الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أأشْفَقْتُمْ أنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكم صَدَقاتٍ فَإذْ لَمْ تَفْعَلُوا وتابَ اللَّهُ عَلَيْكم فَأقِيمُوا الصَّلاةَ وآتُوا الزَّكاةَ وأطِيعُوا اللَّهَ ورَسُولَهُ واللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ﴾ . والمَعْنى: أخِفْتُمْ تَقْدِيمَ الصَّدَقاتِ لِما فِيهِ مِن إنْفاقِ المالِ، فَإذْ لَمْ تَفْعَلُوا ما أُمِرْتُمْ بِهِ وتابَ اللَّهُ عَلَيْكم ورَخَّصَ لَكم في أنْ لا تَفْعَلُوهُ، فَلا تُفَرِّطُوا في الصَّلاةِ والزَّكاةِ وسائِرِ الطّاعاتِ. فَإنْ قِيلَ: ظاهِرُ الآيَةِ يَدُلُّ عَلى تَقْصِيرِ المُؤْمِنِينَ في ذَلِكَ التَّكْلِيفِ، وبَيانُهُ مِن وُجُوهٍ: أوَّلُها: قَوْلُهُ: ﴿أأشْفَقْتُمْ أنْ تُقَدِّمُوا﴾ وهو يَدُلُّ عَلى تَقْصِيرِهِمْ. وثانِيها: قَوْلُهُ: ﴿فَإذْ لَمْ تَفْعَلُوا﴾ . وثالِثُها: قَوْلُهُ: ﴿وتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ﴾ قُلْنا: لَيْسَ الأمْرُ كَما قُلْتُمْ، وذَلِكَ لِأنَّ القَوْمَ لَمّا كُلِّفُوا بِأنْ يُقَدِّمُوا الصَّدَقَةَ ويُشْغَلُوا بِالمُناجاةِ، فَلا بُدَّ مِن تَقْدِيمِ الصَّدَقَةِ، فَمَن تَرَكَ (p-٢٣٨)المُناجاةَ يَكُونُ مُقَصِّرًا، وأمّا لَوْ قِيلَ بِأنَّهم ناجَوْا مِن غَيْرِ تَقْدِيمِ الصَّدَقَةِ، فَهَذا أيْضًا غَيْرُ جائِزٍ؛ لَأنَّ المُناجاةَ لا تُمْكِنُ إلّا إذا مَكَّنَ الرَّسُولُ مِنَ المُناجاةِ، فَإذا لَمْ يُمَكِّنْهم مِن ذَلِكَ لَمْ يَقْدِرُوا عَلى المُناجاةِ، فَعَلِمْنا أنَّ الآيَةَ لا تَدُلُّ عَلى صُدُورِ التَّقْصِيرِ مِنهم، فَأمّا قَوْلُهُ: ﴿أأشْفَقْتُمْ﴾ فَلا يَمْتَنِعُ أنَّ اللَّهَ تَعالى عَلِمَ ضِيقَ صَدْرِ كَثِيرٍ مِنهم عَنْ إعْطاءِ الصَّدَقَةِ في المُسْتَقْبَلِ لَوْ دامَ الوُجُوبُ، فَقالَ هَذا القَوْلَ، وأمّا قَوْلُهُ: ﴿وتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ﴾ فَلَيْسَ في الآيَةِ أنَّهُ تابَ عَلَيْكم مِن هَذا التَّقْصِيرِ، بَلْ يَحْتَمِلُ أنَّكم إذا كُنْتُمْ تائِبِينَ راجِعِينَ إلى اللَّهِ، وأقَمْتُمُ الصَّلاةَ وآتَيْتُمُ الزَّكاةَ، فَقَدْ كَفاكم هَذا التَّكْلِيفَ، أمّا قَوْلُهُ: ﴿واللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ﴾ يَعْنِي مُحِيطٌ بِأعْمالِكم ونِيّاتِكم. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ألَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ما هم مِنكم ولا مِنهم ويَحْلِفُونَ عَلى الكَذِبِ وهم يَعْلَمُونَ﴾ كانَ المُنافِقُونَ يَتَوَلَّوْنَ اليَهُودَ وهُمُ الَّذِينَ غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ في قَوْلِهِ: ﴿مَن لَعَنَهُ اللَّهُ وغَضِبَ عَلَيْهِ﴾ ويَنْقُلُونَ إلَيْهِمْ أسْرارَ المُؤْمِنِينَ: ﴿ما هم مِنكُمْ﴾ أيُّها المُسْلِمُونَ ولا مِنَ اليَهُودِ ﴿ويَحْلِفُونَ عَلى الكَذِبِ﴾ والمُرادُ مِن هَذا الكَذِبِ إمّا ادِّعاؤُهم كَوْنَهم مُسْلِمِينَ، وإمّا أنَّهم كانُوا يَشْتُمُونَ اللَّهَ ورَسُولَهُ ويَكِيدُونَ المُسْلِمِينَ، فَإذا قِيلَ لَهم: إنَّكم فَعَلْتُمْ ذَلِكَ، خافُوا عَلى أنْفُسِهِمْ مِنَ القَتْلِ، فَيَحْلِفُونَ أنّا ما قُلْنا ذَلِكَ وما فَعَلْناهُ، فَهَذا هو الكَذِبُ الَّذِي يَحْلِفُونَ عَلَيْهِ. واعْلَمْ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ تَدُلُّ عَلى فَسادِ قَوْلِ الجاحِظِ: إنَّ الخَبَرَ الَّذِي يَكُونُ مُخالِفًا لِلْمُخْبَرِ عَنْهُ إنَّما يَكُونُ كَذِبًا لَوْ عَلِمَ المُخْبِرُ كَوْنَ الخَبَرِ مُخالِفًا لِلْمُخْبَرِ عَنْهُ؛ وذَلِكَ لَأنَّ لَوْ كانَ الأمْرُ عَلى ما ذَهَبَ إلَيْهِ لَكانَ قَوْلُهُ: ﴿وهم يَعْلَمُونَ﴾ تَكْرارًا غَيْرَ مُقَيَّدٍ، يُرْوى أنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ نَبْتَلٍ المُنافِقَ كانَ يُجالِسُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ ثُمَّ يَرْفَعُ حَدِيثَهُ إلى اليَهُودِ، فَبَيْنا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ في حُجْرَتِهِ إذْ قالَ: يَدْخُلُ عَلَيْكم رَجُلٌ يَنْظُرُ بِعَيْنِ شَيْطانٍ - أوْ بِعَيْنَيْ شَيْطانٍ - فَدَخَلَ رَجُلٌ عَيْناهُ زَرْقاوانِ فَقالَ لَهُ: لِمَ تَسُبَّنِي ؟ فَجَعَلَ يَحْلِفُ. فَنَزَلَ قَوْلُهُ: ﴿ويَحْلِفُونَ عَلى الكَذِبِ وهم يَعْلَمُونَ﴾ .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب