الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لا تُدْرِكُهُ الأبْصارُ وهو يُدْرِكُ الأبْصارَ وهو اللَّطِيفُ الخَبِيرُ﴾ .
فِي هَذِهِ الآيَةِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: احْتَجَّ أصْحابُنا بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى أنَّهُ تَعالى تَجُوزُ رُؤْيَتُهُ والمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَهُ يَوْمَ القِيامَةِ مِن وُجُوهٍ:
الوَجْهُ الأوَّلُ في تَقْرِيرِ هَذا المَطْلُوبِ أنْ نَقُولَ: هَذِهِ الآيَةُ تَدُلُّ عَلى أنَّهُ تَعالى تَجُوزُ رُؤْيَتُهُ.
وإذا ثَبَتَ هَذا وجَبَ القَطْعُ بِأنَّ المُؤْمِنِينَ يَرَوْنَهُ يَوْمَ القِيامَةِ.
أمّا المَقامُ الأوَّلُ فَتَقْرِيرُهُ: أنَّهُ تَعالى تَمَدَّحَ بِقَوْلِهِ: ﴿لا تُدْرِكُهُ الأبْصارُ﴾ وذَلِكَ مِمّا يُساعِدُ الخَصْمَ عَلَيْهِ، وعَلَيْهِ بَنَوُا اسْتِدْلالَهم في إثْباتِ مَذْهَبِهِمْ في نَفْيِ الرُّؤْيَةِ.
وإذا ثَبَتَ هَذا فَنَقُولُ: لَوْ لَمْ يَكُنْ تَعالى جائِزَ الرُّؤْيَةِ لَما حَصَلَ التَّمَدُّحُ بِقَوْلِهِ: ﴿لا تُدْرِكُهُ الأبْصارُ﴾ ألا تَرى أنَّ المَعْدُومَ لا تَصِحُّ رُؤْيَتُهُ، والعُلُومُ والقُدْرَةُ والإرادَةُ والرَّوائِحُ والطُّعُومُ لا يَصِحُّ رُؤْيَةُ شَيْءٍ مِنها، ولا مَدْحٌ لِشَيْءٍ مِنها في كَوْنِها بِحَيْثُ لا تَصِحُّ رُؤْيَتُها، فَثَبَتَ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿لا تُدْرِكُهُ الأبْصارُ﴾ يُفِيدُ المَدْحَ، وثَبَتَ أنَّ ذَلِكَ إنَّما يُفِيدُ المَدْحَ لَوْ كانَ صَحِيحَ الرُّؤْيَةِ، وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿لا تُدْرِكُهُ الأبْصارُ﴾ يُفِيدُ كَوْنَهُ تَعالى جائِزَ الرُّؤْيَةِ، وتَمامُ التَّحْقِيقِ فِيهِ أنَّ الشَّيْءَ إذا كانَ في نَفْسِهِ بِحَيْثُ يَمْتَنِعُ رُؤْيَتُهُ، فَحِينَئِذٍ لا يَلْزَمُ مِن عَدَمِ رُؤْيَتِهِ مَدْحٌ وتَعْظِيمٌ لِلشَّيْءِ، أمّا إذا كانَ في نَفْسِهِ جائِزَ الرُّؤْيَةِ، ثُمَّ إنَّهُ قَدَرَ عَلى حَجْبِ الأبْصارِ عَنْ رُؤْيَتِهِ وعَنْ إدْراكِهِ، كانَتْ هَذِهِ القُدْرَةُ الكامِلَةُ دالَّةً عَلى المَدْحِ والعَظَمَةِ، فَثَبَتَ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ دالَّةٌ عَلى أنَّهُ تَعالى جائِزُ الرُّؤْيَةِ بِحَسَبِ ذاتِهِ.
وإذا ثَبَتَ هَذا وجَبَ القَطْعُ بِأنَّ المُؤْمِنِينَ يُرَوْنَهُ يَوْمَ القِيامَةِ، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ أنَّ القائِلَ قائِلانِ: قائِلٌ قالَ بِجَوازِ الرُّؤْيَةِ مَعَ أنَّ المُؤْمِنِينَ يَرَوْنَهُ، وقائِلٌ قالَ لا يَرَوْنَهُ ولا تَجُوزُ رُؤْيَتُهُ؛ فَأمّا القَوْلُ بِأنَّهُ تَعالى تَجُوزُ رُؤْيَتُهُ مَعَ أنَّهُ لا يَراهُ أحَدٌ مِنَ المُؤْمِنِينَ فَهو قَوْلٌ لَمْ يَقُلْ بِهِ أحَدٌ مِنَ الأُمَّةِ فَكانَ باطِلًا، فَثَبَتَ بِما ذَكَرْنا أنَّ هَذِهِ الآيَةَ تَدُلُّ عَلى أنَّهُ تَعالى جائِزُ الرُّؤْيَةِ في ذاتِهِ، وثَبَتَ أنَّهُ مَتى كانَ الأمْرُ كَذَلِكَ، وجَبَ القَطْعُ بِأنَّ المُؤْمِنِينَ يَرَوْنَهُ، فَثَبَتَ بِما ذَكَرْنا دَلالَةُ هَذِهِ الآيَةِ عَلى حُصُولِ الرُّؤْيَةِ، وهَذا اسْتِدْلالٌ لَطِيفٌ مِن هَذِهِ الآيَةِ.(p-١٠٣)
الوَجْهُ الثّانِي: أنْ نَقُولَ المُرادُ بِالأبْصارِ في قَوْلِهِ: ﴿لا تُدْرِكُهُ الأبْصارُ﴾ لَيْسَ هو نَفْسَ الإبْصارِ، فَإنَّ البَصَرَ لا يُدْرِكُ شَيْئًا البَتَّةَ في مَوْضِعٍ مِنَ المَواضِعِ، بَلِ المُدْرِكُ هو المُبْصِرُ؛ فَوَجَبَ القَطْعُ بِأنَّ المُرادَ مِن قَوْلِهِ: ﴿لا تُدْرِكُهُ الأبْصارُ﴾ هو أنَّهُ لا يُدْرِكُهُ المُبْصِرُونَ، وإذا كانَ كَذَلِكَ كانَ قَوْلُهُ: ﴿وهُوَ يُدْرِكُ الأبْصارَ﴾ المُرادُ مِنهُ وهو يُدْرِكُ المُبْصِرِينَ، ومُعْتَزِلَةُ البَصْرَةِ يُوافِقُونَنا عَلى أنَّهُ تَعالى يُبْصِرُ الأشْياءَ، فَكانَ هو تَعالى مِن جُمْلَةِ المُبْصِرِينَ؛ فَقَوْلُهُ: ﴿وهُوَ يُدْرِكُ الأبْصارَ﴾ يَقْتَضِي كَوْنَهُ تَعالى مُبْصِرًا لِنَفْسِهِ، وإذا كانَ الأمْرُ كَذَلِكَ كانَ تَعالى جائِزَ الرُّؤْيَةِ في ذاتِهِ، وكانَ تَعالى يَرى نَفْسَهُ، وكُلُّ مَن قالَ: إنَّهُ تَعالى جائِزُ الرُّؤْيَةِ في نَفْسِهِ، قالَ: إنَّ المُؤْمِنِينَ يَرَوْنَهُ يَوْمَ القِيامَةِ، فَصارَتْ هَذِهِ الآيَةُ دالَّةً عَلى أنَّهُ جائِزُ الرُّؤْيَةِ، وعَلى أنَّ المُؤْمِنِينَ يَرَوْنَهُ يَوْمَ القِيامَةِ، وإنْ أرَدْنا أنْ نَزِيدَ هَذا الِاسْتِدْلالَ اخْتِصارًا قُلْنا: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وهُوَ يُدْرِكُ الأبْصارَ﴾ المُرادُ مِنهُ إمّا نَفْسُ البَصَرِ أوِ المُبْصِرِ، وعَلى التَّقْدِيرَيْنِ: فَيَلْزَمُ كَوْنُهُ تَعالى مُبْصِرًا لِأبْصارِ نَفْسِهِ، وكَوْنُهُ مُبْصِرًا لِذاتِ نَفْسِهِ، وإذا ثَبَتَ هَذا وجَبَ أنْ يَراهُ المُؤْمِنُونَ يَوْمَ القِيامَةِ ضَرُورَةَ أنَّهُ لا قائِلَ بِالفَرْقِ.
الوَجْهُ الثّالِثُ: في الِاسْتِدْلالِ بِالآيَةِ أنَّ لَفْظَ ”الأبْصارِ“ صِيغَةُ جَمْعٍ دَخَلَ عَلَيْها الألِفُ واللّامُ؛ فَهي تُفِيدُ الِاسْتِغْراقَ؛ فَقَوْلُهُ: ﴿لا تُدْرِكُهُ الأبْصارُ﴾ يُفِيدُ أنَّهُ لا يَراهُ جَمِيعُ الأبْصارِ، فَهَذا يُفِيدُ سَلْبَ العُمُومِ، ولا يُفِيدُ عُمُومَ السَّلْبِ.
إذا عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ: تَخْصِيصُ هَذا السَّلْبِ بِالمَجْمُوعِ يَدُلُّ عَلى ثُبُوتِ الحُكْمِ في بَعْضِ أفْرادِ المَجْمُوعِ، ألا تَرى أنَّ الرَّجُلَ إذا قالَ: إنَّ زَيْدًا ما ضَرَبَهُ كُلُّ النّاسِ، فَإنَّهُ يُفِيدُ أنَّهُ ضَرَبَهُ بَعْضُهم.
فَإذا قِيلَ: إنَّ مُحَمَّدًا ﷺ ما آمَنَ بِهِ كُلُّ النّاسِ؛ أفادَ أنَّهُ آمَنَ بِهِ بَعْضُ النّاسِ، وكَذا قَوْلُهُ: ﴿لا تُدْرِكُهُ الأبْصارُ﴾ مَعْناهُ: أنَّهُ لا تُدْرِكُهُ جَمِيعُ الأبْصارِ، فَوَجَبَ أنْ يُفِيدَ أنَّهُ تُدْرِكُهُ بَعْضُ الأبْصارِ، أقْصى ما في البابِ أنْ يُقالَ: هَذا تَمَسُّكٌ بِدَلِيلِ الخِطابِ؛ فَنَقُولُ: هَبْ أنَّهُ كَذَلِكَ، إلّا أنَّهُ دَلِيلٌ صَحِيحٌ؛ لِأنَّ بِتَقْدِيرِ أنْ، لا يَحْصُلُ الإدْراكُ لِأحَدٍ البَتَّةَ كانَ تَخْصِيصُ هَذا السَّلْبِ بِالمَجْمُوعِ مِن حَيْثُ هو مَجْمُوعٌ عَبَثًا، وصَوْنُ كَلامِ اللَّهِ تَعالى عَنِ العَبَثِ واجِبٌ.
الوَجْهُ الرّابِعُ في التَّمَسُّكِ بِهَذِهِ الآيَةِ: ما نُقِلَ أنَّ ضِرارَ بْنَ عَمْرٍو الكُوفِيَّ كانَ يَقُولُ: إنَّ اللَّهَ تَعالى لا يَرى بِالعَيْنِ، وإنَّما يَرى بِحاسَّةٍ سادِسَةٍ يَخْلُقُها اللَّهُ تَعالى يَوْمَ القِيامَةِ، واحْتُجَّ عَلَيْهِ بِهَذِهِ الآيَةِ فَقالَ: دَلَّتْ هَذِهِ الآيَةُ عَلى تَخْصِيصِ نَفِي إدْراكِ اللَّهِ تَعالى بِالبَصَرِ، وتَخْصِيصُ الحُكْمِ بِالشَّيْءِ يَدُلُّ عَلى أنَّ الحالَ في غَيْرِهِ بِخِلافِهِ، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ إدْراكُ اللَّهِ بِغَيْرِ البَصَرِ جائِزًا في الجُمْلَةِ، ولَمّا ثَبَتَ أنَّ سائِرَ الحَواسِّ المَوْجُودَةِ الآنَ لا تَصْلُحُ لِذَلِكَ ثَبَتَ أنْ يُقالَ: إنَّهُ تَعالى يَخْلُقُ يَوْمَ القِيامَةِ حاسَّةً سادِسَةً بِها تَحْصُلُ رُؤْيَةُ اللَّهِ تَعالى وإدْراكُهُ؛ فَهَذِهِ وُجُوهٌ أرْبَعَةٌ مُسْتَنْبَطَةٌ مِن هَذِهِ الآيَةِ يُمْكِنُ التَّعْوِيلُ عَلَيْها في إثْباتِ أنَّ المُؤْمِنِينَ يَرَوْنَ اللَّهَ في القِيامَةِ.
* * *
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: في حِكايَةِ اسْتِدْلالِ المُعْتَزِلَةِ بِهَذِهِ الآيَةِ في نَفْيِ الرُّؤْيَةِ.
اعْلَمْ أنَّهم يَحْتَجُّونَ بِهَذِهِ الآيَةِ مِن وجْهَيْنِ:
الأوَّلُ: أنَّهم قالُوا: الإدْراكُ بِالبَصَرِ عِبارَةٌ عَنِ الرُّؤْيَةِ، بِدَلِيلِ أنَّ قائِلًا لَوْ قالَ: أدْرَكْتُهُ بِبَصَرِي وما رَأيْتُهُ، أوْ قالَ: رَأيْتُهُ وما أدْرَكْتُهُ بِبَصَرِي، فَإنَّهُ يَكُونُ كَلامُهُ مُتَناقِضًا، فَثَبَتَ أنَّ الإدْراكَ بِالبَصَرِ عِبارَةٌ عَنِ الرُّؤْيَةِ.
(p-١٠٤)إذا ثَبَتَ هَذا فَنَقُولُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لا تُدْرِكُهُ الأبْصارُ﴾ يَقْتَضِي أنَّهُ لا يَراهُ شَيْءٌ مِنَ الأبْصارِ في شَيْءٍ مِنَ الأحْوالِ، والدَّلِيلُ عَلى صِحَّةِ هَذا العُمُومِ وجْهانِ:
الأوَّلُ: يَصِحُّ اسْتِثْناءُ جَمِيعِ الأشْخاصِ وجَمِيعِ الأحْوالِ عَنْهُ فَيُقالُ: لا تُدْرِكُهُ الأبْصارُ إلّا بَصَرَ فُلانٍ، وإلّا في الحالَةِ الفُلانِيَّةِ، والِاسْتِثْناءُ يُخْرِجُ مِنَ الكَلامِ ما لَوْلاهُ لَوَجَبَ دُخُولُهُ؛ فَثَبَتَ أنَّ عُمُومَ هَذِهِ الآيَةِ يُفِيدُ عُمُومَ النَّفْيِ عَنْ كُلِّ الأشْخاصِ في جَمِيعِ الأحْوالِ، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّ أحَدًا لا يَرى اللَّهَ تَعالى في شَيْءٍ مِنَ الأحْوالِ.
الوَجْهُ الثّانِي في بَيانِ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ تُفِيدُ العُمُومَ: «أنَّ عائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - لَمّا أنْكَرَتْ قَوْلَ ابْنِ عَبّاسٍ في أنَّ مُحَمَّدًا ﷺ رَأى رَبَّهُ لَيْلَةَ المِعْراجِ تَمَسَّكَتْ في نُصْرَةِ مَذْهَبِ نَفْسِها بِهَذِهِ الآيَةِ»، ولَوْ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ الآيَةُ مُفِيدَةً لِلْعُمُومِ بِالنِّسْبَةِ إلى كُلِّ الأشْخاصِ وكُلِّ الأحْوالِ لَما تَمَّ ذَلِكَ الِاسْتِدْلالُ، ولا شَكَّ أنَّها كانَتْ مِن أشَدِّ النّاسِ عِلْمًا بِلُغَةِ العَرَبِ؛ فَثَبَتَ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ دالَّةٌ عَلى النَّفْيِ بِالنِّسْبَةِ إلى كُلِّ الأشْخاصِ، وذَلِكَ يُفِيدُ المَطْلُوبَ.
الوَجْهُ الثّانِي: في تَقْرِيرِ اسْتِدْلالِ المُعْتَزِلَةِ بِهَذِهِ الآيَةِ أنَّهم قالُوا: إنَّ ما قَبْلَ هَذِهِ الآيَةِ إلى هَذا المَوْضِعِ مُشْتَمِلٌ عَلى المَدْحِ والثَّناءِ، وقَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ: ﴿وهُوَ يُدْرِكُ الأبْصارَ﴾ أيْضًا مَدْحٌ وثَناءٌ، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: ﴿لا تُدْرِكُهُ الأبْصارُ﴾ مَدْحًا وثَناءً، وإلّا لَزِمَ أنْ يُقالَ: إنَّ ما لَيْسَ بِمَدْحٍ وثَناءٍ وقَعَ في خِلالِ ما هو مَدْحٌ وثَناءٌ، وذَلِكَ يُوجِبُ الرَّكاكَةَ، وهي غَيْرُ لائِقَةٍ بِكَلامِ اللَّهِ.
إذا ثَبَتَ هَذا فَنَقُولُ: كُلُّ ما كانَ عَدَمُهُ مَدْحًا، ولَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِن بابِ الفِعْلِ، كانَ ثُبُوتُهُ نَقْصًا في حَقِّ اللَّهِ تَعالى، والنَّقْصُ عَلى اللَّهِ تَعالى مُحالٌ؛ لِقَوْلِهِ: ﴿لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ ولا نَوْمٌ﴾ [البقرة: ٢٥٥] وقَوْلُهُ: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى: ١١] وقَوْلُهُ: ﴿لَمْ يَلِدْ ولَمْ يُولَدْ﴾ [الإخلاص: ٣] إلى غَيْرِ ذَلِكَ؛ فَوَجَبَ أنْ يُقالَ كَوْنُهُ تَعالى مَرْئِيًّا مُحالٌ.
واعْلَمْ أنَّ القَوْمَ إنَّما قَيَّدُوا ذَلِكَ بِما لا يَكُونُ مِن بابِ الفِعْلِ؛ لِأنَّهُ تَعالى تَمَدَّحَ بِنَفْيِ الظُّلْمِ عَنْ نَفْسِهِ في قَوْلِهِ: ﴿وما اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعالَمِينَ﴾ [آل عمران: ١٠٨] وقَوْلِهِ: ﴿وما رَبُّكَ بِظَلّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ [فصلت: ٤٦] مَعَ أنَّهُ تَعالى قادِرٌ عَلى الظُّلْمِ عِنْدَهم، فَذَكَرُوا هَذا القَيْدَ دَفْعًا لِهَذا النَّقْضِ عَنْ كَلامِهِمْ؛ فَهَذا غايَةُ تَقْرِيرِ كَلامِهِمْ في هَذا البابِ.
والجَوابُ عَنِ الوَجْهِ الأوَّلِ مِن وُجُوهٍ:
الأوَّلُ: لا نُسَلِّمُ أنَّ إدْراكَ البَصَرِ عِبارَةٌ عَنِ الرُّؤْيَةِ، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ: أنَّ لَفْظَ الإدْراكِ في أصْلِ اللُّغَةِ عِبارَةٌ عَنِ اللُّحُوقِ والوُصُولِ، قالَ تَعالى: ﴿قالَ أصْحابُ مُوسى إنّا لَمُدْرَكُونَ﴾ [الشعراء: ٦١] أيْ لَمُلْحَقُونَ؛ وقالَ: ﴿حَتّى إذا أدْرَكَهُ الغَرَقُ﴾ [يونس: ٩٠] أيْ لَحِقَهُ، ويُقالُ: أدْرَكَ فُلانٌ فُلانًا، وأدْرَكَ الغُلامُ أيْ بَلَغَ الحُلُمَ، وأدْرَكَتِ الثَّمَرَةُ أيْ نَضِجَتْ؛ فَثَبَتَ أنَّ الإدْراكَ هو الوُصُولُ إلى الشَّيْءِ.
إذا عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ: المَرْئِيُّ إذا كانَ لَهُ حَدٌّ ونِهايَةٌ وأدْرَكَهُ البَصَرُ بِجَمِيعِ حُدُودِهِ وجَوانِبِهِ ونِهاياتِهِ؛ صارَ كَأنَّ ذَلِكَ الإبْصارَ أحاطَ بِهِ؛ فَتُسَمّى هَذِهِ الرُّؤْيَةُ إدْراكًا، أمّا إذا لَمْ يُحِطِ البَصَرُ بِجَوانِبِ المَرْئِيِّ لَمْ تُسَمَّ تِلْكَ الرُّؤْيَةُ إدْراكًا؛ فالحاصِلُ أنَّ الرُّؤْيَةَ جِنْسٌ تَحْتَها نَوْعانِ: رُؤْيَةٌ مَعَ الإحاطَةِ، ورُؤْيَةٌ لا مَعَ الإحاطَةِ، والرُّؤْيَةُ مَعَ الإحاطَةِ هي المُسَمّاةُ بِالإدْراكِ فَنَفْيُ الإدْراكِ يُفِيدُ نَفْيَ نَوْعٍ واحِدٍ مِن نَوْعَيِ الرُّؤْيَةِ، ونَفْيُ النَّوْعِ لا يُوجِبُ نَفْيَ الجِنْسِ، فَلَمْ يَلْزَمْ مِن نَفْيِ الإدْراكِ عَنِ اللَّهِ تَعالى نَفْيُ الرُّؤْيَةِ عَنِ اللَّهِ تَعالى، فَهَذا وجْهٌ حَسَنٌ مَقْبُولٌ في الِاعْتِراضِ عَلى كَلامِ الخَصْمِ.
(p-١٠٥)قُلْنا: هَذا بَعِيدٌ؛ لِأنَّ الإدْراكَ أخَصُّ مِنَ الرُّؤْيَةِ، وإثْباتُ الأخَصِّ يُوجِبُ إثْباتَ الأعَمِّ، وأمّا نَفْيُ الأخَصِّ لا يُوجِبُ نَفْيَ الأعَمِّ، فَثَبَتَ أنَّ البَيانَ الَّذِي ذَكَرْناهُ يُبْطِلُ كَلامَكم ولا يُبْطِلُ كَلامَنا.
الوَجْهُ الثّانِي: في الِاعْتِراضِ أنْ نَقُولَ: هَبْ أنَّ الإدْراكَ بِالبَصَرِ عِبارَةٌ عَنِ الرُّؤْيَةِ، لَكِنْ لِمَ قُلْتُمْ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿لا تُدْرِكُهُ الأبْصارُ﴾ يُفِيدُ عُمُومَ النَّفْيِ عَنْ كُلِّ الأشْخاصِ، وعَنْ كُلِّ الأحْوالِ، وفي كُلِّ الأوْقاتِ ؟ وأمّا الِاسْتِدْلالُ بِصِحَّةِ الِاسْتِثْناءِ عَلى عُمُومِ النَّفْيِ فَمُعارَضٌ بِصِحَّةِ الِاسْتِثْناءِ عَنْ جَمْعِ القِلَّةِ، مَعَ أنَّها لا تُفِيدُ عُمُومَ النَّفْيِ بَلْ نُسَلِّمُ أنَّهُ يُفِيدُ العُمُومَ إلّا أنَّ نَفْيَ العُمُومِ غَيْرٌ، وعُمُومَ النَّفْيِ غَيْرٌ، وقَدْ دَلَلْنا عَلى أنَّ هَذا اللَّفْظَ لا يُفِيدُ إلّا نَفْيَ العُمُومِ، وبَيَّنّا أنَّ نَفْيَ العُمُومِ يُوجِبُ ثُبُوتَ الخُصُوصِ، وهَذا هو الَّذِي قَرَّرْناهُ في وجْهِ الِاسْتِدْلالِ، وأمّا قَوْلُهُ: إنَّ عائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - تَمَسَّكَتْ بِهَذِهِ الآيَةِ في نَفْيِ الرُّؤْيَةِ؛ فَنَقُولُ: مَعْرِفَةُ مُفْرَداتِ اللُّغَةِ إنَّما تُكْتَسَبُ مِن عُلَماءِ اللُّغَةِ، فَأمّا كَيْفِيَّةُ الِاسْتِدْلالِ بِالدَّلِيلِ فَلا يَرْجِعُ فِيهِ إلى التَّقْلِيدِ، وبِالجُمْلَةِ فالدَّلِيلُ العَقْلِيُّ دَلَّ عَلى أنَّ قَوْلَهُ: ﴿لا تُدْرِكُهُ الأبْصارُ﴾ يُفِيدُ نَفْيَ العُمُومِ، وثَبَتَ بِصَرِيحِ العَقْلِ أنَّ نَفْيَ العُمُومِ مُغايِرٌ لِعُمُومِ النَّفْيِ، ومَقْصُودُهم إنَّما يَتِمُّ لَوْ دَلَّتِ الآيَةُ عَلى عُمُومِ النَّفْيِ، فَسَقَطَ كَلامُهم.
الوَجْهُ الثّالِثُ: أنْ نَقُولَ صِيغَةُ الجَمْعِ كَما تُحْمَلُ عَلى الِاسْتِغْراقِ، فَقَدْ تُحْمَلُ عَلى المَعْهُودِ السّابِقِ أيْضًا، وإذا كانَ كَذَلِكَ فَقَوْلُهُ: ﴿لا تُدْرِكُهُ الأبْصارُ﴾ يُفِيدُ أنَّ الأبْصارَ المَعْهُودَةَ في الدُّنْيا لا تُدْرِكُهُ، ونَحْنُ نَقُولُ بِمُوجَبِهِ؛ فَإنَّ هَذِهِ الأبْصارَ وهَذِهِ الأحْداقَ ما دامَتْ تَبْقى عَلى هَذِهِ الصِّفاتِ الَّتِي هي مَوْصُوفَةٌ بِها في الدُّنْيا لا تُدْرِكُ اللَّهَ تَعالى، وإنَّما تُدْرِكُ اللَّهَ تَعالى إذا تَبَدَّلَتْ صِفاتُها، وتَغَيَّرَتْ أحْوالُها فَلِمَ قُلْتُمْ أنَّ عِنْدَ حُصُولِ هَذِهِ التَّغَيُّراتِ لا تُدْرِكُ اللَّهَ ؟ .
الوَجْهُ الرّابِعُ: سَلَّمْنا أنَّ الأبْصارَ البَتَّةَ لا تُدْرِكُ اللَّهَ تَعالى، فَلِمَ لا يَجُوزُ حُصُولُ إدْراكِ اللَّهِ تَعالى بِحاسَّةٍ سادِسَةٍ مُغايِرَةٍ لِهَذِهِ الحَواسِّ كَما كانَ ضِرارُ بْنُ عَمْرٍو يَقُولُ بِهِ ؟ وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ فَلا يَبْقى في التَّمَسُّكِ بِهَذِهِ الآيَةِ فائِدَةٌ.
الوَجْهُ الخامِسُ: هَبْ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ عامَّةٌ، إلّا أنَّ الآياتِ الدّالَّةَ عَلى إثْباتِ رُؤْيَةِ اللَّهِ تَعالى خاصَّةٌ والخاصُّ مُقَدَّمٌ عَلى العامِّ، وحِينَئِذٍ يَنْتَقِلُ الكَلامُ مِن هَذا المَقامِ إلى بَيانِ أنَّ تِلْكَ الآياتِ هَلْ تَدُلُّ عَلى حُصُولِ رُؤْيَةِ اللَّهِ تَعالى أمْ لا ؟ .
الوَجْهُ السّادِسُ: أنْ نَقُولَ بِمُوجَبِ الآيَةِ، فَنَقُولُ: سَلَّمْنا أنَّ الأبْصارَ لا تُدْرِكُ اللَّهَ تَعالى، فَلِمَ قُلْتُمْ: إنَّ المُبْصِرِينَ لا يُدْرِكُونَ اللَّهَ تَعالى ؟ فَهَذا مَجْمُوعُ الأسْئِلَةِ عَلى الوَجْهِ الأوَّلِ، وأمّا الوَجْهُ الثّانِي فَقَدْ بَيَّنّا أنَّهُ يَمْتَنِعُ حُصُولُ التَّمَدُّحِ بِنَفْيِ الرُّؤْيَةِ لَوْ كانَ تَعالى في ذاتِهِ بِحَيْثُ تَمْتَنِعُ رُؤْيَتُهُ، بَلْ إنَّما يَحْصُلُ التَّمَدُّحُ لَوْ كانَ بِحَيْثُ تَصِحُّ رُؤْيَتُهُ، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى يَحْجُبُ الأبْصارَ عَنْ رُؤْيَتِهِ، وبِهَذا الطَّرِيقِ يَسْقُطُ كَلامُهم بِالكُلِّيَّةِ، ثُمَّ نَقُولُ: إنَّ النَّفْيَ يَمْتَنِعُ أنْ يَكُونَ سَبَبًا لِحُصُولِ المَدْحِ والثَّناءِ، وذَلِكَ لِأنَّ النَّفْيَ المَحْضَ والعَدَمَ الصِّرْفَ لا يَكُونُ مُوجِبًا لِلْمَدْحِ والثَّناءِ، والعِلْمُ بِهِ ضَرُورِيٌّ، بَلْ إذا كانَ النَّفْيُ دَلِيلًا عَلى حُصُولِ صِفَةٍ ثابِتَةٍ مِن صِفاتِ المَدْحِ والثَّناءِ؛ قِيلَ: بِأنَّ ذَلِكَ النَّفْيَ يُوجِبُ المَدْحَ. ومِثالُهُ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ ولا نَوْمٌ﴾ [البقرة: ٢٥٥] لا يُفِيدُ المَدْحَ نَظَرًا إلى هَذا النَّفْيِ، فَإنَّ الجَمادَ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ ولا نَوْمٌ إلّا أنَّ هَذا النَّفْيَ في حَقِّ البارِي تَعالى يَدُلُّ عَلى كَوْنِهِ (p-١٠٦)تَعالى عالِمًا بِجَمِيعِ المَعْلُوماتِ أبَدًا مِن غَيْرِ تَبَدُّلٍ ولا زَوالٍ، وكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿وهُوَ يُطْعِمُ ولا يُطْعَمُ﴾ [الأنعام: ١٤] يَدُلُّ عَلى كَوْنِهِ قائِمًا بِنَفْسِهِ، غَنِيًّا في ذاتِهِ؛ لِأنَّ الجَمادَ أيْضًا لا يَأْكُلُ ولا يَطْعَمُ.
إذا ثَبَتَ هَذا فَنَقُولُ: قَوْلُهُ: ﴿لا تُدْرِكُهُ الأبْصارُ﴾ يَمْتَنِعُ أنْ يُفِيدَ المَدْحَ والثَّناءَ إلّا إذا دَلَّ عَلى مَعْنًى مَوْجُودٍ يُفِيدُ المَدْحَ والثَّناءَ، وذَلِكَ هو الَّذِي قُلْناهُ، فَإنَّهُ يُفِيدُ كَوْنَهُ تَعالى قادِرًا عَلى حَجْبِ الأبْصارِ ومَنعِها عَنْ إدْراكِهِ ورُؤْيَتِهِ، وبِهَذا التَّقْرِيرِ فَإنَّ الكَلامَ يَنْقَلِبُ عَلَيْهِمْ حُجَّةً؛ فَسَقَطَ اسْتِدْلالُ المُعْتَزِلَةِ بِهَذِهِ الآيَةِ مِن كُلِّ الوُجُوهِ.
* * *
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: اعْلَمْ أنَّ القاضِيَ ذَكَرَ في تَفْسِيرِهِ وُجُوهًا أُخْرى تَدُلُّ عَلى نَفْيِ الرُّؤْيَةِ، وهي في الحَقِيقَةِ خارِجَةٌ عَنِ التَّمَسُّكِ بِهَذِهِ الآيَةِ، ومُنْفَصِلَةٌ عَنْ عِلْمِ التَّفْسِيرِ، وخَوْضٌ في عِلْمِ الأُصُولِ، ولَمّا فَعَلَ القاضِي ذَلِكَ فَنَحْنُ نَنْقُلُها ونُجِيبُ عَنْها، ثُمَّ نَذْكُرُ لِأصْحابِنا وُجُوهًا دالَّةً عَلى صِحَّةِ الرُّؤْيَةِ؛ أمّا القاضِي فَقَدْ تَمَسَّكَ بِوُجُوهٍ عَقْلِيَّةٍ:
أوَّلُها: أنَّ الحاسَّةَ إذا كانَتْ سَلِيمَةً وكانَ المَرْئِيُّ حاضِرًا، وكانَتِ الشَّرائِطُ المُعْتَبَرَةُ حاصِلَةً وهي أنْ لا يَحْصُلَ القُرْبُ القَرِيبُ، ولا البُعْدُ البَعِيدُ، ولا يَحْصُلَ الحِجابُ، ويَكُونَ المَرْئِيُّ مُقابِلًا أوْ في حُكْمِ المُقابِلِ فَإنَّهُ يَجِبُ حُصُولُ الرُّؤْيَةِ، إذْ لَوْ جازَ مَعَ حُصُولِ هَذِهِ الأُمُورِ أنْ لا تَحْصُلَ الرُّؤْيَةُ جازَ أنْ يَكُونَ بِحَضْرَتِنا بُوقاتٌ وطَبْلاتٌ، ولا نَسْمَعُها ولا نَراها وذَلِكَ يُوجِبُ السَّفْسَطَةَ.
قالُوا إذا ثَبَتَ هَذا فَنَقُولُ: إنَّ انْتِفاءَ القُرْبِ القَرِيبِ والبُعْدِ البَعِيدِ، والحِجابِ وحُصُولِ المُقابَلَةِ في حَقِّ اللَّهِ تَعالى مُمْتَنِعٌ، فَلَوْ صَحَّتْ رُؤْيَتُهُ لَوَجَبَ أنْ يَكُونَ المُقْتَضِي لِحُصُولِ تِلْكَ الرُّؤْيَةِ هو سَلامَةَ الحاسَّةِ، وكَوْنَ المَرْئِيِّ تَصِحُّ رُؤْيَتُهُ؛ وهَذانِ المَعْنَيانِ حاصِلانِ في هَذا الوَقْتِ، فَلَوْ كانَ بِحَيْثُ تَصِحُّ رُؤْيَتُهُ لَوَجَبَ أنْ تَحْصُلَ رُؤْيَتُهُ في هَذا الوَقْتِ، وحَيْثُ لَمْ تَحْصُلْ هَذِهِ الرُّؤْيَةُ عَلِمْنا أنَّهُ مُمْتَنِعُ الرُّؤْيَةِ.
والحُجَّةُ الثّانِيَةُ: أنَّ كُلَّ ما كانَ مَرْئِيًّا كانَ مُقابِلًا أوْ في حُكْمِ المُقابِلِ، واللَّهُ تَعالى لَيْسَ كَذَلِكَ، فَوَجَبَ أنْ تَمْتَنِعَ رُؤْيَتُهُ.
والحُجَّةُ الثّالِثَةُ: قالَ القاضِي: ويُقالُ لَهم: كَيْفَ يَراهُ أهْلُ الجَنَّةِ دُونَ أهْلِ النّارِ ؟ إمّا أنْ يَقْرُبَ مِنهم أوْ يُقابِلَهم فَيَكُونَ حالُهم مَعَهُ بِخِلافِ أهْلِ النّارِ، وهَذا يُوجِبُ أنَّهُ جِسْمٌ يَجُوزُ عَلَيْهِ القُرْبُ والبُعْدُ والحِجابُ.
والحُجَّةُ الرّابِعَةُ: قالَ القاضِي: إنْ قُلْتُمْ إنَّ أهْلَ الجَنَّةِ يَرَوْنَهُ في كُلِّ حالٍ حَتّى عِنْدَ الجِماعِ وغَيْرِهِ فَهو باطِلٌ، أوْ يَرَوْنَهُ في حالٍ دُونَ حالٍ، وهَذا أيْضًا باطِلٌ؛ لِأنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ أنَّهُ تَعالى مَرَّةً يَقْرُبُ وأُخْرى يَبْعُدُ، وأيْضًا فَرُؤْيَتُهُ أعْظَمُ اللَّذّاتِ، وإذا كانَ كَذَلِكَ وجَبَ أنْ يَكُونُوا مُشْتَهِينَ لِتِلْكَ الرُّؤْيَةِ أبَدًا، فَإذا لَمْ يَرَوْهُ في بَعْضِ الأوْقاتِ وقَعُوا في الغَمِّ والحُزْنِ، وذَلِكَ لا يَلِيقُ بِصِفاتِ أهْلِ الجَنَّةِ، فَهَذا مَجْمُوعُ ما ذَكَرَهُ في ”كِتابِ التَّفْسِيرِ“ . واعْلَمْ أنَّ هَذِهِ الوُجُوهَ في غايَةِ الضَّعْفِ.
أمّا الوَجْهُ الأوَّلُ: فَيُقالُ لَهُ: هَبْ أنَّ رُؤْيَةَ الأجْسامِ والأعْراضِ عِنْدَ حُصُولِ سَلامَةِ الحاسَّةِ وحُضُورِ المَرْئِيِّ وحُصُولِ سائِرِ الشَّرائِطِ واجِبَةٌ، فَلِمَ قُلْتُمْ: إنَّهُ يَلْزَمُ مِنهُ أنْ يَكُونَ رُؤْيَةُ اللَّهِ تَعالى عِنْدَ سَلامَةِ الحاسَّةِ وعِنْدَ كَوْنِ المَرْئِيِّ بِحَيْثُ يَصِحُّ رُؤْيَتُهُ واجِبَةً ؟ ألَمْ تَعْلَمُوا أنَّ ذاتَهُ تَعالى مُخالِفَةٌ لِسائِرِ الذَّواتِ، ولا يَلْزَمُ مِن ثُبُوتِ حُكْمٍ في شَيْءٍ ثُبُوتُ مِثْلِ ذَلِكَ الحُكْمِ فِيما يُخالِفُهُ، والعَجَبُ مِن هَؤُلاءِ المُعْتَزِلَةِ أنَّ أوَّلَهم وآخِرَهم (p-١٠٧)عَوَّلُوا عَلى هَذا الدَّلِيلِ، وهم يَدَّعُونَ الفِطْنَةَ التّامَّةَ والكِياسَةَ الشَّدِيدَةَ، ولَمْ يَتَنَبَّهْ أحَدٌ مِنهم لِهَذا السُّؤالِ ولَمْ يَخْطُرْ بِبالِهِ رَكاكَةُ هَذا الكَلامِ.
وأمّا الوَجْهُ الثّانِي: فَيُقالُ لَهُ: إنَّ النِّزاعَ بَيْنَنا وبَيْنَكَ وقَعَ في أنَّ المَوْجُودَ الَّذِي لا يَكُونُ مُخْتَصًّا بِمَكانٍ وجِهَةٍ هَلْ يَجُوزُ رُؤْيَتُهُ أمْ لا ؟ فَإمّا أنْ تَدَّعُوا أنَّ العِلْمَ بِامْتِناعِ رُؤْيَةِ هَذا المَوْجُودِ المَوْصُوفِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ عِلْمٌ بَدِيهِيٌّ أوْ تَقُولُوا: إنَّهُ عِلْمٌ اسْتِدْلالِيٌّ، والأوَّلُ باطِلٌ؛ لِأنَّهُ لَوْ كانَ العِلْمُ بِهِ بَدِيهِيًّا لَما وقَعَ الخِلافُ فِيهِ بَيْنَ العُقَلاءِ، وأيْضًا فَبِتَقْدِيرِ أنْ يَكُونَ هَذا العِلْمُ بَدِيهِيًّا كانَ الِاشْتِغالُ بِذِكْرِ الدَّلِيلِ عَبَثًا، فاتْرُكُوا الِاسْتِدْلالَ، واكْتَفُوا بِادِّعاءِ البَدِيهَةِ، وإنْ كانَ الثّانِيَ فَنَقُولُ: قَوْلُكم: المَرْئِيُّ يَجِبُ أنْ يَكُونَ مُقابِلًا أوْ في حُكْمِ المُقابِلِ إعادَةٌ لَعَيْنِ الدَّعْوى؛ لِأنَّ حاصِلَ الكَلامِ أنَّكم قُلْتُمْ: الدَّلِيلُ عَلى أنَّ ما لا يَكُونُ مُقابِلًا ولا في حُكْمِ المُقابِلِ لا تَجُوزُ رُؤْيَتُهُ، أنَّ كُلَّ ما كانَ مَرْئِيًّا فَإنَّهُ يَجِبُ أنْ يَكُونَ مُقابِلًا أوْ في حُكْمِ المُقابِلِ، ومَعْلُومٌ أنَّهُ لا فائِدَةَ في هَذا الكَلامِ إلّا إعادَةُ الدَّعْوى.
وأمّا الوَجْهُ الثّالِثُ: فَيُقالُ لَهُ: لِمَ لا يَجُوزُ أنْ يُقالَ إنَّ أهْلَ الجَنَّةِ يَرَوْنَهُ وأهْلَ النّارِ لا يَرَوْنَهُ ؟ لا لِأجْلِ القُرْبِ والبُعْدِ كَما ذَكَرْتَ، بَلْ لِأنَّهُ تَعالى يَخْلُقُ الرُّؤْيَةَ في عُيُونِ أهْلِ الجَنَّةِ ولا يَخْلُقُها في عُيُونِ أهْلِ النّارِ؛ فَلَوْ رَجَعْتَ في إبْطالِ هَذا الكَلامِ إلى أنَّ تَجْوِيزَهُ يُفْضِي إلى تَجْوِيزِ أنْ يَكُونَ بِحَضْرَتِنا بُوقاتٌ وطَبْلاتٌ ولا نَراها ولا نَسْمَعُها، كانَ هَذا رُجُوعًا إلى الطَّرِيقَةِ الأُولى، وقَدْ سَبَقَ جَوابُها.
وأمّا الوَجْهُ الرّابِعُ: فَيُقالُ: لِمَ لا يَجُوزُ أنْ يُقالَ: إنَّ المُؤْمِنِينَ يَرَوْنَ اللَّهَ تَعالى في حالٍ دُونَ حالٍ ؟ أمّا قَوْلُهُ فَهَذا يَقْتَضِي أنْ يُقالَ: إنَّهُ تَعالى مَرَّةً يَقْرُبُ ومَرَّةً يَبْعُدُ، فَيُقالُ: هَذا عَوْدٌ إلى أنَّ الإبْصارَ لا يَحْصُلُ إلّا عِنْدَ الشَّرائِطِ المَذْكُورَةِ، وهو عَوْدٌ إلى الطَّرِيقِ الأوَّلِ، وقَدْ سَبَقَ جَوابُهُ.
وقَوْلُهُ ثانِيًا: الرُّؤْيَةُ أعْظَمُ اللَّذّاتِ، فَيُقالُ لَهُ: إنَّها وإنْ كانَتْ كَذَلِكَ إلّا أنَّهُ لا يَبْعُدُ أنْ يُقالَ: إنَّهم يَشْتَهُونَها في حالٍ دُونَ حالٍ، بِدَلِيلِ أنَّ سائِرَ لَذّاتِ الجَنَّةِ ومَنافِعِها طَيِّبَةٌ ولَذِيذَةٌ، ثُمَّ إنَّها تَحْصُلُ في حالٍ دُونَ حالٍ فَكَذا هاهُنا، فَهَذا تَمامُ الكَلامِ في الجَوابِ عَنِ الوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرَها في هَذا البابِ.
* * *
المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: في تَقْرِيرِ الوُجُوهِ الدّالَّةِ عَلى أنَّ المُؤْمِنِينَ يَرَوْنَ اللَّهَ تَعالى ونَحْنُ نَعُدُّها هُنا عَدًّا، ونُحِيلُ تَقْرِيرَها إلى المَواضِعِ اللّائِقَةِ بِها:
فالأوَّلُ: أنَّ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ طَلَبَ الرُّؤْيَةَ مِنَ اللَّهِ تَعالى، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى جَوازِ رُؤْيَةِ اللَّهِ تَعالى.
والثّانِي: أنَّهُ تَعالى عَلَّقَ الرُّؤْيَةَ عَلى اسْتِقْرارِ الجَبَلِ حَيْثُ قالَ: ﴿فَإنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي﴾ [الأعراف: ١٤٣] واسْتِقْرارُ الجَبَلِ جائِزٌ، والمُعَلَّقُ عَلى الجائِزِ جائِزٌ، وهَذانِ الدَّلِيلانِ سَيَأْتِي تَقْرِيرُهُما إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى في سُورَةِ الأعْرافِ.
الحُجَّةُ الثّالِثَةُ: التَّمَسُّكُ بِقَوْلِهِ: ﴿لا تُدْرِكُهُ الأبْصارُ﴾ مِنَ الوُجُوهِ المَذْكُورَةِ.
الحُجَّةُ الرّابِعَةُ: التَّمَسُّكُ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿لِلَّذِينَ أحْسَنُوا الحُسْنى وزِيادَةٌ﴾ [يونس: ٢٦] وتَقْرِيرُهُ قَدْ ذَكَرْناهُ في سُورَةِ يُونُسَ.
الحُجَّةُ الخامِسَةُ: التَّمَسُّكُ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَمَن كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ﴾ [الكهف: ١١٠] وكَذا القَوْلُ في جَمِيعِ الآياتِ المُشْتَمِلَةِ عَلى اللِّقاءِ، وتَقْرِيرُهُ قَدْ مَرَّ في هَذا التَّفْسِيرِ مِرارًا وأطْوارًا.(p-١٠٨)
الحُجَّةُ السّادِسَةُ: التَّمَسُّكُ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وإذا رَأيْتَ ثَمَّ رَأيْتَ نَعِيمًا ومُلْكًا كَبِيرًا﴾ [الإنسان: ٢٠] فَإنَّ إحْدى القِراءاتِ في هَذِهِ الآيَةِ: ”مَلِكًا“ بِفَتْحِ المِيمِ وكَسْرِ اللّامِ، وأجْمَعَ المُسْلِمُونَ عَلى أنَّ ذَلِكَ المَلِكَ لَيْسَ إلّا اللَّهُ تَعالى؛ وعِنْدِي التَّمَسُّكُ بِهَذِهِ الآيَةِ أقْوى مِنَ التَّمَسُّكِ بِغَيْرِها.
الحُجَّةُ السّابِعَةُ: التَّمَسُّكُ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿كَلّا إنَّهم عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ﴾ [المطففين: ١٥] وتَخْصِيصُ الكُفّارِ بِالحَجْبِ يَدُلُّ عَلى أنَّ المُؤْمِنِينَ لا يَكُونُونَ مَحْجُوبِينَ عَنْ رُؤْيَةِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ.
الحُجَّةُ الثّامِنَةُ: التَّمَسُّكُ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى﴾ ﴿عِنْدَ سِدْرَةِ المُنْتَهى﴾ [النجم: ١٤] وتَقْرِيرُ هَذِهِ الحُجَّةِ سَيَأْتِي في تَفْسِيرِ سُورَةِ النَّجْمِ.
الحُجَّةُ التّاسِعَةُ: أنَّ القُلُوبَ الصّافِيَةَ مَجْبُولَةٌ عَلى حُبِّ مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعالى عَلى أكْمَلِ الوُجُوهِ، وأكْمَلُ طُرُقِ المَعْرِفَةِ هو الرُّؤْيَةُ؛ فَوَجَبَ أنْ تَكُونَ رُؤْيَةُ اللَّهِ تَعالى مَطْلُوبَةً لِكُلِّ أحَدٍ، وإذا ثَبَتَ هَذا وجَبَ القَطْعُ بِحُصُولِها لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولَكم فِيها ما تَشْتَهِي أنْفُسُكُمْ﴾ [فصلت: ٣١] .
الحُجَّةُ العاشِرَةُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ كانَتْ لَهم جَنّاتُ الفِرْدَوْسِ نُزُلًا﴾ [الكهف: ١٠٧] دَلَّتْ هَذِهِ الآيَةُ عَلى أنَّهُ تَعالى جَعَلَ جَمِيعَ جَنّاتِ الفِرْدَوْسِ نُزُلًا لِلْمُؤْمِنِينَ، والِاقْتِصارُ فِيها عَلى النُّزُلِ لا يَجُوزُ، بَلْ لا بُدَّ وأنْ يَحْصُلَ عَقِيبَ النُّزُلِ تَشْرِيفٌ أعْظَمُ حالًا مِن ذَلِكَ النُّزُلِ، وما ذاكَ إلّا الرُّؤْيَةُ.
الحُجَّةُ الحادِيَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ﴾ ﴿إلى رَبِّها ناظِرَةٌ﴾ [القيامة: ٢٢] وتَقْرِيرُ كُلِّ واحِدٍ مِن هَذِهِ الوُجُوهِ سَيَأْتِي في المَوْضِعِ اللّائِقِ بِهِ مِن هَذا الكِتابِ، وأمّا الأخْبارُ فَكَثِيرَةٌ مِنها الحَدِيثُ المَشْهُورُ، وهو قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلامُ: «سَتَرَوْنَ رَبَّكم كَما تَرَوْنَ القَمَرَ لَيْلَةَ البَدْرِ لا تُضامُّونَ في رُؤْيَتِهِ» واعْلَمْ أنَّ التَّشْبِيهَ وقَعَ في تَشْبِيهِ الرُّؤْيَةِ بِالرُّؤْيَةِ في الجَلاءِ والوُضُوحِ لا في تَشْبِيهِ المَرْئِيِّ بِالمَرْئِيِّ، ومِنها ما اتَّفَقَ الجُمْهُورُ عَلَيْهِ مِن أنَّهُ ﷺ قَرَأ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿لِلَّذِينَ أحْسَنُوا الحُسْنى وزِيادَةٌ﴾ [يونس: ٢٦] فَقالَ: الحُسْنى هي الجَنَّةُ، والزِّيادَةُ النَّظَرُ إلى وجْهِ اللَّهِ، ومِنها أنَّ الصَّحابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - اخْتَلَفُوا في أنَّ النَّبِيَّ ﷺ هَلْ رَأى اللَّهَ لَيْلَةَ المِعْراجِ، ولَمْ يُكَفِّرْ بَعْضُهم بَعْضًا بِهَذا السَّبَبِ ؟ وما نَسَبَهُ إلى البِدْعَةِ والضَّلالَةِ، وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّهم كانُوا مُجْمِعِينَ عَلى أنَّهُ لا امْتِناعَ عَقْلًا في رُؤْيَةِ اللَّهِ تَعالى، فَهَذا جُمْلَةُ الكَلامِ في سَمْعِيّاتِ مَسْألَةِ الرُّؤْيَةِ.
* * *
المَسْألَةُ الخامِسَةُ: دَلَّ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وهُوَ يُدْرِكُ الأبْصارَ﴾ عَلى أنَّهُ تَعالى يَرى الأشْياءَ ويُبْصِرُها ويُدْرِكُها؛ وذَلِكَ لِأنَّهُ إمّا أنْ يَكُونَ المُرادُ مِنَ الأبْصارِ عَيْنَ الأبْصارِ، أوِ المُرادُ مِنهُ المُبْصِرِينَ، فَإنْ كانَ الأوَّلَ وجَبَ الحُكْمُ بِكَوْنِهِ تَعالى رائِيًا لِرُؤْيَةِ الرّائِينَ ولِأبْصارِ المُبْصِرِينَ، وكُلُّ مَن قالَ ذَلِكَ قالَ: إنَّهُ تَعالى يَرى جَمِيعَ المَرْئِيّاتِ والمُبْصَراتِ. وإنْ كانَ الثّانِيَ وجَبَ الحُكْمُ بِكَوْنِهِ تَعالى رائِيًا لِلْمُبْصِرِينَ، فَعَلى كِلا التَّقْدِيرَيْنِ تَدُلُّ هَذِهِ الآيَةُ عَلى كَوْنِهِ تَعالى مُبْصِرًا لِلْمُبْصَراتِ، رائِيًا لِلْمَرْئِيّاتِ.
المَسْألَةُ السّادِسَةُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وهُوَ يُدْرِكُ الأبْصارَ﴾ يُفِيدُ الحَصْرَ مَعْناهُ أنَّهُ تَعالى هو يُدْرِكُ الأبْصارَ ولا يُدْرِكُها غَيْرُ اللَّهِ تَعالى، والمَعْنى أنَّ الأمْرَ الَّذِي بِهِ يَصِيرُ الحَيُّ رائِيًا لِلْمَرْئِيّاتِ، ومُبْصِرًا لِلْمُبْصَراتِ، ومُدْرِكًا لِلْمُدْرَكاتِ، أمْرٌ عَجِيبٌ وماهِيَّةٌ شَرِيفَةٌ، لا يُحِيطُ العَقْلُ بِكُنْهِها، ومَعَ ذَلِكَ فَإنَّ اللَّهَ تَعالى مُدْرِكٌ لِحَقِيقَتِها (p-١٠٩)مُطَّلِعٌ عَلى ماهِيَّتِها، فَيَكُونُ المَعْنى مِن قَوْلِهِ: ﴿لا تُدْرِكُهُ الأبْصارُ﴾ هو أنَّ شَيْئًا مِنَ القُوى المُدْرَكَةِ لا تُحِيطُ بِحَقِيقَتِهِ، وأنَّ عَقْلًا مِنَ العُقُولِ لا يَقِفُ عَلى كُنْهِ صَمَدِيَّتِهِ، فَكَلَّتِ الأبْصارُ عَنْ إدْراكِهِ، وارْتَدَعَتِ العُقُولُ عَنِ الوُصُولِ إلى مَيادِينِ عِزَّتِهِ، وكَما أنَّ شَيْئًا لا يُحِيطُ بِهِ، فَعِلْمُهُ مُحِيطٌ بِالكُلِّ، وإدْراكُهُ مُتَناوَلٌ لِلْكُلِّ، فَهَذا كَيْفِيَّةُ نَظْمِ هَذِهِ الآيَةِ.
المَسْألَةُ السّابِعَةُ: قَوْلُهُ: ﴿وهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ﴾ اللَّطافَةُ ضِدُّ الكَثافَةِ، والمُرادُ مِنهُ الرِّقَّةُ، وذَلِكَ في حَقِّ اللَّهِ مُمْتَنِعٌ، فَوَجَبَ المَصِيرُ فِيهِ إلى التَّأْوِيلِ، وهو مِن وُجُوهٍ:
الوَجْهُ الأوَّلُ: المُرادُ لُطْفُ صُنْعِهِ في تَرْكِيبِ أبْدانِ الحَيَواناتِ مِنَ الأجْزاءِ الدَّقِيقَةِ، والأغْشِيَةِ الرَّقِيقَةِ، والمَنافِذِ الضَّيِّقَةِ الَّتِي لا يَعْلَمُها أحَدٌ إلّا اللَّهُ تَعالى.
الوَجْهُ الثّانِي: أنَّهُ سُبْحانَهُ لَطِيفٌ في الإنْعامِ والرَّأْفَةِ والرَّحْمَةِ.
والوَجْهُ الثّالِثُ: أنَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ، حَيْثُ يُثْنِي عَلَيْهِمْ عِنْدَ الطّاعَةِ، ويَأْمُرُهم بِالتَّوْبَةِ عِنْدَ المَعْصِيَةِ، ولا يَقْطَعُ عَنْهم سَوادَ رَحْمَتِهِ، سَواءٌ كانُوا مُطِيعِينَ أوْ كانُوا عُصاةً.
الوَجْهُ الرّابِعُ: أنَّهُ لَطِيفٌ بِهِمْ؛ حَيْثُ لا يَأْمُرُهم فَوْقَ طاقَتِهِمْ، ويُنْعِمُ عَلَيْهِمْ بِما هو فَوْقَ اسْتِحْقاقِهِمْ، وأمّا الخَبِيرُ: فَهو مِنَ الخَبَرِ وهو العِلْمُ، والمَعْنى أنَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ مَعَ كَوْنِهِ عالِمًا بِما هم عَلَيْهِ مِنَ ارْتِكابِ المَعاصِي والإقْدامِ عَلى القَبائِحِ، وقالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: ”اللَّطِيفُ“ مَعْناهُ أنَّهُ يَلْطُفُ عَنْ أنْ تُدْرِكَهُ الأبْصارُ، ”الخَبِيرُ“ بِكُلِّ لَطِيفٍ، فَهو يُدْرِكُ الأبْصارَ، ولا يَلْطُفُ شَيْءٌ عَنْ إدْراكِهِ، وهَذا وجْهٌ حَسَنٌ.
{"ayah":"لَّا تُدۡرِكُهُ ٱلۡأَبۡصَـٰرُ وَهُوَ یُدۡرِكُ ٱلۡأَبۡصَـٰرَۖ وَهُوَ ٱللَّطِیفُ ٱلۡخَبِیرُ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق