الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ما قَطَعْتُمْ مِن لِينَةٍ أوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإذْنِ اللَّهِ ولِيُخْزِيَ الفاسِقِينَ﴾ فِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأوْلى: ﴿مِن لِينَةٍ﴾ بَيانٌ لِما قَطَعْتُمْ، ومَحَلُّ ”ما“ نُصِبَ بِـ”قَطَعْتُمْ“، كَأنَّهُ قالَ: أيُّ شَيْءٍ قَطَعْتُمْ، وأنَّثَ الضَّمِيرَ الرّاجِعَ إلى ”ما“ في قَوْلِهِ: ﴿أوْ تَرَكْتُمُوها﴾ لِأنَّهُ في مَعْنى اللِّينَةِ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قالَ أبُو عُبَيْدَةَ: اللِّينَةُ: النَّخْلَةُ ما لَمْ تَكُنْ عَجْوَةً أوْ بَرْنِيَّةً، وأصْلُ لِينَةٍ لِوْنَةٌ، فَذَهَبَتِ الواوُ لِكَسْرَةِ اللّامِ، وجَمْعُها ألْوانٌ، وهي النَّخْلُ كُلُّهُ سِوى البَرْنِيِّ والعَجْوَةِ، وقالَ بَعْضُهم: اللِّينَةُ النَّخْلَةُ الكَرِيمَةُ، كَأنَّهُمُ اشْتَقُّوها مِنَ اللِّينِ، وجَمْعُها لِينٌ، فَإنْ قِيلَ: لِمَ خُصَّتِ اللِّينَةُ بِالقَطْعِ ؟ قُلْنا: إنْ كانَتْ مِنَ الألْوانِ فَلْيَسْتَبْقُوا لِأنْفُسِهِمُ العَجْوَةَ والبَرْنِيَّةَ، وإنْ كانَتْ مِن كِرامِ النَّخْلِ فَلِيَكُونَ غَيْظُ اليَهُودِ أشَدَّ. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: قالَ صاحِبُ الكَشّافِ: قُرِئَ ”قَوْمًا عَلى أُصُلِها“ وفِيهِ وجْهانِ: أحَدُهُما: أنَّهُ جَمْعُ أصْلٍ؛ كَرَهْنٍ ورُهُنٍ، واكْتُفِيَ فِيهِ بِالضَّمَّةِ عَنِ الواوِ، وقُرِئَ ”قائِمًا عَلى أُصُولِهِ“، ذَهابًا إلى لَفْظِ ”ما“، وقَوْلُهُ: ﴿فَبِإذْنِ اللَّهِ﴾ أيْ: قَطْعُها بِإذْنِ اللَّهِ وبِأمْرِهِ ﴿ولِيُخْزِيَ الفاسِقِينَ﴾ أيْ: ولِأجْلِ إخْزاءِ الفاسِقِينَ، أيِ اليَهُودِ، أذِنَ اللَّهُ في قَطْعِها. المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: رُوِيَ أنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ حِينَ أمَرَ أنْ يُقْطَعَ نَخْلُهم ويُحْرَقُ، قالُوا: يا مُحَمَّدُ قَدْ كُنْتَ تَنْهى عَنِ الفَسادِ في الأرْضِ فَما بالُ قَطْعِ النَّخْلِ وتَحْرِيقِها ؟ وكانَ في أنْفُسِ المُؤْمِنِينَ مِن ذَلِكَ شَيْءٌ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ، والمَعْنى: أنَّ اللَّهَ إنَّما أذِنَ في ذَلِكَ حَتّى يَزْدادَ غَيْظُ الكُفّارِ، وتَتَضاعَفَ حَسْرَتُهم بِسَبَبِ نَفاذِ (p-٢٤٧)حُكْمِ أعْدائِهِمْ في أعَزِّ أمْوالِهِمْ. المَسْألَةُ الخامِسَةُ: احْتَجَّ العُلَماءُ بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى أنَّ حُصُونَ الكَفَرَةِ ودِيارَهم لا بَأْسَ أنْ تُهْدَمَ وتُحْرَقَ وتُغْرَقَ وتُرْمى بِالمَجانِيقِ، وكَذَلِكَ أشْجارُهم لا بَأْسَ بِقَلْعِها مُثْمِرَةً كانَتْ أوْ غَيْرَ مُثْمِرَةٍ، وعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: قَطَعُوا مِنها ما كانَ مَوْضِعًا لِلْقِتالِ. المَسْألَةُ السّادِسَةُ: رُوِيَ أنَّ رَجُلَيْنِ كانا يَقْطَعانِ، أحَدُهُما العَجْوَةَ والآخَرُ اللَّوْنَ، فَسَألَهُما رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فَقالَ هَذا: تَرَكْتُها لِرَسُولِ اللَّهِ، وقالَ هَذا: قَطَعْتُها غَيْظًا لِلْكَفّارِ، فاسْتَدَلُّوا بِهِ عَلى جَوازِ الِاجْتِهادِ، وعَلى جَوازِهِ بِحَضْرَةِ الرَّسُولِ. قَوْلُهُ تَعالى ﴿وما أفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنهم فَما أوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِن خَيْلٍ ولا رِكابٍ ولَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَن يَشاءُ واللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ قالَ المُبَرِّدُ: يُقالُ: فاءَ يَفِيءُ، إذا رَجَعَ، وأفاءَهُ اللَّهُ إذا رَدَّهُ، وقالَ الأزْهَرِيُّ: الفَيْءُ ما رَدَّهُ اللَّهُ عَلى أهْلِ دِينِهِ مِن أمْوالِ مَن خالَفَ أهْلَ دِينِهِ بِلا قِتالٍ، إمّا بِأنْ يُجْلَوْا عَنْ أوْطانِهِمْ ويُخَلُّوها لِلْمُسْلِمِينَ، أوْ يُصالَحُوا عَلى جِزْيَةٍ يُؤَدُّونَها عَنْ رُءُوسِهِمْ، أوْ مالٍ غَيْرِ الجِزْيَةِ يَفْتَدُونَ بِهِ مِن سَفْكِ دِمائِهِمْ، كَما فَعَلَهُ بَنُو النَّضِيرِ حِينَ صالَحُوا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَلى أنَّ لِكُلِّ ثَلاثَةٍ مِنهم حِمْلَ بِعِيرٍ مِمّا شاءُوا سِوى السِّلاحِ، ويَتْرُكُوا الباقِيَ، فَهَذا المالُ هو الفَيْءُ، وهو ما أفاءَ اللَّهُ عَلى المُسْلِمِينَ، أيْ رَدَّهُ مِنَ الكُفّارِ إلى المُسْلِمِينَ، وقَوْلُهُ: ﴿مِنهُمْ﴾ أيْ مِن يَهُودِ بَنِي النَّضِيرِ. وقَوْلُهُ: ﴿فَما أوْجَفْتُمْ﴾ يُقالُ: وجَفَ الفَرَسُ والبَعِيرُ يَجِفُ وجْفًا ووَجِيفًا، وهو سُرْعَةُ السَّيْرِ، وأوْجَفَهُ صاحِبُهُ إذا حَمَلَهُ عَلى السَّيْرِ السَّرِيعِ. وقَوْلُهُ: ﴿عَلَيْهِ﴾ أيْ عَلى ما أفاءَ اللَّهُ. وقَوْلُهُ: ﴿مِن خَيْلٍ ولا رِكابٍ﴾ الرِّكابُ ما يُرْكَبُ مِنَ الإبِلِ، واحِدَتُها راحِلَةٌ، ولا واحِدَ لَها مِن لَفْظِها، والعَرَبُ لا يُطْلِقُونَ لَفْظَ الرّاكِبِ إلّا عَلى راكِبِ البَعِيرِ، ويُسَمُّونَ راكِبَ الفَرَسِ فارِسًا. ومَعْنى الآيَةِ أنَّ الصَّحابَةَ طَلَبُوا مِنَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ أنْ يُقَسِّمَ الفَيْءَ بَيْنَهم كَما قَسَّمَ الغَنِيمَةَ بَيْنَهم، فَذَكَرَ اللَّهُ الفَرْقَ بَيْنَ الأمْرَيْنِ، وهو أنَّ الغَنِيمَةَ ما أتْعَبْتُمْ أنْفُسَكم في تَحْصِيلِها وأوْجَفْتُمْ عَلَيْها الخَيْلَ والرِّكابَ، بِخِلافِ الفَيْءِ فَإنَّكم ما تَحَمَّلْتُمْ في تَحْصِيلِهِ تَعَبًا، فَكانَ الأمْرُ فِيهِ مُفَوَّضًا إلى الرَّسُولِ يَضَعُهُ حَيْثُ يَشاءُ. ثُمَّ هَهُنا سُؤالٌ: وهو أنَّ أمْوالَ بَنِي النَّضِيرِ أُخِذَتْ بَعْدَ القِتالِ لِأنَّهم حُوصِرُوا أيّامًا، وقاتَلُوا وقُتِلُوا ثُمَّ صالَحُوا عَلى الجَلاءِ. فَوَجَبَ أنْ تَكُونَ تِلْكَ الأمْوالُ مِن جُمْلَةِ الغَنِيمَةِ لا مِن جُمْلَةِ الفَيْءِ، ولِأجْلِ هَذا السُّؤالِ ذَكَرَ المُفَسِّرُونَ هَهُنا وجْهَيْنِ: الأوَّلُ: أنَّ هَذِهِ الآيَةَ ما نَزَلَتْ في قُرى بَنِي النَّضِيرِ؛ لِأنَّهم أوْجَفُوا عَلَيْهِمْ بِالخَيْلِ والرِّكابِ، وحاصَرَهم رَسُولُ اللَّهِ ﷺ والمُسْلِمُونَ، بَلْ هو فِيفَدَكَ، وذَلِكَ لِأنَّ أهْلَ فَدَكَ انْجَلَوْا عَنْهُ فَصارَتْ تِلْكَ القُرى والأمْوالُ في يَدِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلامُ مِن غَيْرِ حَرْبٍ، فَكانَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ يَأْخُذُ مِن غَلَّةِ فَدَكَ نَفَقَتَهُ ونَفَقَةَ مَن يَعُولُهُ، ويَجْعَلُ الباقِيَ في السِّلاحِ والكُراعِ، فَلَمّا ماتَ ادَّعَتْ فاطِمَةُ عَلَيْها السَّلامُ أنَّهُ كانَ يَنْحَلُها فَدَكَ، فَقالَ أبُو بَكْرٍ: أنْتِ أعَزُّ النّاسِ عَلَيَّ فَقْرًا، وأحَبُّهم إلَيَّ غِنًى، لَكِنِّي لا أعْرِفُ صِحَّةَ قَوْلِكِ، ولا يَجُوزُ أنْ أحْكُمَ بِذَلِكَ، فَشَهِدَ لَها أمُّ أيْمَنَ ومَوْلًى لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلامُ، فَطَلَبَ مِنها أبُو بَكْرٍ الشّاهِدَ الَّذِي يَجُوزُ قَبُولُ شَهادَتُهُ في الشَّرْعِ فَلَمْ يَكُنْ، فَأجْرى أبُو بَكْرٍ ذَلِكَ عَلى ما كانَ يُجْرِيهِ الرَّسُولُ ﷺ، يُنْفِقُ مِنهُ عَلى مَن كانَ يُنْفِقُ عَلَيْهِ الرَّسُولُ، ويَجْعَلُ ما يَبْقى في السِّلاحِ والكُراعِ، وكَذَلِكَ عُمَرُ جَعَلَهُ في يَدِ عَلِيٍّ لِيُجْرِيَهُ عَلى هَذا المَجْرى، ورَدَّ ذَلِكَ في آخِرِ عَهْدِ عُمَرَ إلى عُمَرَ، وقالَ: إنَّ بِنا غِنًى، وبِالمُسْلِمِينَ حاجَةٌ إلَيْهِ، وكانَ عُثْمانُ (p-٢٤٨)رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُجْرِيهِ كَذَلِكَ، ثُمَّ صارَ إلى عَلِيٍّ فَكانَ يُجْرِيهِ هَذا المَجْرى، فالأئِمَّةُ الأرْبَعَةُ اتَّفَقُوا عَلى ذَلِكَ. والقَوْلُ الثّانِي: إنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ في بَنِي النَّضِيرِ وقُراهم، ولَيْسَ لِلْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ كَثِيرُ خَيْلٍ ولا رِكابٍ، ولَمْ يَقْطَعُوا إلَيْها مَسافَةً كَثِيرَةً، وإنَّما كانُوا عَلى مِيلَيْنِ مِنَ المَدِينَةِ فَمَشَوْا إلَيْها مَشْيًا، ولَمْ يَرْكَبْ إلّا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وكانَ راكِبَ جَمَلٍ، فَلَمّا كانَتِ المُقاتَلَةُ قَلِيلَةً والخَيْلُ والرَّكْبُ غَيْرَ حاصِلٍ، أجْراهُ اللَّهُ تَعالى مَجْرى ما لَمْ يَحْصُلْ فِيهِ المُقاتَلَةُ أصْلًا، فَخَصَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِتِلْكَ الأمْوالِ، ثُمَّ رُوِيَ أنَّهُ قَسَّمَها بَيْنَ المُهاجِرِينَ، ولَمْ يُعْطِ الأنْصارَ مِنها شَيْئًا إلّا ثَلاثَةَ نَفَرٍ كانَتْ بِهِمْ حاجَةٌ، وهم: أبُو دُجانَةَ، وسَهْلُ بْنُ حَنِيفٍ، والحارِثُ بْنُ الصِّمَّةِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب