الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكم لا إلَهَ إلّا هو خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فاعْبُدُوهُ وهو عَلى كُلِّ شَيْءٍ وكِيلٌ﴾ .
اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا أقامَ الحُجَّةَ عَلى وُجُودِ الإلَهِ القادِرِ المُخْتارِ الحَكِيمِ الرَّحِيمِ، وبَيَّنَ فَسادَ قَوْلِ مَن ذَهَبَ إلى الإشْراكِ بِاللَّهِ، وفَصَّلَ مَذاهِبَهم عَلى أحْسَنِ الوُجُوهِ، وبَيَّنَ فَسادَ كُلِّ واحِدٍ مِنها بِالدَّلائِلِ اللّائِقَةِ بِهِ، ثُمَّ حَكى مَذْهَبَ مَن أثْبَتَ لِلَّهِ البَنِينَ والبَناتِ، وبَيَّنَ بِالدَّلائِلِ القاطِعَةِ فَسادَ القَوْلِ بِها فَعِنْدَ هَذا ثَبَتَ أنَّ إلَهَ العالَمِ فَرْدٌ واحِدٌ صَمَدٌ مُنَزَّهٌ عَنِ الشَّرِيكِ والنَّظِيرِ، والضِّدِّ والنِّدِّ، ومُنَزَّهٌ عَنِ الأوْلادِ والبَنِينَ والبَناتِ، فَعِنْدَ هَذا صَرَّحَ بِالنَّتِيجَةِ فَقالَ: ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكم لا إلَهَ إلّا هو خالِقُ كُلِّ ما سِواهُ فاعْبُدُوهُ ولا تَعْبُدُوا غَيْرَهُ أحَدًا، فَإنَّهُ هو المُصْلِحُ لِمُهِمّاتِ جَمِيعِ العِبادِ، وهو الَّذِي يَسْمَعُ دُعاءَهم، ويَرى ذُلَّهم وخُضُوعَهم، ويَعْلَمُ حاجَتَهم، وهو الوَكِيلُ لِكُلِّ أحَدٍ عَلى حُصُولِ مُهِمّاتِهِ، ومَن تَأمَّلَ في هَذا النَّظْمِ والتَّرْتِيبِ في تَقْرِيرِ الدَّعْوَةِ إلى التَّوْحِيدِ والتَّنْزِيهِ، وإظْهارِ فَسادِ الشِّرْكِ، عَلِمَ أنَّهُ لا طَرِيقَ أوْضَحُ ولا أصْلَحُ مِنهُ. وفي الآيَةِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: ”ذَلِكم“ إشارَةٌ إلى المَوْصُوفِ بِما تَقَدَّمَ مِنَ الصِّفاتِ، وهو مُبْتَدَأٌ وما بَعْدَهُ أخْبارٌ مُتَرادِفَةٌ، وهي: ﴿اللَّهُ رَبُّكم لا إلَهَ إلّا هو خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ أيْ ذَلِكَ الجامِعُ لِهَذِهِ الصِّفاتِ (p-٩٩)فاعْبُدُوهُ، عَلى مَعْنى أنَّ مَن حَصَلَتْ لَهُ هَذِهِ الصِّفاتُ كانَ هو الحَقِيقَ بِالعِبادَةِ فاعْبُدُوهُ، ولا تَعْبُدُوا أحَدًا سِواهُ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى بَيَّنَ في هَذِهِ السُّورَةِ بِالدَّلائِلِ الكَثِيرَةِ افْتِقارَ الخَلْقِ إلى خالِقٍ ومُوجِدٍ، ومُحْدِثٍ، ومُبْدِعٍ، ومُدَبِّرٍ، ولَمْ يَذْكُرْ دَلِيلًا مُنْفَصِلًا يَدُلُّ عَلى نَفْيِ الشُّرَكاءِ، والأضْدادِ والأنْدادِ، ثُمَّ إنَّهُ أتْبَعَ الدَّلائِلَ الدّالَّةَ عَلى وُجُودِ الصّانِعِ بِأنْ نَقَلَ قَوْلَ مَن أثْبَتَ لِلَّهِ شَرِيكًا، فَهَذا القَدْرُ يَكُونُ أوْجَبَ الجَزْمَ بِالتَّشْرِيكِ مِنَ الجِنِّ، ثُمَّ أبْطَلَهُ، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى بَعْدَ ذَلِكَ أتى بِالتَّوْحِيدِ المَحْضِ، حَيْثُ قالَ: ﴿ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكم لا إلَهَ إلّا هو خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فاعْبُدُوهُ﴾ وعِنْدَ هَذا يَتَوَجَّهُ السُّؤالُ، وهو أنَّ حاصِلَ ما تَقَدَّمَ إقامَةُ الدَّلِيلِ عَلى وُجُودِ الخالِقِ، وتَزْيِيفُ دَلِيلِ مَن أثْبَتَ لِلَّهِ شَرِيكًا، فَهَذا القَدْرُ كَيْفَ أوْجَبَ الجَزْمَ بِالتَّوْحِيدِ المَحْضِ ؟ فَنَقُولُ: لِلْعُلَماءِ في إثْباتِ التَّوْحِيدِ طُرُقٌ كَثِيرَةٌ، ومِن جُمْلَتِها هَذِهِ الطَّرِيقَةُ.
وتَقْرِيرُها مِن وُجُوهٍ:
الأوَّلُ: قالَ المُتَقَدِّمُونَ: الصّانِعُ الواحِدُ كافٍ، وما زادَ عَلى الواحِدِ فالقَوْلُ فِيهِ مُتَكافِئٌ، فَوَجَبَ القَوْلُ بِالتَّوْحِيدِ، أمّا قَوْلُنا: الصّانِعُ الواحِدُ كافٍ؛ فَلِأنَّ الإلَهَ القادِرَ عَلى كُلِّ المَقْدُوراتِ العالِمَ بِكُلِّ المَعْلُوماتِ كافٍ في كَوْنِهِ إلَهًا لِلْعالَمِ، ومُدَبِّرًا لَهُ، وأمّا أنَّ الزّائِدَ عَلى الواحِدِ، فالقَوْلُ فِيهِ مُتَكافِئٌ، فَلِأنَّ الزّائِدَ عَلى الواحِدِ لَمْ يَدُلَّ الدَّلِيلُ عَلى ثُبُوتِهِ، فَلَمْ يَكُنْ إثْباتُ عَدَدٍ أوْلى مِن إثْباتِ عَدَدٍ آخَرَ، فَيَلْزَمُ إمّا إثْباتُ آلِهَةٍ لا نِهايَةَ لَها، وهو مُحالٌ، أوْ إثْباتُ عَدَدٍ مُعَيَّنٍ مَعَ أنَّهُ لَيْسَ ذَلِكَ العَدَدُ أوْلى مِن سائِرِ الأعْدادِ، وهو أيْضًا مُحالٌ، وإذا كانَ القِسْمانِ باطِلَيْنِ لَمْ يَبْقَ إلّا القَوْلُ بِالتَّوْحِيدِ.
الوَجْهُ الثّانِي في تَقْرِيرِ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ: أنَّ الإلَهَ القادِرَ عَلى كُلِّ المُمْكِناتِ العالِمَ بِكُلِّ المَعْلُوماتِ كافٍ في تَدْبِيرِ العالَمِ، فَلَوْ قَدَّرْنا إلَهًا ثانِيًا لَكانَ ذَلِكَ الثّانِي إمّا أنْ يَكُونَ فاعِلًا ومَوْجُودًا لِشَيْءٍ مِن حَوادِثِ هَذا العالَمِ أوْ لا يَكُونَ، والأوَّلُ باطِلٌ؛ لِأنَّهُ لَمّا كانَ كُلُّ واحِدٍ مِنهُما قادِرًا عَلى جَمِيعِ المُمْكِناتِ فَكُلُّ فِعْلٍ يَفْعَلُهُ أحَدُهُما صارَ كَوْنُهُ فاعِلًا لِذَلِكَ الفِعْلِ مانِعًا لِلْآخَرِ عَنْ تَحْصِيلِ مَقْدُورِهِ، وذَلِكَ يُوجِبُ كَوْنَ كُلِّ واحِدٍ مِنهُما سَبَبًا لِعَجْزِ الآخَرِ وهو مُحالٌ، وإنْ كانَ الثّانِيَ لا يَفْعَلُ فِعْلًا ولا يُوجِدُ شَيْئًا كانَ ناقِصًا مُعَطِّلًا، وذَلِكَ لا يَصْلُحُ لِلْإلَهِيَّةِ.
والوَجْهُ الثّالِثُ: في تَقْرِيرِ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ أنْ نَقُولَ: إنَّ هَذا الإلَهَ الواحِدَ لا بُدَّ وأنْ يَكُونَ كامِلًا في صِفاتِ الإلَهِيَّةِ، فَلَوْ فَرَضْنا إلَهًا ثانِيًا لَكانَ ذَلِكَ الثّانِي إمّا أنْ يَكُونَ مُشارِكًا لِلْأوَّلِ في جَمِيعِ صِفاتِ الكَمالِ أوْ لا يَكُونَ، فَإنْ كانَ مُشارِكًا لِلْأوَّلِ في جَمِيعِ صِفاتِ الكَمالِ فَلا بُدَّ وأنْ يَكُونَ مُتَمَيِّزًا عَنِ الأوَّلِ بِأمْرٍ ما، إذْ لَوْ لَمْ يَحْصُلِ الِامْتِيازُ بِأمْرٍ مِنَ الأُمُورِ لَمْ يَحْصُلِ التَّعَدُّدُ والِاثْنَيْنِيَّةُ، وإذا حَصَلَ الِامْتِيازُ بِأمْرٍ ما فَذَلِكَ الأمْرُ المُمَيَّزُ إمّا أنْ يَكُونَ مِن صِفاتِ الكَمالِ أوْ لا يَكُونَ، فَإنْ كانَ مِن صِفاتِ الكَمالِ مَعَ أنَّهُ حَصَلَ الِامْتِيازُ بِهِ لَمْ يَكُنْ جَمِيعُ صِفاتِ الكَمالِ مُشْتَرَكًا فِيهِ بَيْنَهُما، وإنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ المُمَيَّزُ مِن صِفاتِ الكَمالِ، فالمَوْصُوفُ بِهِ يَكُونُ مَوْصُوفًا بِصِفَةٍ لَيْسَتْ مِن صِفاتِ الكَمالِ، وذَلِكَ نُقْصانٌ، فَثَبَتَ بِهَذِهِ الوُجُوهِ الثَّلاثَةِ أنَّ الإلَهَ الواحِدَ كافٍ في تَدْبِيرِ العالَمِ والإيجادِ، وأنَّ الزّائِدَ يَجِبُ نَفْيُهُ؛ فَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ هي الَّتِي ذَكَرَها اللَّهُ تَعالى هاهُنا في تَقْرِيرِ التَّوْحِيدِ، وأمّا التَّمَسُّكُ بِدَلِيلِ التَّمانُعِ فَقَدْ ذَكَرْناهُ في سُورَةِ البَقَرَةِ.
* * *
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: تَمَسَّكَ أصْحابُنا بِقَوْلِهِ: ﴿خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ عَلى أنَّهُ تَعالى هو الخالِقُ لِأعْمالِ العِبادِ، قالُوا: أعْمالُ العِبادِ أشْياءُ، واللَّهُ تَعالى خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ بِحُكْمِ هَذِهِ الآيَةِ، فَوَجَبَ كَوْنُهُ تَعالى خالِقًا لَها؛ واعْلَمْ أنّا (p-١٠٠)أطْنَبْنا الكَلامَ في هَذا الدَّلِيلِ في كِتابِ ”الجَبْرِ والقَدَرِ“، ونَكْتَفِي هاهُنا مِن تِلْكَ الكَلِماتِ بِنُكَتٍ قَلِيلَةٍ، قالَتِ المُعْتَزِلَةُ: هَذا اللَّفْظُ، وإنْ كانَ عامًّا إلّا أنَّهُ حَصَلَ مَعَ هَذِهِ الآيَةِ وُجُوهٌ تَدُلُّ عَلى أنَّ أعْمالَ العِبادِ خارِجَةٌ عَنْ هَذا العُمُومِ:
فَأحَدُهُما: أنَّهُ تَعالى قالَ: ﴿خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فاعْبُدُوهُ﴾ فَلَوْ دَخَلَتْ أعْمالُ العِبادِ تَحْتَ قَوْلِهِ: ﴿خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ لَصارَ تَقْدِيرُ الآيَةِ: أنا خَلَقْتُ أعْمالَكم فافْعَلُوها بِأعْيانِها أنْتُمْ مَرَّةً أُخْرى، ومَعْلُومٌ أنَّ ذَلِكَ فاسِدٌ.
وثانِيها: أنَّهُ تَعالى إنَّما ذَكَرَ قَوْلَهُ: ﴿خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ في مَعْرِضِ المَدْحِ والثَّناءِ عَلى نَفْسِهِ، فَلَوْ دَخَلَ تَحْتَهُ أعْمالُ العِبادِ لَخَرَجَ عَنْ كَوْنِهِ مَدْحًا وثَناءً؛ لِأنَّهُ لا يَلِيقُ بِهِ سُبْحانَهُ أنْ يَتَمَدَّحَ بِخَلْقِ الزِّنا واللِّواطِ والسَّرِقَةِ والكُفْرِ.
وثالِثُها: أنَّهُ تَعالى قالَ بَعْدَ هَذِهِ الآيَةِ: ﴿قَدْ جاءَكم بَصائِرُ مِن رَبِّكم فَمَن أبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ ومَن عَمِيَ فَعَلَيْها﴾ [الأنعام: ١٠٤] وهَذا تَصْرِيحٌ بِكَوْنِ العَبْدِ مُسْتَقِلًّا بِالفِعْلِ والتَّرْكِ، وأنَّهُ لا مانِعَ لَهُ البَتَّةَ مِنَ الفِعْلِ والتَّرْكِ، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّ فِعْلَ العَبْدِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ لِلَّهِ تَعالى، إذْ لَوْ كانَ مَخْلُوقًا لِلَّهِ تَعالى لَما كانَ العَبْدُ مُسْتَقِلًّا بِهِ؛ لِأنَّهُ إذا أوْجَدَهُ اللَّهُ تَعالى امْتَنَعَ مِنهُ الدَّفْعُ، وإذا لَمْ يُوجِدْهُ اللَّهُ تَعالى امْتَنَعَ مِنهُ التَّحْصِيلُ، فَلَمّا دَلَّتْ هَذِهِ الآيَةُ عَلى كَوْنِ العَبْدِ مُسْتَقِلًّا بِالفِعْلِ والتَّرْكِ، وثَبَتَ أنَّ كَوْنَهُ كَذَلِكَ يَمْنَعُ أنْ يُقالَ فِعْلُ العَبْدِ مَخْلُوقٌ لِلَّهِ تَعالى، ثَبَتَ أنَّ ذِكْرَ قَوْلِهِ: ﴿فَمَن أبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ ومَن عَمِيَ فَعَلَيْها﴾ [الأنْعامِ: ١٠٤] يُوجِبُ تَخْصِيصَ ذَلِكَ العُمُومِ.
ورابِعُها: أنَّ هَذِهِ الآيَةَ مَذْكُورَةٌ عَقِيبَ قَوْلِهِ: ﴿وجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الجِنَّ﴾ وقَدْ بَيَّنّا أنَّ المُرادَ مِنهُ رِوايَةُ مَذْهَبِ المَجُوسِ في إثْباتِ إلَهَيْنِ لِلْعالَمِ؛ أحَدُهُما يَفْعَلُ اللَّذّاتِ والخَيْراتِ، والآخَرُ يَفْعَلُ الآلامَ والآفاتِ؛ فَقَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ: ﴿لا إلَهَ إلّا هو خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ يَجِبُ أنْ يَكُونَ مَحْمُولًا عَلى إبْطالِ ذَلِكَ المَذْهَبِ، وذَلِكَ إنَّما يَكُونُ إذا قُلْنا: إنَّهُ تَعالى هو الخالِقُ لِكُلِّ ما في هَذا العالَمِ مِنَ السِّباعِ والحَشَراتِ والأمْراضِ والآلامِ، فَإذا حَمَلْنا قَوْلَهُ: ﴿خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ عَلى هَذا الوَجْهِ لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَهُ أعْمالُ العِبادِ؛ قالُوا: فَثَبَتَ أنَّ هَذِهِ الدَّلائِلَ الأرْبَعَةَ تُوجِبُ خُرُوجَ أعْمالِ العِبادِ عَنْ عُمُومِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ .
والجَوابُ: أنّا نَقُولُ الدَّلِيلُ العَقْلِيُّ القاطِعُ قَدْ ساعَدَ عَلى صِحَّةِ ظاهِرِ هَذِهِ الآيَةِ، وتَقْرِيرُهُ أنَّ الفِعْلَ مَوْقُوفٌ عَلى الدّاعِي، وخالِقُ الدّاعِي هو اللَّهُ تَعالى، ومَجْمُوعُ القُدْرَةِ مَعَ الدّاعِي يُوجِبُ الفِعْلَ، وذَلِكَ يَقْتَضِي كَوْنَهُ تَعالى خالِقًا لِأفْعالِ العِبادِ، وإذا تَأكَّدَ هَذا الظّاهِرُ بِهَذا البُرْهانِ العَقْلِيِّ القاطِعِ زالَتِ الشُّكُوكُ والشُّبُهاتُ.
المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فاعْبُدُوهُ﴾ يَدُلُّ عَلى تَرْتِيبِ الأمْرِ بِالعِبادَةِ عَلى كَوْنِهِ تَعالى خالِقًا لِكُلِّ الأشْياءِ بِفاءِ التَّعْقِيبِ، وتَرْتِيبُ الحُكْمِ عَلى الوَصْفِ بِحَرْفِ الفاءِ مُشْعِرٌ بِالسَّبَبِيَّةِ، فَهَذا يَقْتَضِي أنْ يَكُونَ كَوْنُهُ تَعالى خالِقًا لِلْأشْياءِ هو المُوجِبَ لِكَوْنِهِ مَعْبُودًا عَلى الإطْلاقِ، والإلَهُ هو المُسْتَحِقُّ لِلْمَعْبُودِيَّةِ، فَهَذا يُشْعِرُ بِصِحَّةِ ما يَذْكُرُهُ بَعْضُ أصْحابِنا مِن أنَّ الإلَهَ عِبارَةٌ عَنِ القادِرِ عَلى الخَلْقِ والإبْداعِ والإيجادِ والِاخْتِراعِ.
المَسْألَةُ الخامِسَةُ: احْتَجَّ كَثِيرٌ مِنَ المُعْتَزِلَةِ بِقَوْلِهِ: ﴿خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ عَلى نَفْيِ الصِّفاتِ، وعَلى كَوْنِ القُرْآنِ مَخْلُوقًا، أمّا نَفْيُ الصِّفاتِ فَلِأنَّهم قالُوا: لَوْ كانَ تَعالى عالِمًا بِالعِلْمِ، قادِرًا بِالقُدْرَةِ، لَكانَ ذَلِكَ العِلْمُ والقُدْرَةُ إمّا أنْ يُقالَ: إنَّهُما قَدِيمانِ، أوْ مُحْدَثانِ، والأوَّلُ باطِلٌ؛ لِأنَّ عُمُومَ قَوْلِهِ: ﴿خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ يَقْتَضِي كَوْنَهُ خالِقًا لِكُلِّ الأشْياءِ؛ أدْخَلْنا التَّخْصِيصَ في هَذا العُمُومِ بِحَسَبِ ذاتِهِ تَعالى، ضَرُورَةَ أنَّهُ يَمْتَنِعُ أنْ يَكُونَ خالِقًا لِنَفْسِهِ، فَوَجَبَ أنْ يَبْقى عَلى عُمُومِهِ فِيما سِواهُ، والقَوْلُ بِإثْباتِ الصِّفاتِ القَدِيمَةِ يَقْتَضِي مَزِيدَ التَّخْصِيصِ في (p-١٠١)هَذا العُمُومِ، وأنَّهُ لا يَجُوزُ.
والثّانِي: وهو القَوْلُ بِحُدُوثِ عِلْمِ اللَّهِ وقُدْرَتِهِ، فَهو باطِلٌ بِالإجْماعِ، ولِأنَّهُ يَلْزَمُ افْتِقارُ إيجادِ ذَلِكَ العِلْمِ والقُدْرَةِ إلى سَبْقِ عِلْمٍ آخَرَ وقُدْرَةٍ أُخْرى، وأنَّ ذَلِكَ مُحالٌ، وأمّا تَمَسُّكُهم بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى كَوْنِ القُرْآنِ مَخْلُوقًا، فَقالُوا: القُرْآنُ شَيْءٌ، وكُلُّ شَيْءٍ فَهو مَخْلُوقٌ لِلَّهِ تَعالى بِحُكْمِ هَذا العُمُومِ، فَلَزِمَ كَوْنُ القُرْآنِ مَخْلُوقًا لِلَّهِ تَعالى أقْصى ما في هَذا البابِ أنَّ هَذا العُمُومَ دَخَلَهُ التَّخْصِيصُ في ذاتِ اللَّهِ تَعالى، إلّا أنَّ العامَّ المَخْصُوصَ حُجَّةٌ في غَيْرِ مَحَلِّ التَّخْصِيصِ، ولِذَلِكَ فَإنَّ دُخُولَ هَذا التَّخْصِيصِ في هَذا العُمُومِ لَمْ يَمْنَعْ أهْلَ السُّنَّةِ مِنَ التَّمَسُّكِ بِهِ في إثْباتِ أنَّ أفْعالَ العِبادِ مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ تَعالى.
وجَوابُ أصْحابِنا عَنْهُ: أنّا نُخَصِّصُ هَذا العُمُومَ بِالدَّلائِلِ الدّالَّةِ عَلى كَوْنِهِ تَعالى عالِمًا بِالعِلْمِ، قادِرًا بِالقُدْرَةِ، وبِالدَّلائِلِ الدّالَّةِ عَلى أنَّ كَلامَ اللَّهِ تَعالى قَدِيمٌ.
* * *
المَسْألَةُ السّادِسَةُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وكِيلٌ﴾ المُرادُ مِنهُ أنْ يَحْصُلَ لِلْعَبْدِ كَمالُ التَّوْحِيدِ وتَقْرِيرُهُ، وهو أنَّ العَبْدَ وإنْ كانَ يَعْتَقِدُ أنَّهُ لا إلَهَ إلّا هو، وأنَّهُ لا مُدَبِّرَ إلّا اللَّهُ تَعالى، إلّا أنَّ هَذا العالَمَ عالَمُ الأسْبابِ.
وسَمِعْتُ الشَّيْخَ الإمامَ الزّاهِدَ الوالِدَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ: لَوْلا الأسْبابُ لَما ارْتابَ مُرْتابٌ، وإذا كانَ الأمْرُ كَذَلِكَ فَقَدْ يُعَلِّقُ الرَّجُلُ القَلْبَ بِالأسْبابِ الظّاهِرَةِ، فَتارَةً يَعْتَمِدُ عَلى الأمِيرِ، وتارَةً يَرْجِعُ في تَحْصِيلِ مُهِمّاتِهِ إلى الوَزِيرِ، فَحِينَئِذٍ لا يَنالُ إلّا الحِرْمانَ ولا يَجِدُ إلّا تَكْثِيرَ الأحْزانِ، والحَقُّ تَعالى قالَ: ﴿وهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وكِيلٌ﴾ والمَقْصُودُ أنْ يَعْلَمَ الرَّجُلُ أنَّهُ لا حافِظَ إلّا اللَّهُ، ولا مُصْلِحَ لِلْمُهِمّاتِ إلّا اللَّهُ، فَحِينَئِذٍ يَنْقَطِعُ طَمَعُهُ عَنْ كُلِّ ما سِواهُ، ولا يَرْجِعُ في مُهِمٍّ مِنَ المُهِمّاتِ إلّا إلَيْهِ.
المَسْألَةُ السّابِعَةُ: أنَّهُ قالَ قَبْلَ هَذِهِ الآيَةِ بِقَلِيلٍ: ﴿وخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ وقالَ هاهُنا: ﴿خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾، وهَذا كالتَّكْرارِ.
والجَوابُ مِن وُجُوهٍ:
الأوَّلُ: أنَّ قَوْلَهُ: ﴿وخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ إشارَةٌ إلى الماضِي، أمّا قَوْلُهُ: ﴿خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ فَهو اسْمُ الفاعِلِ، وهو يَتَناوَلُ الأوْقاتَ كُلَّها.
والثّانِي: وهو التَّحْقِيقُ أنَّهُ تَعالى ذَكَرَ هُناكَ قَوْلَهُ: ﴿وخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ لِيَجْعَلَهُ مُقَدِّمَةً في بَيانِ نَفْيِ الأوْلادِ، وهاهُنا ذَكَرَ قَوْلَهُ: ﴿خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ لِيَجْعَلَهُ مُقَدِّمَةً في بَيانِ أنَّهُ لا مَعْبُودَ إلّا هو، والحاصِلُ أنَّ هَذِهِ المُقَدِّمَةَ مُقَدِّمَةٌ تُوجِبُ أحْكامًا كَثِيرَةً ونَتائِجَ مُخْتَلِفَةً، فَهو تَعالى يَذْكُرُها مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، لِيُفَرِّعَ عَلَيْها في كُلِّ مَوْضِعٍ ما يَلِيقُ بِها مِنَ النَّتِيجَةِ.
المَسْألَةُ الثّامِنَةُ: لِقائِلٍ أنْ يَقُولَ: الإلَهُ هو الَّذِي يَسْتَحِقُّ أنْ يَكُونَ مَعْبُودًا، فَقَوْلُهُ: ﴿لا إلَهَ إلّا هُوَ﴾ مَعْناهُ لا يَسْتَحِقُّ العِبادَةَ إلّا هو، فَما الفائِدَةُ في قَوْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ (فاعْبُدُوهُ) فَإنَّ هَذا يُوهِمُ التَّكْرِيرَ.
والجَوابُ: قَوْلُهُ: ﴿لا إلَهَ إلّا هُوَ﴾ أيْ لا يَسْتَحِقُّ العِبادَةَ إلّا هو، وقَوْلُهُ: (فاعْبُدُوهُ) أيْ لا تَعْبُدُوا غَيْرَهُ.
المَسْألَةُ التّاسِعَةُ: القَوْمُ كانُوا مُعْتَرِفِينَ بِوُجُودِ اللَّهِ تَعالى كَما قالَ: ﴿ولَئِنْ سَألْتَهم مَن خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ [لقمان: ٢٥] وما أطْلَقُوا لَفْظَ اللَّهِ عَلى أحَدٍ سِوى اللَّهِ سُبْحانَهُ، كَما قالَ تَعالى: ﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا﴾ [مريم: ٦٥] فَقالَ: ﴿ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ﴾ أيِ الشَّيْءُ المَوْصُوفُ بِالصِّفاتِ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُها هو اللَّهُ تَعالى، ثُمَّ قالَ بَعْدَهُ: (رَبُّكم) يَعْنِي الَّذِي يُرَبِّكم ويُحْسِنُ إلَيْكم بِأصْنافِ التَّرْبِيَةِ ووُجُوهِ الإحْسانِ، وهي أقْسامٌ (p-١٠٢)بَلَغَتْ في الكَثْرَةِ إلى حَيْثُ يَعْجِزُ العَقْلُ عَنْ ضَبْطِها، كَما قالَ: ﴿وإنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها﴾ [إبراهيم: ٣٤] .
* * *
ثُمَّ قالَ: ﴿لا إلَهَ إلّا هُوَ﴾ يَعْنِي أنَّكم لَمّا عَرَفْتُمْ وُجُودَ الإلَهِ المُحْسِنِ المُتَفَضِّلِ المُتَكَرِّمِ فاعْلَمُوا أنَّهُ لا إلَهَ سِواهُ ولا مَعْبُودَ سِواهُ.
* * *
ثُمَّ قالَ: ﴿خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ يَعْنِي إنَّما صَحَّ قَوْلُنا: لا إلَهَ سِواهُ؛ لِأنَّهُ لا خالِقَ لِلْخَلْقِ سِواهُ، ولا مُدَبِّرَ لِلْعالَمِ إلّا هو، فَهَذا التَّرْتِيبُ تَرْتِيبٌ مُناسِبٌ مُفِيدٌ.
{"ayah":"ذَ ٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمۡۖ لَاۤ إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَۖ خَـٰلِقُ كُلِّ شَیۡءࣲ فَٱعۡبُدُوهُۚ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءࣲ وَكِیلࣱ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق