الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إلَيْكَ مِن رَبِّكَ لا إلَهَ إلّا هو وأعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ﴾ . اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا حَكى عَنِ الكُفّارِ أنَّهم يَنْسُبُونَهُ في إظْهارِ هَذا القُرْآنِ إلى الِافْتِراءِ، أوْ إلى أنَّهُ يُدارِسُ أقْوامًا ويَسْتَفِيدُ هَذِهِ العُلُومَ مِنهم ثُمَّ يَنْظِمُها قُرْآنًا، ويَدَّعِي أنَّهُ نَزَلَ عَلَيْهِ مِنَ اللَّهِ تَعالى، أتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إلَيْكَ مِن رَبِّكَ﴾ (p-١١٣)لِئَلّا يَصِيرَ ذَلِكَ القَوْلُ سَبَبًا لِفُتُورِهِ في تَبْلِيغِ الدَّعْوَةِ والرِّسالَةِ، والمَقْصُودُ تَقْوِيَةُ قَلْبِهِ وإزالَةُ الحُزْنِ الَّذِي حَصَلَ بِسَبَبِ سَماعِ تِلْكَ الشُّبْهَةِ، ونَبَّهَ بِقَوْلِهِ: ﴿لا إلَهَ إلّا هُوَ﴾ عَلى أنَّهُ تَعالى لَمّا كانَ واحِدًا في الإلَهِيَّةِ فَإنَّهُ يَجِبُ طاعَتُهُ، ولا يَجُوزُ الإعْراضُ عَنْ تَكالِيفِهِ بِسَبَبِ جَهْلِ الجاهِلِينَ وزَيْغِ الزّائِغِينَ. * * * وأمّا قَوْلُهُ: ﴿وأعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ﴾ فَقِيلَ: المُرادُ تَرْكُ المُقابَلَةِ، فَلِذَلِكَ قالُوا: إنَّهُ مَنسُوخٌ، وهَذا ضَعِيفٌ؛ لِأنَّ الأمْرَ بِتَرْكِ المُقابَلَةِ في الحالِ لا يُفِيدُ الأمْرَ بِتَرْكِها دائِمًا، وإذا كانَ الأمْرُ كَذَلِكَ لَمْ يَجِبِ التِزامُ النَّسْخِ، وقِيلَ: المُرادُ تَرْكُ مُقابَلَتِهِمْ فِيما يَأْتُونَهُ مِن سَفَهٍ، وأنْ يَعْدِلَ صَلَواتُ اللَّهِ عَلَيْهِ إلى الطَّرِيقِ الَّذِي يَكُونُ أقْرَبَ إلى القَبُولِ، وأبْعَدَ عَنِ التَّنْفِيرِ والتَّغْلِيظِ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولَوْ شاءَ اللَّهُ ما أشْرَكُوا وما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وما أنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ﴾ . اعْلَمْ أنَّ هَذا الكَلامَ أيْضًا مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِمْ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلامُ إنَّما جَمَعْتَ هَذا القُرْآنَ مِن مُدارَسَةِ النّاسِ ومُذاكَرَتِهِمْ، فَكَأنَّهُ تَعالى يَقُولُ لَهُ: لا تَلْتَفِتْ إلى سَفاهاتِ هَؤُلاءِ الكُفّارِ، ولا يَثْقُلَنَّ عَلَيْكَ كُفْرُهم، فَإنِّي لَوْ أرَدْتُ إزالَةَ الكُفْرِ عَنْهم لَقَدَرْتُ، ولَكِنِّي تَرَكْتُهم مَعَ كُفْرِهِمْ، فَلا يَنْبَغِي أنْ تَشْغَلَ قَلْبَكَ بِكَلِماتِهِمْ. واعْلَمْ أنَّ أصْحابَنا تَمَسَّكُوا بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولَوْ شاءَ اللَّهُ ما أشْرَكُوا﴾ والمَعْنى: ولَوْ شاءَ اللَّهُ أنْ لا يُشْرِكُوا ما أشْرَكُوا، وحَيْثُ لَمْ يَحْصُلِ الجَزاءُ عَلِمْنا أنَّهُ لَمْ يَحْصُلِ الشَّرْطُ، فَعَلِمْنا أنَّ مَشِيئَةَ اللَّهِ تَعالى بِعَدَمِ إشْراكِهِمْ غَيْرُ حاصِلَةٍ، قالَتِ المُعْتَزِلَةُ: ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ أنَّهُ تَعالى أرادَ مِنَ الكُلِّ الإيمانَ، وما شاءَ مِن أحَدٍ الكُفْرَ والشِّرْكَ، وهَذِهِ الآيَةُ تَقْتَضِي أنَّهُ تَعالى ما شاءَ مِنَ الكُلِّ الإيمانَ، فَوَجَبَ التَّوْفِيقُ بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ، فَيُحْمَلُ مَشِيئَةُ اللَّهِ تَعالى لِإيمانِهِمْ عَلى مَشِيئَةِ الإيمانِ الِاخْتِيارِيِّ المُوجِبِ لِلثَّوابِ والثَّناءِ، ويُحْمَلُ عَدَمُ مَشِيئَتِهِ لِإيمانِهِمْ عَلى الإيمانِ الحاصِلِ بِالقَهْرِ والجَبْرِ والإلْجاءِ، يَعْنِي أنَّهُ تَعالى ما شاءَ مِنهم أنْ يَحْمِلَهم عَلى الإيمانِ عَلى سَبِيلِ القَهْرِ والإلْجاءِ؛ لِأنَّ ذَلِكَ يُبْطِلُ التَّكْلِيفَ ويُخْرِجُ الإنْسانَ عَنِ اسْتِحْقاقِ الثَّوابِ. هَذا ما عَوَّلَ القَوْمُ عَلَيْهِ في هَذا البابِ، وهو في غايَةِ الضَّعْفِ ويَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الأوَّلُ: لا شَكَّ أنَّهُ تَعالى هو الَّذِي أقْدَرَ الكافِرَ عَلى الكُفْرِ، فَقُدْرَةُ الكُفْرِ إنْ لَمْ تَصْلُحْ لِلْإيمانِ فَخالِقُ تِلْكَ القُدْرَةِ لا شَكَّ أنَّهُ كانَ مُرِيدًا لِلْكُفْرِ، وإنْ كانَتْ صالِحَةً لِلْإيمانِ لَمْ يَتَرَجَّحْ جانِبُ الكُفْرِ عَلى جانِبِ الإيمانِ إلّا عِنْدَ حُصُولِ داعٍ يَدْعُوهُ إلى الإيمانِ، وإلّا لَزِمَ رُجْحانُ أحَدِ طَرَفَيِ المُمْكِنِ عَلى الآخَرِ لا لِمُرَجِّحٍ وهو مُحالٌ، ومَجْمُوعُ القُدْرَةِ مَعَ الدّاعِي إلى الكُفْرِ يُوجِبُ الكُفْرَ، وإذا كانَ خالِقُ القُدْرَةِ والدّاعِي هو اللَّهَ تَعالى، وثَبَتَ أنَّ مَجْمُوعَهُما يُوجِبُ الكُفْرَ، ثَبَتَ أنَّهُ تَعالى قَدْ أرادَ الكُفْرَ مِنَ الكافِرِ. الثّانِي: في تَقْرِيرِ هَذا الكَلامِ أنْ نَقُولَ: إنَّهُ تَعالى كانَ عالِمًا بِعَدَمِ الإيمانِ مِنَ الكافِرِ، ووُجُودُ الإيمانِ مَعَ العِلْمِ بِعَدَمِ الإيمانِ مُتَضادّانِ ومَعَ وُجُودِ أحَدِ الضِّدَّيْنِ كانَ حُصُولُ الضِّدِّ الثّانِي مُحالًا، والمَحالُّ مَعَ العِلْمِ بِكَوْنِهِ مُحالًا غَيْرُ مُرادٍ، فامْتَنَعَ أنْ يُقالَ: إنَّهُ تَعالى يُرِيدُ الإيمانَ مِنَ الكافِرِ. الثّالِثُ: هَبْ أنَّ الإيمانَ الِاخْتِيارِيَّ أفْضَلُ وأنْفَعُ مِنَ الإيمانِ الحاصِلِ بِالجَبْرِ والقَهْرِ إلّا أنَّهُ تَعالى لَمّا عَلِمَ أنَّ ذَلِكَ الأنْفَعَ لا يَحْصُلُ البَتَّةَ، فَقَدْ كانَ يَجِبُ في حِكْمَتِهِ ورَحْمَتِهِ أنْ يَخْلُقَ فِيهِ الإيمانَ عَلى سَبِيلِ الإلْجاءِ؛ لِأنَّ هَذا الإيمانَ وإنْ كانَ لا يُوجِبُ الثَّوابَ العَظِيمَ، فَأقَلُّ ما فِيهِ أنْ يُخَلِّصَهُ مِنَ العِقابِ العَظِيمِ، فَتَرْكُ إيجادِ هَذا الإيمانِ فِيهِ عَلى سَبِيلِ الإلْجاءِ يُوجِبُ وُقُوعَهُ في أشَدِّ العَذابِ، وذَلِكَ لا يَلِيقُ بِالرَّحْمَةِ والإحْسانِ؛ ومِثالُهُ أنَّ مَن كانَ لَهُ ولَدٌ عَزِيزٌ، وكانَ هَذا الأبُ في غايَةِ الشَّفَقَةِ وكانَ هَذا الوَلَدُ واقِفًا عَلى طَرَفِ البَحْرِ فَيَقُولُ الوالِدُ لَهُ: غُصْ في قَعْرِ هَذا البَحْرِ (p-١١٤)لِتَسْتَخْرِجَ اللَّآلِئَ العَظِيمَةَ الرَّفِيعَةَ العالِيَةَ مِنهُ، وعَلِمَ الوالِدُ قَطْعًا أنَّهُ إذا غاصَ في البَحْرِ هَلَكَ وغَرِقَ، فَهَذا الأبُ إنْ كانَ ناظِرًا في حَقِّهِ مُشْفِقًا عَلَيْهِ وجَبَ عَلَيْهِ أنْ يَمْنَعَهُ مِنَ الغَوْصِ في قَعْرِ البَحْرِ، ويَقُولُ لَهُ: اتْرُكْ طَلَبَ تِلْكَ اللَّآلِئِ فَإنَّكَ لا تَجِدُها وتَهْلِكُ، ولَكِنَّ الأوْلى لَكَ أنْ تَكْتَفِيَ بِالرِّزْقِ القَلِيلِ مَعَ السَّلامَةِ، فَأمّا أنْ يَأْمُرَهُ بِالغَوْصِ في قَعْرِ البَحْرِ مَعَ اليَقِينِ التّامِّ بِأنَّهُ لا يَسْتَفِيدُ مِنهُ إلّا الهَلاكَ فَهَذا يَدُلُّ عَلى عَدَمِ الرَّحْمَةِ وعَلى السَّعْيِ في الهَلاكِ فَكَذا هاهُنا، واللَّهُ أعْلَمُ. واعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا بَيَّنَ أنَّهُ لا قُدْرَةَ لِأحَدٍ عَلى إزالَةِ الكُفْرِ عَنْهم خَتَمَ الكَلامَ بِما يَكْمُلُ مَعَهُ تَبْصِيرُ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلامُ، وذَلِكَ أنَّهُ تَعالى بَيَّنَ لَهُ قَدْرَ ما جُعِلَ إلَيْهِ فَذَكَرَ أنَّهُ تَعالى ما جَعَلَهُ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا ولا وكِيلًا عَلى سَبِيلِ المَنعِ لَهم، وإنَّما فَوَّضَ إلَيْهِ البَلاغَ بِالأمْرِ والنَّهْيِ في العَمَلِ والعِلْمِ، وفي البَيانِ بِذِكْرِ الدَّلائِلِ والتَّنْبِيهِ عَلَيْها، فَإنِ انْقادُوا لِلْقَبُولِ فَنَفْعُهُ عائِدٌ إلَيْهِ، وإلّا فَضَرَرُهُ عائِدٌ عَلَيْهِمْ؛ وعَلى التَّقْدِيرَيْنِ فَلا يَخْرُجُ ﷺ مِنَ الرِّسالَةِ والنُّبُوَّةِ والتَّبْلِيغِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب