَيْثُ لَمْ يَمْنَعْنا عَنْهُ، ثَبَتَ أنَّهُ مُرِيدٌ لِذَلِكَ فَإذا أرادَ اللَّهُ ذَلِكَ مِنّا امْتَنَعَ مِنّا تَرْكُهُ فَكُنّا مَعْذُورِينَ فِيهِ، وفي الآيَةِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: اعْلَمْ أنَّ المُعْتَزِلَةَ زَعَمُوا أنَّ هَذِهِ الآيَةَ تَدُلُّ عَلى قَوْلِهِمْ في مَسْألَةِ إرادَةِ الكائِناتِ مِن سَبْعَةِ أوْجُهٍ:(p-١٨٥) فالوَجْهُ الأوَّلُ: أنَّهُ تَعالى حَكى عَنِ الكُفّارِ صَرِيحَ قَوْلِ المُجْبِرَةِ وهو قَوْلُهم: لَوْ شاءَ اللَّهُ مِنّا أنْ لا نُشْرِكَ لَمْ نُشْرِكْ، وإنَّما حَكى عَنْهم هَذا القَوْلَ في مَعْرِضِ الذَّمِّ والتَّقْبِيحِ، فَوَجَبَ كَوْنُ هَذا المَذْهَبِ مَذْمُومًا باطِلًا. والوَجْهُ الثّانِي: أنَّهُ تَعالى قالَ: ”كَذَّبَ“ وفِيهِ قِراءَتانِ بِالتَّخْفِيفِ وبِالتَّثْقِيلِ. أمّا القِراءَةُ بِالتَّخْفِيفِ فَهي تَصْرِيحٌ بِأنَّهم قَدْ كَذَبُوا في ذَلِكَ القَوْلِ، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّ الَّذِي تَقُولُهُ المُجْبِرَةُ في هَذِهِ المَسْألَةِ كَذِبٌ. وأمّا القِراءَةُ بِالتَّشْدِيدِ، فَلا يُمْكِنُ حَمْلُها عَلى أنَّ القَوْمَ اسْتَوْجَبُوا الذَّمَّ بِسَبَبِ أنَّهم كَذَّبُوا أهْلَ المَذاهِبِ، لِأنّا لَوْ حَمَلْنا الآيَةَ عَلَيْهِ لَكانَ هَذا المَعْنى ضِدًّا لِمَعْنى الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ قِراءَةُ ”كَذَبَ“ بِالتَّخْفِيفِ، وحِينَئِذٍ تَصِيرُ إحْدى القِراءَتَيْنِ ضِدًّا لِلْقِراءَةِ الأُخْرى، وذَلِكَ يُوجِبُ دُخُولَ التَّناقُضِ في كَلامِ اللَّهِ تَعالى، وإذا بَطَلَ ذَلِكَ وجَبَ حَمْلُهُ عَلى أنَّ المُرادَ مِنهُ أنْ كُلَّ مَن كَذَّبَ نَبِيًّا مِنَ الأنْبِياءِ في الزَّمانِ المُتَقَدِّمِ، فَإنَّهُ كَذَّبَهُ بِهَذا الطَّرِيقِ؛ لِأنَّهُ يَقُولُ الكُلُّ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعالى، فَهَذا الَّذِي أنا عَلَيْهِ مِنَ الكُفْرِ إنَّما حَصَلَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعالى، فَلَمْ يَمْنَعْنِي مِنهُ، فَهَذا طَرِيقٌ مُتَعَيِّنٌ لِكُلِّ الكُفّارِ المُتَقَدِّمِينَ والمُتَأخِّرِينَ في تَكْذِيبِ الأنْبِياءِ، وفي دَفْعِ دَعَوْتِهِمْ عَنْ أنْفُسِهِمْ، فَإذا حَمَلْنا الآيَةَ عَلى هَذا الوَجْهِ صارَتِ القِراءَةُ بِالتَّشْدِيدِ مُؤَكِّدَةً لِلْقِراءَةِ بِالتَّخْفِيفِ ويَصِيرُ مَجْمُوعُ القِراءَتَيْنِ دالًّا عَلى إبْطالِ قَوْلِ المُجْبِرَةِ. الوَجْهُ الثّالِثُ: في دَلالَةِ الآيَةِ عَلى قَوْلِنا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿حَتّى ذاقُوا بَأْسَنا﴾ وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّهُمُ اسْتَوْجَبُوا الوَعِيدَ مِنَ اللَّهِ تَعالى في ذَهابِهِمْ إلى هَذا المَذْهَبِ. المَذْهَبُ الرّابِعُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قُلْ هَلْ عِنْدَكم مِن عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا﴾ ولا شَكَّ أنَّهُ اسْتِفْهامٌ عَلى سَبِيلِ الإنْكارِ، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّ القائِلِينَ بِهَذا القَوْلِ لَيْسَ لَهم بِهِ عِلْمٌ ولا حُجَّةٌ، وهَذا يَدُلُّ عَلى فَسادِ هَذا المَذْهَبِ؛ لِأنَّ كُلَّ ما كانَ حَقًّا كانَ القَوْلُ بِهِ عِلْمًا. الوَجْهُ الخامِسُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنْ يَتَّبِعُونَ إلّا الظَّنَّ﴾ مَعَ أنَّهُ تَعالى قالَ في سائِرِ الآياتِ: ﴿إنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيْئًا﴾ . [النجم: ٢٨] والوَجْهُ السّادِسُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وإنْ هم إلّا يَخْرُصُونَ﴾ والخَرَصُ أقْبَحُ أنْواعِ الكَذِبِ، وأيْضًا قالَ تَعالى: ﴿قُتِلَ الخَرّاصُونَ﴾ . [الذاريات: ١٠] والوَجْهُ السّابِعُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قُلْ فَلِلَّهِ الحُجَّةُ البالِغَةُ﴾ وتَقْرِيرُهُ: أنَّهُمُ احْتَجُّوا في دَفْعِ دَعْوَةِ الأنْبِياءِ والرُّسُلِ عَلى أنْفُسِهِمْ بِأنْ قالُوا: كُلُّ ما حَصَلَ فَهو بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعالى، وإذا شاءَ اللَّهُ مِنّا ذَلِكَ، فَكَيْفَ يُمْكِنُنا تَرْكُهُ ؟ وإذا كُنّا عاجِزِينَ عَنْ تَرْكِهِ، فَكَيْفَ يَأْمُرُنا بِتَرْكِهِ ؟ وهَلْ في وُسْعِنا وطاقَتِنا أنْ نَأْتِيَ بِفِعْلٍ عَلى خِلافِ مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعالى ؟ فَهَذا هو حُجَّةُ الكُفّارِ عَلى الأنْبِياءِ، فَقالَ تَعالى: ﴿قُلْ فَلِلَّهِ الحُجَّةُ البالِغَةُ﴾ وذَلِكَ مِن وجْهَيْنِ: الوَجْهُ الأوَّلُ: أنَّهُ تَعالى أعْطاكم عُقُولًا كامِلَةً، وأفْهامًا وافِيَةً، وآذانًا سامِعَةً، وعُيُونًا باصِرَةً، وأقْدَرَكم عَلى الخَيْرِ والشَّرِّ، وأزالَ الأعْذارَ والمَوانِعَ بِالكُلِّيَّةِ عَنْكم، فَإنْ شِئْتُمْ ذَهَبْتُمْ إلى عَمَلِ الخَيْراتِ، وإنْ شِئْتُمْ إلى عَمَلِ المَعاصِي والمُنْكَراتِ، وهَذِهِ القُدْرَةُ والمُكْنَةُ مَعْلُومَةُ الثُّبُوتِ بِالضَّرُورَةِ، وزَوالُ المَوانِعِ والعَوائِقِ مَعْلُومُ الثُّبُوتِ أيْضًا بِالضَّرُورَةِ، وإذا كانَ الأمْرُ كَذَلِكَ كانَ ادِّعاؤُكم أنَّكم عاجِزُونَ عَنِ الإيمانِ والطّاعَةِ دَعْوى باطِلَةً، فَثَبَتَ بِما ذَكَرْنا أنَّهُ لَيْسَ لَكم عَلى اللَّهِ حُجَّةٌ بالِغَةٌ، بَلْ لِلَّهِ الحُجَّةُ البالِغَةُ عَلَيْكم. (p-١٨٦)والوَجْهُ الثّانِي: أنَّكم تَقُولُونَ: لَوْ كانَتْ أفْعالُنا واقِعَةً عَلى خِلافِ مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعالى، لَكُنّا قَدْ غَلَبْنا اللَّهَ وقَهَرْناهُ، وأتَيْنا بِالفِعْلِ عَلى مُضادَّتِهِ ومُخالَفَتِهِ، وذَلِكَ يُوجِبُ كَوْنَهُ عاجِزًا ضَعِيفًا، وذَلِكَ يَقْدَحُ في كَوْنِهِ إلَهًا. فَأجابَ تَعالى عَنْهُ: بِأنَّ العَجْزَ والضَّعْفَ إنَّما يَلْزَمُ إذا لَمْ أكُنْ قادِرًا عَلى حَمْلِهِمْ عَلى الإيمانِ والطّاعَةِ عَلى سَبِيلِ القَهْرِ والإلْجاءِ، وأنا قادِرٌ عَلى ذَلِكَ وهو المُرادُ مِن قَوْلِهِ: ﴿ولَوْ شاءَ لَهَداكم أجْمَعِينَ﴾ إلّا أنِّي لا أحْمِلُكم عَلى الإيمانِ والطّاعَةِ عَلى سَبِيلِ القَهْرِ والإلْجاءِ؛ لِأنَّ ذَلِكَ يُبْطِلُ الحِكْمَةَ المَطْلُوبَةَ مِنَ التَّكْلِيفِ، فَثَبَتَ بِهَذا البَيانِ أنَّ الَّذِي يَقُولُونَهُ مِن أنّا لَوْ أتَيْنا بِعَمَلٍ عَلى خِلافِ مَشِيئَةِ اللَّهِ، فَإنَّهُ يَلْزَمُ مِنهُ كَوْنُهُ تَعالى عاجِزًا ضَعِيفًا، كَلامٌ باطِلٌ. فَهَذا أقْصى ما يُمْكِنُ أنْ يُذْكَرَ في تَمَسُّكِ المُعْتَزِلَةِ بِهَذِهِ الآيَةِ. والجَوابُ المُعْتَمَدَ في هَذا البابِ أنْ نَقُولَ: إنّا بَيَّنّا أنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مِن أوَّلِها إلى آخِرِها تَدُلُّ عَلى صِحَّةِ قَوْلِنا ومَذْهَبِنا، ونَقَلْنا في كُلِّ آيَةٍ ما يَذْكُرُونَهُ مِنَ التَّأْوِيلاتِ، وأجَبْنا عَنْها بِأجْوِبَةٍ واضِحَةٍ قَوِيَّةٍ مُؤَكَّدَةٍ بِالدَّلائِلِ العَقْلِيَّةِ القاطِعَةِ. وإذا ثَبَتَ هَذا، فَلَوْ كانَ المُرادُ مِن هَذِهِ الآيَةِ ما ذَكَرْتُمْ، لَوَقَعَ التَّناقُضُ الصَّرِيحُ في كِتابِ اللَّهِ تَعالى فَإنَّهُ يُوجِبُ أعْظَمَ أنْواعِ الطَّعْنِ فِيهِ. إذا ثَبَتَ هَذا فَنَقُولُ: إنَّهُ تَعالى حَكى عَنِ القَوْمِ أنَّهم قالُوا ﴿لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أشْرَكْنا﴾ ثُمَّ ذَكَرَ عَقِيبَهُ ﴿كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ﴾ فَهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ القَوْمَ قالُوا لَمّا كانَ الكُلُّ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعالى وتَقْدِيرِهِ، كانَ التَّكْلِيفُ عَبَثًا، فَكانَتْ دَعْوى الأنْبِياءِ باطِلَةً، ونُبُوَّتُهم ورِسالَتُهم باطِلَةً، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى بَيَّنَ أنَّ التَمَسُّكَ بِهَذا الطَّرِيقِ في إبْطالِ النُّبُوَّةِ باطِلٌ، وذَلِكَ لِأنَّهُ إلَهٌ يَفْعَلُ ما يَشاءُ ويَحْكُمُ ما يُرِيدُ، ولا اعْتِراضَ عَلَيْهِ لِأحَدٍ في فِعْلِهِ، فَهو تَعالى يَشاءُ الكُفْرَ مِنَ الكافِرِ، ومَعَ هَذا فَيَبْعَثُ إلَيْهِ الأنْبِياءَ ويَأْمُرُهُ بِالإيمانِ، ووُرُودُ الأمْرِ عَلى خِلافِ الإرادَةِ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ. فالحاصِلُ: أنَّهُ تَعالى حَكى عَنِ الكُفّارِ أنَّهم يَتَمَسَّكُونَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعالى في إبْطالِ نُبُوَّةِ الأنْبِياءِ، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى بَيَّنَ أنَّ هَذا الِاسْتِدْلالَ فاسِدٌ باطِلٌ، فَإنَّهُ لا يَلْزَمُ مِن ثُبُوتِ المَشِيئَةِ لِلَّهِ في كُلِّ الأُمُورِ دَفْعُ دَعْوَةِ الأنْبِياءِ، وعَلى هَذا الطَّرِيقِ فَقَطْ سَقَطَ هَذا الِاسْتِدْلالُ بِالكُلِّيَّةِ، وجَمِيعُ الوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْتُمُوها في التَّقْبِيحِ والتَّهْجِينِ عائِدٌ إلى تَمَسُّكِكم بِثُبُوتِ المَشِيئَةِ لِلَّهِ عَلى دَفْعِ دَعْوَةِ الأنْبِياءِ، فَيَكُونُ الحاصِلُ: أنَّ هَذا الِاسْتِدْلالَ باطِلٌ، ولَيْسَ فِيهِ البَتَّةَ ما يَدُلُّ عَلى أنَّ القَوْلَ بِالمَشِيئَةِ باطِلٌ. فَإنْ قالُوا: هَذا العُذْرُ إنَّما يَسْتَقِيمُ إذْ قَرَأْنا قَوْلَهُ تَعالى: ﴿كَذَلِكَ كَذَّبَ﴾ بِالتَّشْدِيدِ. وأمّا إذا قَرَأْناهُ بِالتَّخْفِيفِ، فَإنَّهُ يَسْقُطُ هَذا العُذْرُ بِالكُلِّيَّةِ فَنَقُولُ فِيهِ وجْهانِ: الأوَّلُ: أنّا نَمْنَعُ صِحَّةَ هَذِهِ القِراءَةِ، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ أنّا بَيَّنّا أنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مِن أوَّلِها إلى آخِرِها تَدُلُّ عَلى قَوْلِنا: فَلَوْ كانَتْ هَذِهِ الآيَةُ دالَّةً عَلى قَوْلِهِمْ، لَوَقَعَ التَّناقُضُ، ولَخَرَجَ القُرْآنُ عَنْ كَوْنِهِ كَلامًا لِلَّهِ تَعالى، ويَنْدَفِعُ هَذا التَّناقُضُ بِأنْ لا تُقْبَلَ هَذِهِ القِراءَةُ، فَوَجَبَ المَصِيرُ إلَيْهِ. الثّانِي: سَلَّمْنا صِحَّةَ هَذِهِ القِراءَةِ لَكِنّا نَحْمِلُها عَلى أنَّ القَوْمَ كَذَبُوا في أنَّهُ يَلْزَمُ مِن ثُبُوتِ مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعالى في كُلِّ أفْعالِ العِبادِ سُقُوطُ نُبُوَّةِ الأنْبِياءِ وبُطْلانُ دَعْوَتِهِمْ، وإذا حَمَلْناهُ عَلى هَذا الوَجْهِ لَمْ يَبْقَ لِلْمُعْتَزِلَةِ بِهَذِهِ الآيَةِ تَمَسُّكٌ البَتَّةَ، والحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أعانَنا عَلى الخُرُوجِ مِن هَذِهِ العُهْدَةِ القَوِيَّةِ، ومِمّا يُقَوِّي ما ذَكَرْناهُ (p-١٨٧)ما رُوِيَ أنَّ ابْنَ عَبّاسٍ قِيلَ لَهُ بَعْدَ ذَهابِ بَصَرِهِ ما تَقُولُ فِيمَن يَقُولُ: لا قَدَرَ، فَقالَ: إنْ كانَ في البَيْتِ أحَدٌ مِنهم أتَيْتُ عَلَيْهِ، ويْلَهُ ! أما يَقْرَأُ ﴿إنّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ﴾ [القمر: ٤٩] ﴿إنّا نَحْنُ نُحْيِي المَوْتى ونَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وآثارَهُمْ﴾ [يس: ١٢] وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: أوَّلُ ما خَلَقَ اللَّهُ القَلَمَ، قالَ لَهُ اكْتُبِ القَدَرَ، فَجَرى بِما يَكُونُ إلى قِيامِ السّاعَةِ، وقالَ صَلَواتُ اللَّهِ عَلَيْهِ: ”«المُكَذِّبُونَ بِالقَدَرِ مَجُوسُ هَذِهِ الأُمَّةِ» “ . * * * المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: زَعَمَ سِيبَوَيْهِ أنَّ عَطْفَ الظّاهِرِ عَلى المُضْمَرِ المَرْفُوعِ في الفِعْلِ قَبِيحٌ، فَلا يَجُوزُ أنْ يُقالَ: قُمْتُ وزَيْدٌ، وذَلِكَ لِأنَّ المَعْطُوفَ عَلَيْهِ أصْلٌ، والمَعْطُوفَ فَرْعٌ، والمُضْمَرَ ضَعِيفٌ، والمُظْهَرَ قَوِيٌّ، وجَعْلُ القَوِيِّ فَرْعًا لِلضَّعِيفِ لا يَجُوزُ. إذا عَرَفْتَ هَذا الأصْلَ فَنَقُولُ: إنْ جاءَ الكَلامُ في جانِبِ الإثْباتِ، وجَبَ تَأْكِيدُ الضَّمِيرِ فَنَقُولُ: قُمْتُ أنا وزَيْدٌ، وإنْ جاءَ في جانِبِ النَّفْيِ قُلْتَ: ما قُمْتُ ولا زَيْدٌ. إذا ثَبَتَ هَذا فَنَقُولُ قَوْلُهُ: ﴿لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أشْرَكْنا ولا آباؤُنا﴾ فَعُطِفَ قَوْلُهُ: ﴿ولا آباؤُنا﴾ عَلى الضَّمِيرِ في قَوْلِهِ: ﴿ما أشْرَكْنا﴾ إلّا أنَّهُ تَخَلَّلَ بَيْنَهُما كَلِمَةُ لا، فَلا جَرَمَ حَسُنَ هَذا العَطْفُ. قالَ في جامِعِ الأصْفَهانِيِّ: إنَّ حَرْفَ العَطْفِ يَجِبُ أنْ يَكُونَ مُتَأخِّرًا عَنِ اللَّفْظَةِ المُؤَكِّدَةِ لِلضَّمِيرِ حَتّى يَحْسُنَ العَطْفُ ويَنْدَفِعَ المَحْذُورُ المَذْكُورُ مِن عَطْفِ القَوِيِّ عَلى الضَّعِيفِ، وهَذا المَقْصُودُ إنَّما يَحْصُلُ إذا قُلْنا: ”ما أشْرَكْنا نَحْنُ ولا آباؤُنا“ حَتّى تَكُونَ كَلِمَةُ ”لا“ مُقَدَّمَةً عَلى حَرْفِ العَطْفِ. أمّا هاهُنا حَرْفُ العَطْفِ مُقَدَّمٌ عَلى كَلِمَةِ ”لا“ وحِينَئِذٍ يَعُودُ المَحْذُورُ المَذْكُورُ. فالجَوابُ: أنَّ كَلِمَةَ ”لا“ لَمّا أُدْخِلَتْ عَلى قَوْلِهِ: ”آباؤُنا“ كانَ ذَلِكَ مُوجِبًا إضْمارَ فِعْلٍ هُناكَ؛ لِأنَّ صَرْفَ النَّفْيِ إلى ذَواتِ الآباءِ مُحالٌ، بَلْ يَجِبُ صَرْفُ هَذا النَّفْيِ إلى فِعْلٍ يَصْدُرُ مِنهم، وذَلِكَ هو الإشْراكُ، فَكانَ التَّقْدِيرُ: ما أشْرَكْنا ولا أشْرَكَ آباؤُنا، وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ فالإشْكالُ زائِلٌ. * * * المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: احْتَجَّ أصْحابُنا عَلى قَوْلِهِمُ الكُلُّ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعالى بِقَوْلِهِ: ﴿فَلَوْ شاءَ لَهَداكم أجْمَعِينَ﴾ فَكَلِمَةُ ”لَوْ“ في اللُّغَةِ تُفِيدُ انْتِفاءَ الشَّيْءِ لِانْتِفاءِ غَيْرِهِ، فَدَلَّ هَذا عَلى أنَّهُ تَعالى ما شاءَ أنْ يَهْدِيَهم، وما هَداهم أيْضًا. وتَقْرِيرُهُ بِحَسَبِ الدَّلِيلِ العَقْلِيِّ، أنَّ قُدْرَةَ الكافِرِ عَلى الكُفْرِ إنْ لَمْ تَكُنْ قُدْرَةً عَلى الإيمانِ، فاللَّهُ تَعالى عَلى هَذا التَّقْدِيرِ ما أقْدَرَهُ عَلى الإيمانِ، فَلَوْ شاءَ الإيمانَ مِنهُ، فَقَدْ شاءَ الفِعْلَ مِن غَيْرِ قُدْرَةٍ عَلى الفِعْلِ، وذَلِكَ مُحالٌ ومَشِيئَةُ المُحالِ مُحالٌ، وإنْ كانَتِ القُدْرَةُ عَلى الكُفْرِ قُدْرَةً عَلى الإيمانِ تَوَقَّفَ رُجْحانُ أحَدِ الطَّرَفَيْنِ عَلى حُصُولِ الدّاعِيَةِ المُرَجِّحَةِ. فَإنْ قُلْنا: إنَّهُ تَعالى خَلَقَ تِلْكَ الدّاعِيَةَ فَقَدْ حَصَلَتِ الدّاعِيَةُ المُرَجِّحَةُ مَعَ القُدْرَةِ، ومَجْمُوعُهُما مُوجِبٌ لِلْفِعْلِ، فَحَيْثُ لَمْ يَحْصُلِ الفِعْلُ عَلِمْنا أنَّ تِلْكَ الدّاعِيَةَ لَمْ تَحْصُلْ، وإذا لَمْ تَحْصُلِ امْتَنَعَ مِنهُ فِعْلُ الإيمانِ، وإذا امْتَنَعَ ذَلِكَ مِنهُ، امْتَنَعَ أنْ يُرِيدَهُ اللَّهُ مِنهُ؛ لِأنَّ إرادَةَ المُحالِ مُحالٌ مُمْتَنِعٌ، فَثَبَتَ أنَّ ظاهِرَ القُرْآنِ دَلَّ عَلى أنَّهُ تَعالى ما أرادَ الإيمانَ مِنَ الكافِرِ، والبُرْهانُ العَقْلِيُّ الَّذِي قَرَّرْناهُ يَدُلُّ عَلَيْهِ أيْضًا، فَبَطَلَ قَوْلُهم مِن كُلِّ الوُجُوهِ، أمّا قَوْلُهُ: تُحْمَلُ هَذِهِ الآيَةُ عَلى مَشِيئَةِ الإلْجاءِ فَنَقُولُ: هَذا التَّأْوِيلُ إنَّما يَحْسُنُ المَصِيرُ إلَيْهِ لَوْ ثَبَتَ بِالبُرْهانِ العَقْلِيِّ امْتِناعُ الحَمْلِ عَلى ظاهِرِ هَذا الكَلامِ، أمّا لَوْ قامَ البُرْهانُ العَقْلِيُّ عَلى أنَّ الحَقَّ لَيْسَ إلّا ما دَلَّ (p-١٨٨)عَلَيْهِ هَذا الظّاهِرُ، فَكَيْفَ يُصارُ إلَيْهِ ؟ ثُمَّ نَقُولُ: هَذا الدَّلِيلُ باطِلٌ مِن وُجُوهٍ: الأوَّلُ: أنَّ هَذا الكَلامَ لا بُدَّ فِيهِ مِن إضْمارٍ، فَنَحْنُ نَقُولُ: التَّقْدِيرُ: لَوْ شاءَ الهِدايَةَ لَهَداكم، وأنْتُمْ تَقُولُونَ التَّقْدِيرُ: لَوْ شاءَ الهِدايَةَ عَلى سَبِيلِ الإلْجاءِ لَهَداكم، فَإضْمارُكم أكْثَرُ فَكانَ قَوْلُكم مَرْجُوحًا. الثّانِي: أنَّهُ تَعالى يُرِيدُ مِنَ الكافِرِ الإيمانَ الِاخْتِيارِيَّ، والإيمانُ الحاصِلُ بِالإلْجاءِ غَيْرُ الإيمانِ الحاصِلِ بِالِاخْتِيارِ، وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ يَلْزَمُ كَوْنُهُ تَعالى عاجِزًا عَنْ تَحْصِيلِ مُرادِهِ؛ لِأنَّ مُرادَهُ هو الإيمانُ الِاخْتِيارِيُّ، وأنَّهُ لا يَقْدِرُ البَتَّةَ عَلى تَحْصِيلِهِ، فَكانَ القَوْلُ بِالعَجْزِ لازِمًا. الثّالِثُ: أنَّ هَذا الكَلامَ مَوْقُوفٌ عَلى الفَرْقِ بَيْنَ الإيمانِ الحاصِلِ بِالِاخْتِيارِ، وبَيْنَ الإيمانِ الحاصِلِ بِالإلْجاءِ. أمّا الإيمانُ الحاصِلُ بِالِاخْتِيارِ. فَإنَّهُ يَمْتَنِعُ حُصُولُهُ إلّا عِنْدَ حُصُولِ داعِيَةٍ جازِمَةٍ، وإرادَةٍ لازِمَةٍ. فَإنَّ الدّاعِيَةَ الَّتِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْها حُصُولُ الفِعْلِ، إمّا أنْ تَكُونَ بِحَيْثُ يَجِبُ تَرَتُّبُ الفِعْلِ عَلَيْها أوْ لا يَجِبُ. فَإنْ وجَبَ فَهي الدّاعِيَةُ الضَّرُورِيَّةُ، وحِينَئِذٍ لا يَبْقى بَيْنَها وبَيْنَ الدّاعِيَةِ الحاصِلَةِ بِالإلْجاءِ فَرْقٌ. وإنْ لَمْ يَجِبْ تَرَتُّبُ الفِعْلِ عَلَيْها، فَحِينَئِذٍ يُمْكِنُ تَخَلُّفُ الفِعْلِ عَنْها، فَلْنَفْرِضْ تارَةً ذَلِكَ الفِعْلَ مُتَخَلِّفًا عَنْها، وتارَةً غَيْرَ مُتَخَلِّفٍ، فامْتِيازُ أحَدِ الوَقْتَيْنِ عَنِ الآخَرِ لا بُدَّ وأنْ يَكُونَ لِمُرَجِّحٍ زائِدٍ فالحاصِلُ قَبْلَ ذَلِكَ ما كانَ تَمامَ الدّاعِيَةِ، وقَدْ فَرَضْناهُ كَذَلِكَ، وهَذا خُلْفٌ، ثُمَّ عِنْدَ انْضِمامِ هَذا القَيْدِ الزّائِدِ إنْ وجَبَ الفِعْلُ لَمْ يَبْقَ بَيْنَهُ وبَيْنَ الضَّرُورِيَّةِ فَرْقٌ، وإنْ لَمْ يَجِبِ افْتَقَرَ إلى قَيْدٍ زائِدٍ ولَزِمَ التَّسَلْسُلُ، وهو مُحالٌ. فَثَبَتَ أنَّ الفَرْقَ الَّذِي ذَكَرُوهُ بَيْنَ الدّاعِيَةِ الِاخْتِيارِيَّةِ وبَيْنَ الدّاعِيَةِ الضَّرُورِيَّةِ وإنْ كانَ في الظّاهِرِ مُعْتَبَرًا، إلّا أنَّهُ عِنْدَ التَّحْقِيقِ والبَحْثِ لا يَبْقى لَهُ مَحْصُولٌ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب