الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ورَبُّكَ الغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إنْ يَشَأْ يُذْهِبْكم ويَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكم ما يَشاءُ كَما أنْشَأكم مِن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ﴾ ﴿إنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ وما أنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ﴾ فِي الآيَةِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا بَيَّنَ ثَوابَ أصْحابِ الطّاعاتِ وعِقابَ أصْحابِ المَعاصِي والمُحَرَّماتِ وذَكَرَ أنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ دَرَجَةً مَخْصُوصَةً ومَرْتَبَةً مُعَيَّنَةً، بَيَّنَ أنَّ تَخْصِيصَ المُطِيعِينَ بِالثَّوابِ، والمُذْنِبِينَ بِالعَذابِ، لَيْسَ لِأجْلِ أنَّهُ مُحْتاجٌ إلى طاعَةِ المُطِيعِينَ أوْ يَنْتَقِصُ بِمَعْصِيَةِ المُذْنِبِينَ. فَإنَّهُ تَعالى غَنِيٌّ لِذاتِهِ عَنْ جَمِيعِ العالَمِينَ، ومَعَ كَوْنِهِ غَنِيًّا فَإنَّ رَحْمَتَهُ عامَّةٌ كامِلَةٌ، ولا سَبِيلَ إلى تَرْتِيبِ هَذِهِ الأرْواحِ البَشَرِيَّةِ والنُّفُوسِ الإنْسانِيَّةِ وإيصالِها إلى دَرَجاتِ السُّعَداءِ الأبْرارِ، إلّا بِتَرْتِيبِ التَّرْغِيبِ في الطّاعاتِ والتَّرْهِيبِ عَنِ المَحْظُوراتِ فَقالَ: ﴿ورَبُّكَ الغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ﴾ ومِن رَحْمَتِهِ عَلى الخَلْقِ تَرْتِيبُ الثَّوابِ والعِقابِ عَلى الطّاعَةِ والمَعْصِيَةِ، فَنَفْتَقِرُ هاهُنا إلى بَيانِ أمْرَيْنِ: الأوَّلُ: إلى بَيانِ كَوْنِهِ تَعالى غَنِيًّا. فَنَقُولُ: إنَّهُ تَعالى غَنِيٌّ في ذاتِهِ وصِفاتِهِ وأفْعالِهِ وأحْكامِهِ عَنْ كُلِّ ما سِواهُ؛ لِأنَّهُ لَوْ كانَ مُحْتاجًا لَكانَ مُسْتَكْمِلًا بِذَلِكَ الفِعْلِ، والمُسْتَكْمِلُ بِغَيْرِهِ ناقِصٌ بِذاتِهِ، وهو عَلى اللَّهِ مُحالٌ، وأيْضًا فَكُلُّ إيجابٍ أوْ سَلْبٍ يُفْرَضُ، فَإنْ كانَتْ ذاتُهُ كافِيَةً في تَحَقُّقِهِ، وجَبَ دَوامُ ذَلِكَ الإيجابِ أوْ ذَلِكَ السَّلْبِ بِدَوامِ ذاتِهِ. وإنْ لَمْ تَكُنْ كافِيَةً، فَحِينَئِذٍ يَتَوَقَّفُ حُصُولُ تِلْكَ الحالَةِ وعَدَمُها عَلى وُجُودِ سَبَبٍ مُنْفَصِلٍ أوْ عَدَمِهِ، فَذاتُهُ لا تَنْفَكُّ عَنْ ذَلِكَ الثُّبُوتِ والعَدَمِ وهُما مَوْقُوفانِ عَلى وُجُودِ ذَلِكَ السَّبَبِ المُنْفَصِلِ وعَدَمِهِ، والمَوْقُوفُ عَلى المَوْقُوفِ عَلى الشَّيْءِ مَوْقُوفٌ عَلى ذَلِكَ الشَّيْءِ، فَيَلْزَمُ كَوْنُ ذاتِهِ مَوْقُوفَةً عَلى الغَيْرِ، والمَوْقُوفُ عَلى الغَيْرِ مُمْكِنٌ لِذاتِهِ، فالواجِبُ لِذاتِهِ مُمْكِنٌ لِذاتِهِ وهو مُحالٌ. فَثَبَتَ أنَّهُ تَعالى غَنِيٌّ عَلى الإطْلاقِ. واعْلَمْ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿ورَبُّكَ الغَنِيُّ﴾ يُفِيدُ الحَصْرَ، مَعْناهُ: أنَّهُ لا غَنِيَّ إلّا هو والأمْرُ كَذَلِكَ؛ لِأنَّ واجِبَ الوُجُودِ لِذاتِهِ واحِدٌ، وما سِواهُ مُمْكِنٌ لِذاتِهِ والمُمْكِنُ لِذاتِهِ مُحْتاجٌ، فَثَبَتَ أنَّهُ لا غَنِيَّ إلّا هو. فَثَبَتَ بِهَذا (p-١٦٤)البُرْهانِ القاطِعِ صِحَّةُ قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿ورَبُّكَ الغَنِيُّ﴾ وأمّا إثْباتُ أنَّهُ ﴿ذُو الرَّحْمَةِ﴾ فالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أنَّهُ لا شَكَّ في وُجُودِ خَيْراتٍ وسَعاداتٍ ولَذّاتٍ وراحاتٍ، إمّا بِحَسَبِ الأحْوالِ الجِسْمانِيَّةِ، وإمّا بِحَسَبِ الأحْوالِ الرُّوحانِيَّةِ. فَثَبَتَ بِالبُرْهانِ الَّذِي ذَكَرْناهُ أنَّ كُلَّ ما سِواهُ فَهو مُمْكِنٌ لِذاتِهِ، وإنَّما يَدْخُلُ في الوُجُودِ بِإيجادِهِ وتَكْوِينِهِ وتَخْلِيقِهِ. فَثَبَتَ أنَّ كُلَّ ما دَخَلَ في الوُجُودِ مِنَ الخَيْراتِ والرّاحاتِ والكَراماتِ والسَّعاداتِ فَهو مِنَ الحَقِّ سُبْحانَهُ، وبِإيجادِهِ وتَكْوِينِهِ. ثُمَّ إنَّ الِاسْتِقْراءَ دَلَّ عَلى أنَّ الخَيْرَ غالِبٌ عَلى الشَّرِّ فَإنَّ المَرِيضَ وإنْ كانَ كَثِيرًا فالصَّحِيحُ أكْثَرُ مِنهُ، والجائِعُ وإنْ كانَ كَثِيرًا فالشَّبْعانُ أكْثَرُ مِنهُ، والأعْمى وإنْ كانَ كَثِيرًا، إلّا أنَّ البَصِيرَ أكْثَرُ مِنهُ. فَثَبَتَ أنَّهُ لا بُدَّ مِنَ الِاعْتِرافِ بِحُصُولِ الرَّحْمَةِ والرّاحَةِ، وثَبَتَ أنَّ الخَيْرَ أغْلَبُ مِنَ الشَّرِّ والألَمِ والآفَةِ، وثَبَتَ أنَّ مَبْدَأ تِلْكَ الرّاحاتِ والخَيْراتِ بِأسْرِها هو اللَّهُ تَعالى، فَثَبَتَ بِهَذا البُرْهانِ أنَّهُ تَعالى هُوَ: ﴿ذُو الرَّحْمَةِ﴾ . واعْلَمْ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿ورَبُّكَ الغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ﴾ يُفِيدُ الحَصْرَ، فَإنَّ مَعْناهُ: أنَّهُ لا رَحْمَةَ إلّا مِنهُ، والأمْرُ كَذَلِكَ لِأنَّ المَوْجُودَ إمّا واجِبٌ لِذاتِهِ أوْ مُمْكِنٌ لِذاتِهِ، والواجِبُ لِذاتِهِ واحِدٌ فَكُلُّ ما سِواهُ فَهو مِنهُ، والرَّحْمَةُ داخِلَةٌ فِيما سِواهُ، فَثَبَتَ أنَّهُ لا رَحْمَةَ إلّا مِنَ الحَقِّ، فَثَبَتَ بِهَذا البُرْهانِ صِحَّةُ هَذا الحَصْرِ فَثَبَتَ أنَّهُ لا غَنِيَّ إلّا هو. فَثَبَتَ أنَّهُ لا رَحِيمَ إلّا هو. فَإنْ قالَ قائِلٌ: فَكَيْفَ يُمْكِنُنا إنْكارُ رَحْمَةِ الوالِدَيْنِ عَلى الوَلَدِ والمَوْلى عَلى عَبْدِهِ، وكَذَلِكَ سائِرُ أنْواعِ الرَّحْمَةِ ؟ فالجَوابُ: أنَّ كُلَّها عِنْدَ التَّحْقِيقِ مِنَ اللَّهِ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الأوَّلُ: لَوْلا أنَّهُ تَعالى ألْقى في قَلْبِ هَذا الرَّحِيمِ داعِيَةَ الرَّحْمَةِ، لَما أقْدَمَ عَلى الرَّحْمَةِ، فَلَمّا كانَ مُوجِدُ تِلْكَ الدّاعِيَةِ هو اللَّهُ، كانَ الرَّحِيمُ هو اللَّهُ. ألا تَرى أنَّ الإنْسانَ قَدْ يَكُونُ شَدِيدَ الغَضَبِ عَلى إنْسانٍ قاسِي القَلْبِ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَنْقَلِبُ رَءُوفًا رَحِيمًا عَطُوفًا؟ فانْقِلابُهُ مِنَ الحالَةِ الأُولى إلى الثّانِيَةِ لَيْسَ إلّا بِانْقِلابِ تِلْكَ الدَّواعِي، فَثَبَتَ أنَّ مُقَلِّبَ القُلُوبِ هو اللَّهُ تَعالى بِالبُرْهانِ قَطْعًا لِلتَّسَلْسُلِ، وبِالقُرْآنِ وهو قَوْلُهُ: ﴿ونُقَلِّبُ أفْئِدَتَهم وأبْصارَهُمْ﴾ [الأنعام: ١١٠] فَثَبَتَ أنَّهُ لا رَحْمَةَ إلّا مِنَ اللَّهِ. والثّانِي: هَبْ أنَّ ذَلِكَ الرَّحِيمَ أعْطى الطَّعامَ والثَّوْبَ والذَّهَبَ، ولَكِنْ لا صِحَّةَ لِلْمِزاجِ والتَّمَكُّنِ مِنَ الِانْتِفاعِ بِتِلْكَ الأشْياءِ، وإلّا فَكَيْفَ الِانْتِفاعُ ؟ فالَّذِي أعْطى صِحَّةَ المِزاجِ والقُدْرَةَ والمُكْنَةَ هو الرَّحِيمُ في الحَقِيقَةِ. والثّالِثُ: أنَّ كُلَّ مَن أعْطى غَيْرَهُ شَيْئًا فَهو إنَّما يُعْطِي لِطَلَبِ عِوَضٍ، وهو إمّا الثَّناءُ في الدُّنْيا، أوِ الثَّوابُ في الآخِرَةِ، أوْ دَفْعُ الرِّقَّةِ الجِنْسِيَّةِ عَنِ القَلْبِ، وهو تَعالى يُعْطِي لا لِغَرَضٍ أصْلًا، فَكانَ تَعالى هو الرَّحِيمُ الكَرِيمُ، فَثَبَتَ بِهَذِهِ البَراهِينِ اليَقِينِيَّةِ القَطْعِيَّةِ صِحَّةُ قَوْلِهِ سُبْحانَهُ وتَعالى: ﴿ورَبُّكَ الغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ﴾ بِمَعْنى أنَّهُ لا غَنِيَّ ولا رَحِيمَ إلّا هو، فَإذا ثَبَتَ أنَّهُ غَنِيٌّ عَنِ الكُلِّ، ثَبَتَ أنَّهُ لا يَسْتَكْمِلُ بِطاعاتِ المُطِيعِينَ ولا يَنْتَقِصُ بِمَعاصِي المُذْنِبِينَ، وإذا ثَبَتَ أنَّهُ ذُو الرَّحْمَةِ ثَبَتَ أنَّهُ ما رَتَّبَ العَذابَ عَلى الذُّنُوبِ، ولا الثَّوابَ عَلى الطّاعاتِ، إلّا لِأجْلِ الرَّحْمَةِ والفَضْلِ والكَرَمِ والجُودِ والإحْسانِ، كَما قالَ في آيَةٍ أُخْرى: ﴿إنْ أحْسَنْتُمْ أحْسَنْتُمْ لِأنْفُسِكم وإنْ أسَأْتُمْ فَلَها﴾ [الإسراء: ٧] فَهَذا البَيانُ الإجْمالِيُّ كافٍ في هَذا البابِ، وأمّا تَفْصِيلُ تِلْكَ الحالَةِ وشَرْحُها عَلى البَيانِ التّامِّ، فَمِمّا لا يَلِيقُ بِهَذا المَوْضِعِ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: أمّا المُعْتَزِلَةُ فَقالُوا: هَذِهِ الآيَةُ إشارَةٌ إلى الدَّلِيلِ الدّالِّ عَلى كَوْنِهِ عادِلًا مُنَزَّهًا عَنْ فِعْلِ القَبِيحِ، وعَلى كَوْنِهِ رَحِيمًا مُحْسِنًا بِعِبادِهِ. أمّا المَطْلُوبُ الأوَّلُ فَقالَ: تَقْرِيرُهُ أنَّهُ تَعالى عالِمٌ بِقُبْحِ القَبائِحِ وعالِمٌ (p-١٦٥)بِكَوْنِهِ غَنِيًّا عَنْهُ، وكُلُّ مَن كانَ كَذَلِكَ فَإنَّهُ يَتَعالى عَنْ فِعْلِ القَبِيحِ. أمّا المُقَدِّمَةُ الأُولى، فَتَقْرِيرُها إنَّما يَتِمُّ بِمَجْمُوعِ مُقَدِّماتٍ ثَلاثَةٍ: أوَّلُها: أنَّ في الحَوادِثِ ما يَكُونُ قَبِيحًا، نَحْوَ: الظُّلْمُ، والسَّفَهُ، والكَذِبُ، والغِيبَةُ، وهَذِهِ المُقَدِّمَةُ غَيْرُ مَذْكُورَةٍ في الآيَةِ لِغايَةِ ظُهُورِها. وثانِيها: كَوْنُهُ تَعالى عالِمًا بِالمَعْلُوماتِ، وإلَيْهِ الإشارَةُ بِقَوْلِهِ قَبْلَ هَذِهِ الآيَةِ: ﴿وما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمّا يَعْمَلُونَ﴾ . وثالِثُها: كَوْنُهُ تَعالى غَنِيًّا عَنِ الحاجاتِ وإلَيْهِ الإشارَةُ بِقَوْلِهِ: ﴿ورَبُّكَ الغَنِيُّ﴾ وإذا ثَبَتَ مَجْمُوعُ هَذِهِ المُقَدِّماتِ الثَّلاثَةِ، ثَبَتَ أنَّهُ تَعالى عالِمٌ بِقُبْحِ القَبائِحِ وعالِمٌ بِكَوْنِهِ غَنِيًّا عَنْها، فَإذا ثَبَتَ هَذا امْتَنَعَ كَوْنُهُ فاعِلًا لَها؛ لِأنَّ المُقْدِمَ عَلى فِعْلِ القَبِيحِ إنَّما يُقْدِمُ عَلَيْهِ إمّا لِجَهْلِهِ بِكَوْنِهِ قَبِيحًا، وإمّا لِاحْتِياجِهِ، فَإذا كانَ عالِمًا بِالكُلِّ امْتَنَعَ كَوْنُهُ جاهِلًا بِقُبْحِ القَبائِحِ. وإذا كانَ غَنِيًّا عَنِ الكُلِّ امْتَنَعَ كَوْنُهُ مُحْتاجًا إلى فِعْلِ القَبائِحِ، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ تَعالى مُنَزَّهٌ عَنْ فِعْلِ القَبائِحِ مُتَعالٍ عَنْها، فَحِينَئِذٍ يُقْطَعُ بِأنَّهُ لا يَظْلِمُ أحَدًا، فَلَمّا كَلَّفَ عَبِيدَهُ الأفْعالَ الشّاقَّةَ وجَبَ أنْ يُثِيبَهم عَلَيْها، ولَمّا رَتَّبَ العِقابَ والعَذابَ عَلى فِعْلِ المَعاصِي وجَبَ أنْ يَكُونَ عادِلًا فِيها، فَبِهَذا الطَّرِيقِ ثَبَتَ كَوْنُهُ تَعالى عادِلًا في الكُلِّ. فَإنْ قالَ قائِلٌ: هَبْ أنَّ بِهَذا الطَّرِيقِ انْتَفى الظُّلْمُ عَنْهُ تَعالى، فَما الفائِدَةُ في التَّكْلِيفِ ؟ فالجَوابُ: أنَّ التَّكْلِيفَ إحْسانٌ ورَحْمَةٌ عَلى ما هو مُقَرَّرٌ في ”كُتُبِ الكَلامِ“ فَقَوْلُهُ: ﴿ورَبُّكَ الغَنِيُّ﴾ إشارَةٌ إلى المَقامِ الأوَّلِ وقَوْلُهُ: ﴿ذُو الرَّحْمَةِ﴾ إشارَةٌ إلى المَقامِ الثّانِي. فَهَذا تَقْرِيرُ الدَّلائِلِ الَّتِي اسْتَنْبَطَها طَوائِفُ العُقَلاءِ مِن هَذِهِ الآيَةِ عَلى صِحَّةِ قَوْلِهِمْ. واعْلَمْ يا أخِي أنَّ الكُلَّ لا يُحاوِلُونَ إلّا التَّقْدِيسَ والتَّعْظِيمَ، وسَمِعْتُ الشَّيْخَ الإمامَ الوالِدَ ضِياءَ الدِّينِ عُمَرَ بْنَ الحُسَيْنِ رَحِمَهُ اللَّهُ قالَ: سَمِعْتُ الشَّيْخَ أبا القاسِمِ سُلَيْمانَ بْنَ ناصِرٍ الأنْصارِيَّ، يَقُولُ: نَظَرَ أهْلُ السُّنَّةِ عَلى تَعْظِيمِ اللَّهِ في جانِبِ القُدْرَةِ ونَفاذِ المَشِيئَةِ، ونَظَرَ المُعْتَزِلَةُ عَلى تَعْظِيمِ اللَّهِ في جانِبِ العَدْلِ والبَراءَةِ عَنْ فِعْلِ ما لا يَنْبَغِي، فَإذا تَأمَّلْتَ عَلِمْتَ أنَّ أحَدًا لَمْ يَصِفِ اللَّهَ إلّا بِالتَّعْظِيمِ والإجْلالِ والتَّقْدِيسِ والتَّنْزِيهِ، ولَكِنْ مِنهم مَن أخْطَأ ومِنهم مَن أصابَ، ورَجاءُ الكُلِّ مُتَعَلِّقٌ بِهَذِهِ الكَلِمَةِ وهي قَوْلُهُ: ﴿ورَبُّكَ الغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ﴾ . * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿إنْ يَشَأْ يُذْهِبْكم ويَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكم ما يَشاءُ﴾ والمَعْنى أنَّهُ تَعالى لَمّا وصَفَ نَفْسَهُ بِأنَّهُ ذُو الرَّحْمَةِ فَقَدْ كانَ يَجُوزُ أنْ يَظُنَّ ظانٌّ أنَّهُ وإنْ كانَ ذا الرَّحْمَةِ إلّا أنَّ لِرَحْمَتِهِ مَعْدِنًا مَخْصُوصًا ومَوْضِعًا مُعَيَّنًا فَبَيَّنَ تَعالى أنَّهُ قادِرٌ عَلى وضْعِ الرَّحْمَةِ في هَذا الخَلْقِ، وقادِرٌ عَلى أنْ يَخْلُقَ قَوْمًا آخَرِينَ ويَضَعَ رَحْمَتَهُ فِيهِمْ وعَلى هَذا الوَجْهِ يَكُونُ الِاسْتِغْناءُ عَنِ العالَمِينَ أكْمَلَ وأتَمَّ، والمَقْصُودُ التَّنْبِيهُ عَلى أنَّ تَخْصِيصَ الرَّحْمَةِ بِهَؤُلاءِ لَيْسَ لِأجْلِ أنَّهُ لا يُمْكِنُهُ إظْهارُ رَحْمَتِهِ إلّا بِخَلْقِ هَؤُلاءِ. أمّا قَوْلُهُ: ﴿إنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ﴾ فالأقْرَبُ أنَّ المُرادَ بِهِ الإهْلاكُ ويُحْتَمَلُ الإماتَةُ أيْضًا ويُحْتَمَلُ أنْ لا يُبْلِغَهم مَبْلَغَ التَّكْلِيفِ وأمّا قَوْلُهُ: ﴿ويَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُمْ﴾ يَعْنِي مِن بَعْدِ إذْهابِكم؛ لِأنَّ الِاسْتِخْلافَ لا يَكُونُ إلّا عَلى طَرِيقِ البَدَلِ مِن فائِتٍ. وأمّا قَوْلُهُ: ﴿ما يَشاءُ﴾ فالمُرادُ مِنهُ خَلْقٌ ثالِثٌ ورابِعٌ، واخْتَلَفُوا فَقالَ بَعْضُهم: خَلْقًا آخَرَ مِن أمْثالِ الجِنِّ والإنْسِ يَكُونُونَ أطْوَعَ، وقالَ أبُو مُسْلِمٍ: بَلِ المُرادُ أنَّهُ قادِرٌ عَلى أنْ يَخْلُقَ خَلْقًا ثالِثًا مُخالِفًا لِلْجِنِّ والإنْسِ قالَ القاضِي: وهَذا الوَجْهُ أقْرَبُ لِأنَّ القَوْمَ (p-١٦٦)يَعْلَمُونَ بِالعادَةِ أنَّهُ تَعالى قادِرٌ عَلى إنْشاءِ أمْثالِ هَذا الخَلْقِ فَمَتى حُمِلَ عَلى خَلْقٍ ثالِثٍ ورابِعٍ يَكُونُ أقْوى في دَلالَةِ القُدْرَةِ، فَكَأنَّهُ تَعالى نَبَّهَ عَلى أنَّ قُدْرَتَهُ لَيْسَتْ مَقْصُورَةً عَلى جِنْسٍ دُونَ جِنْسٍ مِنَ الخَلْقِ الَّذِينَ يَصْلُحُونَ لِرَحْمَتِهِ العَظِيمَةِ الَّتِي هي الثَّوابُ، فَبَيَّنَ بِهَذا الطَّرِيقِ أنَّهُ تَعالى لِرَحْمَتِهِ لِهَؤُلاءِ القَوْمِ الحاضِرِينَ أبْقاهم وأمْهَلَهم ولَوْ شاءَ لَأماتَهم وأفْناهم وأبْدَلَ بِهِمْ سِواهم، ثُمَّ بَيَّنَ تَعالى عِلَّةَ قُدْرَتِهِ عَلى ذَلِكَ فَقالَ: ﴿كَما أنْشَأكم مِن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ﴾ لِأنَّ المَرْءَ العاقِلَ إذا تَفَكَّرَ عَلِمَ أنَّهُ تَعالى خَلَقَ الإنْسانَ مِن نُطْفَةٍ لَيْسَ فِيها مِن صُورَتِهِ قَلِيلٌ ولا كَثِيرٌ، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِمَحْضِ القُدْرَةِ والحِكْمَةِ، وإذا كانَ الأمْرُ كَذَلِكَ فَكَما قَدَرَ تَعالى عَلى تَصْوِيرِ هَذِهِ الأجْسامِ بِهَذِهِ الصُّورَةِ الخاصَّةِ، فَكَذَلِكَ يَقْدِرُ عَلى تَصْوِيرِهِمْ بِصُورَةٍ مُخالِفَةٍ لَها. وقَرَأ القُرّاءُ كُلُّهم ”ذُرِّيَّةِ“ بِضَمِّ الذّالِ وقَرَأ زَيْدُ بْنُ ثابِتٍ بِكَسْرِ الذّالِ. قالَ الكِسائِيُّ: هُما لُغَتانِ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿إنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ﴾ قالَ الحَسَنُ: أيْ مِن مَجِيءِ السّاعَةِ؛ لِأنَّهم كانُوا يُنْكِرُونَ القِيامَةَ، وأقُولُ فِيهِ احْتِمالٌ آخَرُ: وهو أنَّ الوَعْدَ مَخْصُوصٌ بِالإخْبارِ عَنِ الثَّوابِ، وأمّا الوَعِيدُ فَهو مَخْصُوصٌ بِالإخْبارِ عَنِ العِقابِ فَقَوْلُهُ: ﴿إنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ﴾ يَعْنِي كُلَّ ما تَعَلَّقُ بِالوَعْدِ بِالثَّوابِ فَهو آتٍ لا مَحالَةَ، فَتَخْصِيصُ الوَعْدِ بِهَذا الجَزْمِ يَدُلُّ عَلى أنَّ جانِبَ الوَعِيدِ لَيْسَ كَذَلِكَ ويُقَوِّي هَذا الوَجْهَ آخِرُ الآيَةِ، وهو أنَّهُ قالَ: ﴿وما أنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ﴾ يَعْنِي لا تَخْرُجُونَ عَنْ قُدْرَتِنا وحُكْمِنا، فالحاصِلُ أنَّهُ لَمّا ذَكَرَ الوَعْدَ جَزْمَ بِكَوْنِهِ آتِيًا، ولَمّا ذَكَرَ الوَعِيدَ، ما زادَ عَلى قَوْلِهِ: ﴿وما أنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ﴾ وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنْ جانِبَ الرَّحْمَةِ والإحْسانِ غالِبٌ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب