الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وهَذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنا الآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ﴾ فِي الآيَةِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: قَوْلُهُ: (وهَذا) إشارَةٌ إلى مَذْكُورٍ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. وفِيهِ قَوْلانِ: الأوَّلُ: وهو الأقْوى عِنْدِي أنَّهُ إشارَةٌ إلى ما ذَكَرَهُ وقَرَّرَهُ في الآيَةِ المُتَقَدِّمَةِ وهو أنَّ الفِعْلَ يَتَوَقَّفُ عَلى الدّاعِي وحُصُولِ تِلْكَ الدّاعِيَةِ مِنَ اللَّهِ تَعالى، فَوَجَبَ كَوْنُ الفِعْلِ مِنَ اللَّهِ تَعالى، وذَلِكَ يُوجِبُ التَّوْحِيدَ المَحْضَ وهو كَوْنُهُ تَعالى مُبْدِئًا لِجَمِيعِ الكائِناتِ والمُمْكِناتِ، وإنَّما سَمّاهُ صِراطًا؛ لِأنَّ العِلْمَ بِهِ يُؤَدِّي إلى العِلْمِ بِالتَّوْحِيدِ الحَقِّ، وإنَّما وصَفَهُ بِكَوْنِهِ مُسْتَقِيمًا لِأنَّ قَوْلَ المُعْتَزِلَةِ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ، وذَلِكَ لِأنَّ رُجْحانَ أحَدِ طَرَفَيِ المُمْكِنِ عَلى الآخَرِ إمّا أنْ يَتَوَقَّفَ عَلى المُرَجِّحِ أوْ لا يَتَوَقَّفَ، فَإنْ تَوَقَّفَ عَلى المُرَجِّحِ لَزِمَ أنْ يُقالَ الفِعْلُ لا يَصْدُرُ عَنِ القادِرِ إلّا عِنْدَ انْضِمامِ الدّاعِي إلَيْهِ، وحِينَئِذٍ يَتِمُّ قَوْلُنا ويَكُونُ الكُلُّ بِقَضاءِ اللَّهِ وقَدَرِهِ ويَبْطُلُ قَوْلُ المُعْتَزِلَةِ، وإمّا أنْ لا يَتَوَقَّفَ رُجْحانُ أحَدِ طَرَفَيِ المُمْكِنِ عَلى الآخَرِ عَلى مُرَجِّحٍ وجَبَ أنْ يَحْصُلَ هَذا الِاسْتِغْناءُ في كُلِّ المُمْكِناتِ والمُحْدَثاتِ، وحِينَئِذٍ يَلْزَمُ نَفْيُ الصُّنْعِ والصّانِعِ، وإبْطالُ القَوْلِ بِالفِعْلِ والفاعِلِ والتَّأْثِيرِ والمُؤَثِّرِ. فَأمّا القَوْلُ بِأنَّ هَذا الرُّجْحانَ يَحْتاجُ إلى المُؤَثِّرِ في بَعْضِ الصُّوَرِ دُونَ البَعْضِ كَما يَقُولُهُ هَؤُلاءِ المُعْتَزِلَةُ فَهو مُعْوَجٌّ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ، إنَّما المُسْتَقِيمُ هو الحُكْمُ بِثُبُوتِ الحاجَةِ عَلى الإطْلاقِ، وذَلِكَ يُوجِبُ عَيْنَ مَذْهَبِنا. فَهَذا القَوْلُ هو المُخْتارُ عِنْدِي في تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ. القَوْلُ الثّانِي: أنَّ قَوْلَهُ: ﴿وهَذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا﴾ إشارَةٌ إلى كُلِّ ما سَبَقَ ذِكْرُهُ في كُلِّ القُرْآنِ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: يُرِيدُ هَذا الَّذِي أنْتَ عَلَيْهِ يا مُحَمَّدُ دِينُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا وقالَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَعْنِي القُرْآنَ. والقَوْلُ الأوَّلُ أوْلى. لِأنَّ عَوْدَ الإشارَةِ إلى أقْرَبِ المَذْكُوراتِ أوْلى. وإذا ثَبَتَ هَذا فَنَقُولُ: لَمّا أمَرَ اللَّهُ تَعالى بِمُتابَعَةِ ما في الآيَةِ المُتَقَدِّمَةِ وجَبَ أنْ تَكُونَ مِنَ المُحْكَماتِ لا مِنَ المُتَشابِهاتِ؛ لِأنَّهُ تَعالى إذا ذَكَرَ شَيْئًا وبالَغَ في الأمْرِ بِالتَّمَسُّكِ بِهِ والرُّجُوعِ إلَيْهِ والتَّعْوِيلِ عَلَيْهِ وجَبَ أنْ يَكُونَ مِنَ المُحْكَماتِ. فَثَبَتَ أنَّ الآيَةَ المُتَقَدِّمَةَ مِنَ المُحْكَماتِ وأنَّهُ يَجِبُ إجْراؤُها عَلى ظاهِرِها ويَحْرُمُ التَّصَرُّفُ فِيها بِالتَّأْوِيلِ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قالَ الواحِدِيُّ: انْتَصَبَ مُسْتَقِيمًا عَلى الحالِ، والعامِلُ فِيهِ مَعْنى ”هَذا“ وذَلِكَ لِأنَّ ”ذا“ يَتَضَمَّنُ مَعْنى الإشارَةِ، كَقَوْلِكَ: هَذا زِيدٌ قائِمًا مَعْناهُ أُشِيرُ إلَيْهِ في حالِ قِيامِهِ، وإذا كانَ العامِلُ في الحالِ (p-١٥٤)مَعْنى الفِعْلِ لا الفِعْلُ، لَمْ يَجُزْ تَقْدِيمُ الحالِ عَلَيْهِ، لا يَجُوزُ قائِمًا هَذا زِيدٌ، ويَجُوزُ ضاحِكًا جاءَ زَيْدٌ. أمّا قَوْلُهُ: ﴿قَدْ فَصَّلْنا الآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ﴾ . فَنَقُولُ: أمّا تَفْصِيلُ الآياتِ فَمَعْناهُ ذِكْرُها فَصْلًا فَصْلًا بِحَيْثُ لا يَخْتَلِطُ واحِدٌ مِنها بِالآخَرِ، واللَّهُ تَعالى قَدْ بَيَّنَ صِحَّةَ القَوْلِ بِالقَضاءِ والقَدَرِ في آياتٍ كَثِيرَةٍ مِن هَذِهِ السُّورَةِ مُتَوالِيَةٍ مُتَعاقِبَةٍ، بِطُرُقٍ كَثِيرَةٍ ووُجُوهٍ مُخْتَلِفَةٍ. * * * وأمّا قَوْلُهُ: ﴿لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ﴾ فالَّذِي أظُنُّهُ والعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ أنَّهُ تَعالى إنَّما جَعَلَ مَقْطَعَ هَذِهِ الآيَةِ هَذِهِ اللَّفْظَةَ لِأنَّهُ تَقَرَّرَ في عَقْلِ كُلِّ واحِدٍ أنَّ أحَدَ طَرَفَيِ المُمْكِنِ لا يَتَرَجَّحُ عَلى الآخَرِ إلّا لِمُرَجِّحٍ، فَكَأنَّهُ تَعالى يَقُولُ لِلْمُعْتَزِلِيِّ: أيُّها المُعْتَزِلِيُّ تَذَكَّرْ ما تَقَرَّرَ في عَقْلِكَ أنَّ المُمْكِنَ لا يَتَرَجَّحُ أحَدُ طَرَفَيْهِ عَلى الآخَرِ، إلّا لِمُرَجِّحٍ، حَتّى تَزُولَ الشُّبْهَةُ عَنْ قَلْبِكَ بِالكُلْيَةِ في مَسْألَةِ القَضاءِ والقَدَرِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب