الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قُلْ لا أجِدُ في ما أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّمًا عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إلّا أنْ يَكُونَ مَيْتَةً أوْ دَمًا مَسْفُوحًا أوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإنَّهُ رِجْسٌ أوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ ولا عادٍ فَإنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ ﴿وعَلى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ ومِنَ البَقَرِ والغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إلّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أوِ الحَوايا أوْ ما اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْناهم بِبَغْيِهِمْ وإنّا لَصادِقُونَ﴾ ﴿فَإنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكم ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ ولا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ القَوْمِ المُجْرِمِينَ﴾ اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا بَيَّنَ فَسادَ طَرِيقَةِ أهْلِ الجاهِلِيَّةِ فِيما يَحِلُّ ويَحْرُمُ مِنَ المَطْعُوماتِ أتْبَعَهُ بِالبَيانِ الصَّحِيحِ في هَذا البابِ، فَقالَ: ﴿قُلْ لا أجِدُ في ما أُوحِيَ إلَيَّ﴾ وفي الآيَةِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: قَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ وحَمْزَةُ ”إلّا أنْ تَكُونَ“ بِالتّاءِ ”مَيْتَةً“ بِالنَّصْبِ عَلى تَقْدِيرِ: إلّا أنْ تَكُونَ العَيْنُ أوِ النَّفْسُ أوِ الجُثَّةُ مَيْتَةً، وقَرَأ ابْنُ عامِرٍ إلّا أنْ تَكُونَ بِالتّاءِ ”مَيْتَةٌ“ بِالرَّفْعِ عَلى مَعْنى إلّا أنْ تَقَعَ مَيْتَةٌ أوْ تَحْدُثَ مَيْتَةٌ والباقُونَ ﴿إلّا أنْ يَكُونَ مَيْتَةً﴾ أيْ إلّا أنْ يَكُونَ المَأْكُولُ مَيْتَةً، أوْ إلّا أنْ يَكُونَ المَوْجُودُ مَيْتَةً. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: لَمّا بَيَّنَ اللَّهُ تَعالى أنَّ التَّحْرِيمَ والتَّحْلِيلَ لا يَثْبُتُ إلّا بِالوَحْيِ. قالَ: ﴿قُلْ لا أجِدُ في ما أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّمًا عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ﴾ أيْ عَلى آكِلٍ يَأْكُلُهُ، وذَكَرَ هَذا لِيُظْهِرَ أنَّ المُرادَ مِنهُ هو بَيانُ ما يَحِلُّ ويَحْرُمُ مِنَ المَأْكُولاتِ، ثُمَّ ذَكَرَ أُمُورًا أرْبَعَةً: أوَّلُها: المَيِّتَةُ. وثانِيها: الدَّمُ المَسْفُوحُ. وثالِثُها: لَحْمُ الخِنْزِيرِ فَإنَّهُ رِجْسٌ. ورابِعُها: الفِسْقُ وهو الَّذِي أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ. فَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿قُلْ لا أجِدُ في ما أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّمًا﴾ إلّا هَذِهِ الأرْبَعَةَ مُبالَغَةٌ في بَيانِ أنَّهُ لا يَحْرُمُ إلّا هَذِهِ الأرْبَعَةُ وذَلِكَ لِأنَّهُ لَمّا ثَبَتَ أنَّهُ لا طَرِيقَ إلى مَعْرِفَةِ المُحَرَّماتِ والمُحَلَّلاتِ إلّا بِالوَحْيِ، وثَبَتَ أنَّهُ لا وحْيَ مِنَ اللَّهِ تَعالى إلّا إلى مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، وثَبَتَ أنَّهُ تَعالى يَأْمُرُهُ أنْ يَقُولَ: إنِّي لا أجِدُ فِيما أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّمًا مِنَ المُحَرَّماتِ إلّا هَذِهِ الأرْبَعَةَ كانَ هَذا مُبالَغَةً في بَيانِ أنَّهُ لا يَحْرُمُ إلّا هَذِهِ الأرْبَعَةُ. واعْلَمْ أنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ، فَبَيَّنَ تَعالى في هَذِهِ السُّورَةِ المَكِّيَّةِ أنَّهُ لا مُحَرَّمَ إلّا هَذِهِ الأرْبَعَةَ ثُمَّ أكَدَّ ذَلِكَ بِأنْ قالَ في سُورَةِ النَّحْلِ: ﴿إنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ المَيْتَةَ والدَّمَ ولَحْمَ الخِنْزِيرِ وما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ﴾ (p-١٨٠)﴿غَيْرَ باغٍ ولا عادٍ فَإنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ وكَلِمَةُ ”إنَّما“ تُفِيدُ الحَصْرَ فَقَدْ حَصَلَتْ لَنا آيَتانِ مَكِّيَّتانِ يَدُلّانِ عَلى حَصْرِ المُحَرَّماتِ في هَذِهِ الأرْبَعَةِ، فَبَيَّنَ في سُورَةِ البَقَرَةِ وهي مَدَنِيَّةٌ أيْضًا أنَّهُ لا مُحَرَّمَ إلّا هَذِهِ الأرْبَعَةَ فَقالَ: ﴿إنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ المَيْتَةَ والدَّمَ ولَحْمَ الخِنْزِيرِ وما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ﴾ وكَلِمَةُ ”إنَّما“ تُفِيدُ الحَصْرَ فَصارَتْ هَذِهِ الآيَةُ المَدَنِيَّةُ مُطابِقَةً لِتِلْكَ الآيَةِ المَكِّيَّةِ لِأنَّ كَلِمَةَ ”إنَّما“ تُفِيدُ الحَصْرَ، فَكَلِمَةُ ”إنَّما“ في الآيَةِ المَدَنِيَّةِ مُطابِقَةٌ لِقَوْلِهِ: ﴿قُلْ لا أجِدُ في ما أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّمًا﴾ إلّا كَذا وكَذا في الآيَةِ المَكِّيَّةِ، ثُمَّ ذَكَرَ تَعالى في سُورَةِ المائِدَةِ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿أُحِلَّتْ لَكم بَهِيمَةُ الأنْعامِ إلّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ﴾ [المائدة: ١] وأجْمَعَ المُفَسِّرُونَ عَلى أنَّ المُرادَ بِقَوْلِهِ: ﴿إلّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ﴾ هو ما ذَكَرَهُ بَعْدَ هَذِهِ الآيَةِ بِقَلِيلٍ، وهو قَوْلُهُ: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ والدَّمُ ولَحْمُ الخِنْزِيرِ وما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ والمُنْخَنِقَةُ والمَوْقُوذَةُ والمُتَرَدِّيَةُ والنَّطِيحَةُ وما أكَلَ السَّبُعُ إلّا ما ذَكَّيْتُمْ﴾ وكُلُّ هَذِهِ الأشْياءِ أقْسامُ المَيْتَةِ، وأنَّهُ تَعالى إنَّما أعادَها بِالذِّكْرِ لِأنَّهم كانُوا يَحْكُمُونَ عَلَيْها بِالتَّحْلِيلِ، فَثَبَتَ أنَّ الشَّرِيعَةَ مِن أوَّلِها إلى آخِرِها كانَتْ مُسْتَقِرَّةً عَلى هَذا الحُكْمِ وعَلى هَذا الحَصْرِ. * * * فَإنْ قالَ قائِلٌ: فَيَلْزَمُكم في التِزامِ هَذا الحَصْرِ تَحْلِيلُ النَّجاساتِ والمُسْتَقْذَراتِ، ويَلْزَمُ عَلَيْهِ أيْضًا تَحْلِيلُ الخَمْرِ، وأيْضًا فَيَلْزَمُكم تَحْلِيلُ المُنْخَنِقَةِ والمَوْقُوذَةِ والمُتَرَدِّيَةِ والنَّطِيحَةِ مَعَ أنَّ اللَّهَ تَعالى حَكَمَ بِتَحْرِيمِها. قُلْنا: هَذا لا يَلْزَمُنا مِن وُجُوهٍ: الأوَّلُ: أنَّهُ تَعالى قالَ في هَذِهِ الآيَةِ: ﴿أوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإنَّهُ رِجْسٌ﴾ ومَعْناهُ أنَّهُ تَعالى إنَّما حَرَّمَ لَحْمَ الخِنْزِيرِ لِكَوْنِهِ نَجِسًا، فَهَذا يَقْتَضِي أنَّ النَّجاسَةَ عِلَّةٌ لِتَحْرِيمِ الأكْلِ، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ كُلُّ نَجِسٍ يَحْرُمُ أكْلُهُ، وإذا كانَ هَذا مَذْكُورًا في الآيَةِ كانَ السُّؤالُ ساقِطًا. والثّانِي: أنَّهُ تَعالى قالَ في آيَةٍ أُخْرى: ﴿ويُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبائِثَ﴾ [الأعراف: ١٥٧] وذَلِكَ يَقْتَضِي تَحْرِيمَ كُلِّ الخَبائِثِ، والنَّجاساتُ خَبائِثُ، فَوَجَبَ القَوْلُ بِتَحْرِيمِها. الثّالِثُ: أنَّ الأُمَّةَ مُجْمِعَةٌ عَلى حُرْمَةِ تَناوُلِ النَّجاساتِ، فَهَبْ أنّا التَزَمْنا تَخْصِيصَ هَذِهِ السُّورَةِ بِدَلالَةِ النَّقْلِ المُتَواتِرِ مِن دِينِ مُحَمَّدٍ في بابِ النَّجاساتِ. فَوَجَبَ أنْ يَبْقى ما سِواها عَلى وفْقِ الأصْلِ تَمَسُّكًا بِعُمُومِ كِتابِ اللَّهِ في الآيَةِ المَكِّيَّةِ والآيَةِ المَدَنِيَّةِ، فَهَذا أصْلٌ مُقَرَّرٌ كامِلٌ في بابِ ما يَحِلُّ وما يَحْرُمُ مِنَ المَطْعُوماتِ، وأمّا الخَمْرُ فالجَوابُ عَنْهُ: أنَّها نَجِسَةٌ فَيَكُونُ مِنَ الرِّجْسِ فَيَدْخُلُ تَحْتَ قَوْلِهِ: (رِجْسٌ) وتَحْتَ قَوْلِهِ: ﴿ويُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبائِثَ﴾ وأيْضًا ثَبَتَ تَخْصِيصُهُ بِالنَّقْلِ المُتَواتِرِ مِن دِينِ مُحَمَّدٍ ﷺ في تَحْرِيمِهِ، وبِقَوْلِهِ تَعالى: (فاجْتَنِبُوهُ) وبِقَوْلِهِ: ﴿وإثْمُهُما أكْبَرُ مِن نَفْعِهِما﴾ [البقرة: ٢١٩] والعامُّ المَخْصُوصُ حُجَّةٌ في غَيْرِ مَحَلِّ التَّخْصِيصِ، فَتَبْقى هَذِهِ الآيَةُ فِيما عَداها حُجَّةً. وأمّا قَوْلُهُ ويَلْزَمُ تَحْلِيلُ المَوْقُوذَةِ والمُتَرَدِّيَةِ والنَّطِيحَةِ. فالجَوابُ عَنْهُ مِن وُجُوهٍ: أوَّلُها: أنَّها مَيْتاتٌ. فَكانَتْ داخِلَةً تَحْتَ هَذِهِ الآيَةِ. وثانِيها: أنّا نَخُصُّ عُمُومَ هَذِهِ الآيَةِ بِتِلْكَ الآيَةِ. وثالِثُها: أنْ نَقُولَ إنَّها إنْ كانَتْ مَيْتَةً دَخَلَتْ تَحْتَ هَذِهِ الآيَةِ، وإنْ لَمْ تَكُنْ مَيْتَةً فَنُخَصِّصُها بِتِلْكَ الآيَةِ. فَإنْ قالَ قائِلٌ: المُحَرَّماتُ مِنَ المَطْعُوماتِ أكْثَرُ مِمّا ذُكِرَ في هَذِهِ الآيَةِ فَما وجْهُها ؟ أجابُوا عَنْهُ مِن وُجُوهٍ: أحَدُها: أنَّ المَعْنى لا أجِدُ مُحَرَّمًا مِمّا كانَ أهْلُ الجاهِلِيَّةِ يُحَرِّمُهُ مِنَ البَحائِرِ والسَّوائِبِ وغَيْرِها إلّا ما ذُكِرَ في هَذِهِ الآيَةِ. وثانِيها: أنَّ المُرادَ أنَّ وقْتَ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ لَمْ يَكُنْ تَحْرِيمٌ غَيْرَ ما نَصَّ (p-١٨١)عَلَيْهِ في هَذِهِ الآيَةِ ثُمَّ وُجِدَتْ مُحَرَّماتٌ أُخْرى بَعْدَ ذَلِكَ. وثالِثُها: هَبْ أنَّ اللَّفْظَ عامٌّ إلّا أنَّ تَخْصِيصَ عُمُومِ القُرْآنِ بِخَبَرِ الواحِدِ جائِزٌ فَنَحْنُ نُخَصِّصُ هَذا العُمُومَ بِأخْبارِ الآحادِ. ورابِعُها: أنَّ مُقْتَضى هَذِهِ الآيَةِ أنْ نَقُولَ إنَّهُ لا يَجِدُ في القُرْآنِ، ويَجُوزُ أنْ يُحَرِّمَ اللَّهُ تَعالى ما سِوى هَذِهِ الأرْبَعَةِ عَلى لِسانِ رَسُولِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ. ولِقائِلٍ أنْ يَقُولَ: هَذِهِ الأجْوِبَةُ ضَعِيفَةٌ. أمّا الجَوابُ الأوَّلُ: فَضَعِيفٌ لِوُجُوهٍ: أحَدُها: لا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ المُرادُ مِن قَوْلِهِ: ﴿قُلْ لا أجِدُ في ما أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّمًا﴾ ما كانَ يُحَرِّمُهُ أهْلُ الجاهِلِيَّةِ مِنَ السَّوائِبِ والبَحائِرِ وغَيْرِها إذْ لَوْ كانَ المُرادُ ذَلِكَ لَما كانَتِ المَيْتَةُ والدَّمُ ولَحْمُ الخِنْزِيرِ وما ذُبِحَ عَلى النُّصُبِ داخِلَةً تَحْتَهُ، ولَوْ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ الأشْياءُ داخِلَةً تَحْتَ قَوْلِهِ: ﴿قُلْ لا أجِدُ في ما أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّمًا﴾ لَما حَسُنَ اسْتِثْناؤُها، ولَمّا رَأيْنا أنَّ هَذِهِ الأشْياءَ مُسْتَثْناةٌ عَنْ تِلْكَ الكَلِمَةِ، عَلِمْنا أنَّهُ لَيْسَ المُرادُ مِن تِلْكَ الكَلِمَةِ ما ذَكَرُوهُ. وثانِيها: أنَّهُ تَعالى حَكَمَ بِفَسادِ قَوْلِهِمْ في تَحْرِيمِ تِلْكَ الأشْياءِ، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى في هَذِهِ الآيَةِ خَصَّصَ المُحَرَّماتِ في هَذِهِ الأرْبَعَةِ، وتَحْلِيلُ تِلْكَ الأشْياءِ الَّتِي حَرَّمَها أهْلُ الجاهِلِيَّةِ لا يَمْنَعُ مِن تَحْلِيلِ غَيْرِها، فَوَجَبَ إبْقاءُ هَذِهِ الآيَةِ عَلى عُمُومِها، لِأنَّ تَخْصِيصَها يُوجِبُ تَرْكَ العَمَلِ بِعُمُومِها مِن غَيْرِ دَلِيلٍ. وثالِثُها: أنَّهُ تَعالى قالَ في سُورَةِ البَقَرَةِ: ﴿إنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ﴾ وذَكَرَ هَذِهِ الأشْياءَ الأرْبَعَةَ، وكَلِمَةُ ”إنَّما“ تُفِيدُ الحَصْرَ، وهَذِهِ الآيَةُ في سُورَةِ البَقَرَةِ غَيْرُ مَسْبُوقَةٍ بِحِكايَةِ أقْوالِ أهْلِ الجاهِلِيَّةِ في تَحْرِيمِ البَحائِرِ والسَّوائِبِ فَسَقَطَ هَذا العُذْرُ. وأمّا جَوابُهُمُ الثّانِي: وهو أنَّ المُرادَ أنَّ وقْتَ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ لَمْ يَكُنْ مُحَرَّمًا إلّا هَذِهِ الأرْبَعَةُ. فَجَوابُهُ مِن وُجُوهٍ: أوَّلُها: أنَّ قَوْلَهُ تَعالى في سُورَةِ البَقَرَةِ: ﴿إنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ المَيْتَةَ والدَّمَ ولَحْمَ الخِنْزِيرِ وما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ﴾ آيَةٌ مَدَنِيَّةٌ نَزَلَتْ بَعْدَ اسْتِقْرارِ الشَّرِيعَةِ، وكَلِمَةُ ”إنَّما“ تُفِيدُ الحَصْرَ فَدَلَّ هاتانِ الآيَتانِ عَلى أنَّ الحُكْمَ الثّابِتَ في شَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ مِن أوَّلِها إلى آخِرِها لَيْسَ إلّا حَصْرَ المُحَرَّماتِ في هَذِهِ الأشْياءِ. وثانِيها: أنَّهُ لَمّا ثَبَتَ بِمُقْتَضى هاتَيْنِ الآيَتَيْنِ حَصْرُ المُحَرَّماتِ في هَذِهِ الأرْبَعَةِ كانَ هَذا اعْتِرافًا بِحِلِّ ما سِواها، فالقَوْلُ بِتَحْرِيمِ شَيْءٍ خامِسٍ يَكُونُ نَسْخًا، ولا شَكَّ أنَّ مَدارَ الشَّرِيعَةِ عَلى أنَّ الأصْلَ عَدَمُ النَّسْخِ؛ لِأنَّهُ لَوْ كانَ احْتِمالُ طَرَيانِ النّاسِخِ مُعادِلًا لِاحْتِمالِ بَقاءِ الحُكْمِ عَلى ما كانَ، فَحِينَئِذٍ لا يُمْكِنُ التَّمَسُّكُ بِشَيْءٍ مِنَ النُّصُوصِ في إثْباتِ شَيْءٍ مِنَ الأحْكامِ لِاحْتِمالِ أنْ يُقالَ: إنَّهُ وإنْ كانَ ثابِتًا إلّا أنَّهُ زالَ، ولَمّا اتَّفَقَ الكُلُّ عَلى أنَّ الأصْلَ عَدَمُ النَّسْخِ، وأنَّ القائِلَ بِهِ والذّاهِبَ إلَيْهِ هو المُحْتاجُ إلى الدَّلِيلِ؛ عَلِمْنا فَسادَ هَذا السُّؤالِ. وأمّا جَوابُهُمُ الثّالِثُ: وهو أنّا نُخَصِّصُ عُمُومَ القُرْآنِ بِخَبَرِ الواحِدِ. فَنَقُولُ: لَيْسَ هَذا مِن بابِ التَّخْصِيصِ، بَلْ هو صَرِيحُ النَّسْخِ؛ لِأنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿قُلْ لا أجِدُ في ما أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّمًا عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ﴾ مُبالَغَةٌ في أنَّهُ لا يَحْرُمُ سِوى هَذِهِ الأرْبَعَةِ، وقَوْلُهُ في سُورَةِ البَقَرَةِ: ﴿إنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ المَيْتَةَ﴾ وكَذا وكَذا، تَصْرِيحٌ بِحَصْرِ المُحَرَّماتِ في هَذِهِ الأرْبَعَةِ؛ لِأنَّ كَلِمَةَ ”إنَّما“ تُفِيدُ الحَصْرَ، فالقَوْلُ بِأنَّهُ لَيْسَ الأمْرُ كَذَلِكَ يَكُونُ دَفْعًا لِهَذا الَّذِي ثَبَتَ بِمُقْتَضى هاتَيْنِ الآيَتَيْنِ أنَّهُ كانَ ثابِتًا في أوَّلِ الشَّرِيعَةِ بِمَكَّةَ، وفي آخِرِها بِالمَدِينَةِ، ونَسْخُ القُرْآنِ بِخَبَرِ الواحِدِ لا يَجُوزُ. (p-١٨٢)وأمّا جَوابُهُمُ الرّابِعُ: فَضَعِيفٌ أيْضًا؛ لِأنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿قُلْ لا أجِدُ في ما أُوحِيَ إلَيَّ﴾ يَتَناوَلُ كُلَّ ما كانَ وحْيًا، سَواءٌ كانَ ذَلِكَ الوَحْيُ قُرْآنًا أوْ غَيْرَهُ، وأيْضًا فَقَوْلُهُ في سُورَةِ البَقَرَةِ: ﴿إنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ المَيْتَةَ﴾ يُزِيلُ هَذا الِاحْتِمالَ. فَثَبَتَ بِالتَّقْرِيرِ الَّذِي ذَكَرْنا قُوَّةُ هَذا الكَلامِ، وصِحَّةُ هَذا المَذْهَبِ، وهو الَّذِي كانَ يَقُولُ بِهِ مالِكُ بْنُ أنَسٍ رَحِمَهُ اللَّهُ، ومِنَ السُّؤالاتِ الضَّعِيفَةِ أنَّ كَثِيرًا مِنَ الفُقَهاءِ خَصَّصُوا عُمُومَ هَذِهِ الآيَةِ بِما نُقِلَ أنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ قالَ: ”«ما اسْتَخْبَثَهُ العَرَبُ فَهو حَرامٌ» “ وقَدْ عُلِمَ أنَّ الَّذِي يَسْتَخْبِثُهُ العَرَبُ فَهو غَيْرُ مَضْبُوطٍ، فَسَيِّدُ العَرَبِ بَلْ سَيِّدُ العالَمِينَ مُحَمَّدٌ صَلَواتُ اللَّهِ عَلَيْهِ، لَمّا رَآهم يَأْكُلُونَ الضَّبَّ قالَ: ”«يَعافُهُ طَبْعِي» “ ثُمَّ إنَّ هَذا الِاسْتِقْذارَ ما صارَ سَبَبًا لِتَحْرِيمِ الضَّبِّ. وأمّا سائِرُ العَرَبِ فَمِنهم مَن لا يَسْتَقْذِرُ شَيْئًا، وقَدْ يَخْتَلِفُونَ في بَعْضِ الأشْياءِ، فَيَسْتَقْذِرُها قَوْمٌ ويَسْتَطِيبُها آخَرُونَ، فَعَلِمْنا أنَّ أمْرَ الِاسْتِقْذارِ غَيْرُ مَضْبُوطٍ، بَلْ هو مُخْتَلِفٌ بِاخْتِلافِ الأشْخاصِ والأحْوالِ، فَكَيْفَ يَجُوزُ نَسْخُ هَذا النَّصِّ القاطِعِ بِذَلِكَ الأمْرِ الَّذِي لَيْسَ لَهُ ضابِطٌ مُعَيَّنٌ ولا قانُونٌ مَعْلُومٌ ؟ * * * المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: اعْلَمْ أنّا قَدْ ذَكَرْنا المَسائِلَ المُتَعَلِّقَةَ بِهَذِهِ الأشْياءِ الأرْبَعَةِ في سُورَةِ البَقَرَةِ عَلى سَبِيلِ الِاسْتِقْصاءِ، فَلا فائِدَةَ في الإعادَةِ. فَأوَّلُها: المَيْتَةُ، ودَخَلَها التَّخْصِيصُ في قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ”«أُحِلَّتْ لَنا مَيْتَتانِ السَّمَكُ والجَرادُ» “ . وثانِيها: الدَّمُ المَسْفُوحُ، والسَّفْحُ الصَّبُّ. يُقالُ: سَفَحَ الدَّمَ سَفْحًا، وسَفَحَ هو سُفُوحًا إذا سالَ. وأنْشَدَ أبُو عُبَيْدَةَ لِكُثَيِّرٍ: ؎أقُولُ ودَمْعِي واكِفٌ عِنْدَ رَسْمِها عَلَيْكِ سَلامُ اللَّهِ والدَّمْعُ يَسْفَحُ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: يُرِيدُ ما خَرَجَ مِنَ الأنْعامِ وهي أحْياءٌ، وما يَخْرُجُ مِنَ الأوْداجِ عِنْدَ الذَّبْحِ، وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ: فَلا يَدْخُلُ فِيهِ الكَبِدُ والطِّحالُ لِجُمُودِهِما، ولا ما يَخْتَلِطُ بِاللَّحْمِ مِنَ الدَّمِ فَإنَّهُ غَيْرُ سائِلٍ، وسُئِلَ أبُو مِجْلَزٍ عَمّا يَتَلَطَّخُ مِنَ اللَّحْمِ بِالدَّمِ، وعَنِ القَدَرِيِّ: يُرى فِيها حُمْرَةُ الدَّمِ، فَقالَ لا بَأْسَ بِهِ، إنَّما نُهِيَ عَنِ الدَّمِ المَسْفُوحِ. وثالِثُها: لَحْمُ الخِنْزِيرِ فَإنَّهُ رِجْسٌ. ورابِعُها: قَوْلُهُ: ﴿أوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ﴾ وهو مَنسُوقٌ عَلى قَوْلِهِ: ﴿إلّا أنْ يَكُونَ مَيْتَةً أوْ دَمًا مَسْفُوحًا﴾ فَسُمِّيَ ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فِسْقًا لِتَوَغُّلِهِ في بابِ الفِسْقِ كَما يُقالُ: فُلانٌ كَرَمٌ وجُودٌ إذا كانَ كامِلًا فِيهِما، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولا تَأْكُلُوا مِمّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وإنَّهُ لَفِسْقٌ﴾ . * * * وأمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ ولا عادٍ فَإنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ فالمَعْنى أنَّهُ لَمّا بَيَّنَ في هَذِهِ الأرْبَعَةِ أنَّها مُحَرَّمَةٌ، بَيَّنَ أنْ عِنْدَ الِاضْطِرارِ يَزُولُ ذَلِكَ التَّحْرِيمُ، وهَذِهِ الآيَةُ قَدِ اسْتَقْصَيْنا تَفْسِيرَها في سُورَةِ البَقَرَةِ. وقَوْلُهُ عَقِيبَ ذَلِكَ: ﴿فَإنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ يَدُلُّ عَلى حُصُولِ الرُّخْصَةِ، ثُمَّ بَيَّنَ تَعالى أنَّهُ حَرَّمَ عَلى اليَهُودِ أشْياءَ أُخْرى سِوى هَذِهِ الأرْبَعَةِ، وهي نَوْعانِ: الأوَّلُ: أنَّهُ تَعالى حَرَّمَ عَلَيْهِمْ كُلَّ ذِي ظُفُرٍ، وفِيهِ مَباحِثُ: البَحْثُ الأوَّلُ: قالَ الواحِدِيُّ: في الظُّفُرِ لُغاتٌ ظُفُرٌ بِضَمِّ الفاءِ، وهو أعْلاها وظُفْرٌ بِسُكُونِ الفاءِ، وظِفْرٌ بِكَسْرِ الظّاءِ وسُكُونِ الفاءِ، وهي قِراءَةُالحَسَنِ وظِفِرٌ بِكَسْرِهِما وهي قِراءَةُ أبِي السَّمّالِ. البَحْثُ الثّانِي: قالَ الواحِدِيُّ: اخْتَلَفُوا في كُلِّ ذِي ظُفُرٍ الَّذِي حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعالى عَلى اليَهُودِ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: أنَّهُ الإبِلُ فَقَطْ. وفي رِوايَةٍ أُخْرى عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: أنَّهُ الإبِلُ والنَّعامَةُ، وهو قَوْلُ مُجاهِدٍ. وقالَ (p-١٨٣)عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُسْلِمٍ: إنَّهُ كُلُّ ذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ وكُلُّ ذِي حافِرٍ مِنَ الدَّوابِّ. ثُمَّ قالَ: ”كَذَلِكَ“ قالَ المُفَسِّرُونَ. وقالَ: وسُمِّيَ الحافِرُ ظُفُرًا عَلى الِاسْتِعارَةِ. وأقُولُ: أمّا حَمْلُ الظُّفُرِ عَلى الحافِرِ فَبَعِيدٌ مِن وجْهَيْنِ: الأوَّلُ: أنَّ الحافِرَ لا يَكادُ يُسَمّى ظُفُرًا. والثّانِي: أنَّهُ لَوْ كانَ الأمْرُ كَذَلِكَ لَوَجَبَ أنْ يُقالَ: إنَّهُ تَعالى حَرَّمَ عَلَيْهِمْ كُلَّ حَيَوانٍ لَهُ حافِرٌ، وذَلِكَ باطِلٌ لِأنَّ الآيَةَ تَدُلُّ عَلى أنَّ الغَنَمَ والبَقَرَ مُباحانِ لَهم مِن حُصُولِ الحافِرِ لَهُما. وإذا ثَبَتَ هَذا فَنَقُولُ: وجَبَ حَمْلُ الظُّفُرِ عَلى المَخالِبِ والبَراثِنِ لِأنَّ المَخالِبَ آلاتُ الجَوارِحِ في الِاصْطِيادِ، والبَراثِنَ آلاتُ السِّباعِ في الِاصْطِيادِ، وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ: يَدْخُلُ فِيهِ أنْواعُ السِّباعِ والكِلابِ والسَّنانِيرِ، ويَدْخُلُ فِيهِ الطُّيُورُ الَّتِي تَصْطادُ لِأنَّ هَذِهِ الصِّفَةَ تَعُمُّ هَذِهِ الأجْناسَ. * * * إذا ثَبَتَ هَذا فَنَقُولُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وعَلى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ﴾ يُفِيدُ تَخْصِيصَ هَذِهِ الحُرْمَةِ بِهِمْ مِن وجْهَيْنِ: الأوَّلُ: أنَّ قَوْلَهُ: ﴿وعَلى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا﴾ كَذا وكَذا يُفِيدُ الحَصْرَ في اللُّغَةِ. والثّانِي: أنَّهُ لَوْ كانَتْ هَذِهِ الحُرْمَةُ ثابِتَةً في حَقِّ الكُلِّ لَمْ يَبْقَ لِقَوْلِهِ، ﴿وعَلى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا﴾ فائِدَةٌ. فَثَبَتَ أنَّ تَحْرِيمَ السِّباعِ وذَوِي المَخالِبِ مِنَ الطَّيْرِ مُخْتَصٌّ بِاليَهُودِ، فَوَجَبَ أنْ لا تَكُونَ مُحَرَّمَةً عَلى المُسْلِمِينَ، فَصارَتْ هَذِهِ الآيَةُ دالَّةً عَلى[ عَدَمِ حُرْمَةِ ] هَذِهِ الحَيَواناتِ عَلى المُسْلِمِينَ، وعِنْدَ هَذا نَقُولُ: ما رُوِيَ أنَّهُ ﷺ «حَرَّمَ كُلَّ ذِي نابٍ مِنَ السِّباعِ وذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطُّيُورِ» ضَعِيفٌ؛ لِأنَّهُ خَبَرُ واحِدٍ عَلى خِلافِ كِتابِ اللَّهِ تَعالى، فَوَجَبَ أنْ لا يَكُونَ مَقْبُولًا، وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ: يَقْوى قَوْلُ مالِكٍ في هَذِهِ المَسْألَةِ. النَّوْعُ الثّانِي: مِنَ الأشْياءِ الَّتِي حَرَّمَها اللَّهُ تَعالى عَلى اليَهُودِ خاصَّةً، قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ومِنَ البَقَرِ والغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما﴾ فَبَيَّنَ تَعالى أنَّهُ حَرَّمَ عَلى اليَهُودِ شُحُومَ البَقَرِ والغَنَمِ، ثُمَّ في الآيَةِ قَوْلانِ: الأوَّلُ: إنَّهُ تَعالى اسْتَثْنى عَنْ هَذا التَّحْرِيمِ ثَلاثَةَ أنْواعٍ: أوَّلُها: قَوْلُهُ: ﴿إلّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما﴾ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: إلّا ما عَلِقَ بِالظَّهْرِ مِنَ الشَّحْمِ، فَإنِّي لَمْ أُحَرِّمْهُ وقالَ قَتادَةُ: إلّا ما عَلِقَ بِالظَّهْرِ والجَنْبِ مِن داخِلِ بُطُونِها، وأقُولُ لَيْسَ عَلى الظَّهْرِ والجَنْبِ شَحْمٌ إلّا اللَّحْمُ الأبْيَضُ السَّمِينُ المُلْتَصِقُ بِاللَّحْمِ الأحْمَرِ عَلى هَذا التَّقْدِيرِ: فَذَلِكَ اللَّحْمُ السَّمِينُ المُلْتَصِقُ مُسَمًّى بِالشَّحْمِ، وبِهَذا التَّقْدِيرِ: لَوْ حَلَفَ لا يَأْكُلُ الشَّحْمَ، وجَبَ أنْ يَحْنَثَ بِأكْلِ ذَلِكَ اللَّحْمِ السَّمِينِ. والِاسْتِثْناءُ الثّانِي: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أوِ الحَوايا﴾ قالَ الواحِدِيُّ: وهي المَباعِرُ والمَصارِينُ، واحِدَتُها حاوِيَةٌ وحَوِيَّةٌ، قالَ ابْنُ الأعْرابِيِّ: هي الحَوِيَّةُ أوِ الحاوِيَةُ، وهي الدَّوّارَةُ الَّتِي في بَطْنِ الشّاةِ. وقالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: يُقالُ حاوِيَةٌ وحَوايا، مِثْلُ راوِيَةٍ ورَوايا. إذا عَرَفْتَ هَذا: فالمُرادُ أنَّ الشُّحُومَ المُلْتَصِقَةَ بِالمَباعِرِ والمَصارِينِ غَيْرُ مُحَرَّمَةٍ. والِاسْتِثْناءُ الثّالِثُ: قَوْلُهُ: ﴿ما اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ﴾ قالُوا: إنَّهُ شَحْمُ الألْيَةِ في قَوْلِ جَمِيعِ المُفَسِّرِينَ. وقالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: كُلُّ شَحْمٍ في القائِمِ والجَنْبِ والرَّأْسِ، وفي العَيْنَيْنِ والأُذُنَيْنِ. يَقُولُ: إنَّهُ اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ فَهو حَلالٌ لَهم، وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ: فالشَّحْمُ الَّذِي حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ هو الثَّرَبُ وشَحْمُ الكُلْيَةِ. القَوْلُ الثّانِي: في الآيَةِ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿أوِ الحَوايا﴾ غَيْرُ مَعْطُوفٍ عَلى المُسْتَثْنى، بَلْ عَلى المُسْتَثْنى مِنهُ والتَّقْدِيرُ: حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ شُحُومُهُما أوِ الحَوايا أوْ ما اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ إلّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما فَإنَّهُ غَيْرُ مُحَرَّمٍ قالُوا: (p-١٨٤)ودَخَلَتْ كَلِمَةُ ”أوْ“ كَدُخُولِها في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولا تُطِعْ مِنهم آثِمًا أوْ كَفُورًا﴾ [الإنسان: ٢٤] والمَعْنى كُلُّ هَؤُلاءِ أهْلٌ أنْ يُعْصى، فاعْصِ هَذا واعْصِ هَذا، فَكَذا هاهُنا المَعْنى حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ هَذا وهَذا. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ذَلِكَ جَزَيْناهم بِبَغْيِهِمْ﴾ والمَعْنى: أنّا إنَّما خَصَّصْناهم بِهَذا التَّحْرِيمِ جَزاءً عَلى بَغْيِهِمْ، وهو قَتْلُهُمُ الأنْبِياءَ، وأخْذُهُمُ الرِّبا، وأكْلُهم أمْوالَ النّاسِ بِالباطِلِ، ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ﴾ [النساء: ١٦٠] . * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وإنّا لَصادِقُونَ﴾ أيْ في الإخْبارِ عَنْ بَغْيِهِمْ وفي الإخْبارِ عَنْ تَخْصِيصِهِمْ بِهَذا التَّحْرِيمِ بِسَبَبِ بَغْيِهِمْ. قالَ القاضِي: نَفْسُ التَّحْرِيمِ لا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ عُقُوبَةً عَلى جُرْمٍ صَدَرَ عَنْهم؛ لِأنَّ التَّكْلِيفَ تَعْرِيضٌ لِلثَّوابِ، والتَّعْرِيضُ لِلثَّوابِ إحْسانٌ، فَلَمْ يَجُزْ أنْ يَكُونَ التَّكْلِيفُ جَزاءً عَلى الجُرْمِ المُتَقَدِّمِ. فالجَوابُ: أنَّ المَنعَ مِنَ الِانْتِفاعِ يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ لِمَزِيدِ اسْتِحْقاقِ الثَّوابِ، ويُمْكِنُ أيْضًا أنْ يَكُونَ لِلْجُرْمِ المُتَقَدِّمِ، وكُلُّ واحِدٍ مِنهُما غَيْرُ مُسْتَبْعَدٍ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿فَإنْ كَذَّبُوكَ﴾ يَعْنِي إنْ كَذَّبُوكَ في ادِّعاءِ النُّبُوَّةِ والرِّسالَةِ، وكَذَّبُوكَ في تَبْلِيغِ هَذِهِ الأحْكامِ ﴿فَقُلْ رَبُّكم ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ﴾ فَلِذَلِكَ لا يُعَجِّلُ عَلَيْكم بِالعُقُوبَةِ ﴿ولا يُرَدُّ بَأْسُهُ﴾ أيْ عَذابُهُ إذا جاءَ الوَقْتُ ﴿عَنِ القَوْمِ المُجْرِمِينَ﴾ يَعْنِي الَّذِينَ كَذَّبُوكَ فِيما تَقُولُ. واللَّهُ أعْلَمُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب