الباحث القرآني
ثُمَّ قالَ تَعالى ﴿ولَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئًا إلّا بِإذْنِ اللَّهِ﴾ وفِيهِ وجْهانِ:
أحَدُهُما: لَيْسَ يَضُرُّ التَّناجِي بِالمُؤْمِنِينَ شَيْئًا.
والثّانِي: الشَّيْطانُ لَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئًا إلّا بِإذْنِ اللَّهِ، وقَوْلُهُ: ﴿إلّا بِإذْنِ اللَّهِ﴾ فَقِيلَ: بِعِلْمِهِ، وقِيلَ: بِخَلْقِهِ وتَقْدِيرِهِ لِلْأمْراضِ وأحْوالِ القَلْبِ مِنَ الحُزْنِ والفَرَحِ، وقِيلَ: بِأنْ يُبَيِّنَ كَيْفِيَّةَ مُناجاةِ الكُفّارِ حَتّى يَزُولَ الغَمُّ.
* * *
ثُمَّ قالَ: ﴿وعَلى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ﴾ فَإنَّ مَن تَوَكَّلَ عَلَيْهِ لا يَخِيبُ أمَلُهُ ولا يَبْطُلُ سَعْيُهُ.
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إذا قِيلَ لَكم تَفَسَّحُوا في المَجالِسِ فافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ﴾ وفِيهِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا نَهى عِبادَهُ المُؤْمِنِينَ عَمّا يَكُونُ سَبَبًا لِلتَّباغُضِ والتَّنافُرِ، أمَرَهُمُ الآنَ بِما يَصِيرُ سَبَبًا لِزِيادَةِ المَحَبَّةِ والمَوَدَّةِ. وقَوْلُهُ: ﴿تَفَسَّحُوا في المَجالِسِ﴾ تَوَسَّعُوا فِيهِ، ولْيُفْسِحْ بَعْضُكم عَنْ بَعْضٍ، مِن قَوْلِهِمُ: افْسَحْ عَنِّي، أيْ تَنَحَّ، ولا تَتَضامُّوا، يُقالُ: بَلْدَةٌ فَسِيحَةٌ، ومَفازَةٌ فَسِيحَةٌ، ولَكَ فِيهِ فُسْحَةٌ، أيْ سِعَةٌ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قَرَأ الحَسَنُ وداوُدُ بْنُ أبِي هِنْدٍ: تَفاسَحُوا، قالَ ابْنُ جِنِّي: هَذا لائِقٌ بِالغَرَضِ؛ لِأنَّهُ إذا قِيلَ: تَفَسَّحُوا، فَمَعْناهُ لِيَكُنْ هُناكَ تَفَسُّحٌ، وأمّا التَّفاسُحُ فَتَفاعُلٌ، والمُرادُ هَهُنا المُفاعَلَةُ، فَإنَّها تَكُونُ لِما فَوْقَ الواحِدِ كالمُقاسَمَةِ والمُكايَلَةِ. وقُرِئَ ”في المَجْلِسِ“ قالَ الواحِدِيُّ: والوَجْهُ التَّوْحِيدُ؛ لِأنَّ المُرادَ مَجْلِسُ النَّبِيِّ ﷺ وهو واحِدٌ، ووَجْهُ الجَمْعِ أنْ يُجْعَلَ لِكُلِّ جالِسٍ مَجْلِسٌ عَلى حِدَةٍ، أيْ مَوْضِعُ جُلُوسٍ.
(p-٢٣٤)المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: ذَكَرُوا في الآيَةِ أقْوالًا:
الأوَّلُ: أنَّ المُرادَ مَجْلِسُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ كانُوا يَتَضامُّونَ فِيهِ تَنافُسًا عَلى القُرْبِ مِنهُ، وحِرْصًا عَلى اسْتِماعِ كَلامِهِ، وعَلى هَذا القَوْلِ ذَكَرُوا في سَبَبِ النُّزُولِ وُجُوهًا:
الأوَّلُ: قالَ مُقاتِلُ بْنُ حَيّانَ: «كانَ عَلَيْهِ السَّلامُ يَوْمَ الجُمُعَةِ في الصُّفَّةِ، وفي المَكانِ ضِيقٌ، وكانَ يُكْرِمُ أهْلَ بَدْرٍ مِنَ المُهاجِرِينَ والأنْصارِ، فَجاءَ ناسٌ مِن أهْلِ بَدْرٍ، وقَدْ سَبَقُوا إلى المَجْلِسِ، فَقامُوا حِيالَ النَّبِيِّ ﷺ يَنْتَظِرُونَ أنْ يُوَسَّعَ لَهم، فَعَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ما يَحْمِلُهم عَلى القِيامِ، وشَقَّ ذَلِكَ عَلى الرَّسُولِ، فَقالَ لِمَن حَوْلَهُ مِن غَيْرِ أهْلِ بَدْرٍ: قُمْ يا فُلانُ، ثُمَّ يا فُلانُ، فَلَمْ يَزَلْ يُقِيمُ بِعِدَّةِ النَّفَرِ الَّذِينَ هم قِيامٌ بَيْنَ يَدَيْهِ، وشَقَّ ذَلِكَ عَلى مَن أُقِيمَ مِن مَجْلِسِهِ، وعُرِفَتِ الكَراهِيَةُ في وُجُوهِهِمْ، وطَعَنَ المُنافِقُونَ في ذَلِكَ، وقالُوا: واللَّهِ ما عَدَلَ عَلى هَؤُلاءِ، إنَّ قَوْمًا أخَذُوا مَجالِسَهم، وأحَبُّوا القُرْبَ مِنهُ فَأقامَهم وأجْلَسَ مَن أبْطَأ عَنْهُ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ يَوْمَ الجُمُعَةِ» .
الثّانِي: رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ قالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ في ثابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ الشَّمّاسِ، وذَلِكَ أنَّهُ دَخَلَ المَسْجِدَ وقَدْ أخَذَ القَوْمُ مَجالِسَهم، وكانَ يُرِيدُ القُرْبَ مِنَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ لِلْوَقْرِ الَّذِي كانَ في أُذُنَيْهِ، فَوَسَّعُوا لَهُ حَتّى قَرَّبَ، ثُمَّ ضايَقَهُ بَعْضُهم وجَرى بَيْنَهُ وبَيْنَهُ كَلامٌ، ووَصَفَ لِلرَّسُولِ مَحَبَّةَ القُرْبِ مِنهُ لِيَسْمَعَ كَلامَهُ، وإنَّ فُلانًا لَمْ يُفْسِحْ لَهُ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ، وأُمِرَ القَوْمُ بِأنْ يُوَسِّعُوا ولا يَقُومَ أحَدٌ لِأحَدٍ.
الثّالِثُ: أنَّهم كانُوا يُحِبُّونَ القُرْبَ مِن رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وكانَ الرَّجُلُ مِنهم يَكْرَهُ أنْ يُضَيَّقَ عَلَيْهِ، فَرُبَّما سَألَهُ أخُوهُ أنْ يُفْسِحَ لَهُ فَيَأْبى، فَأمَرَهُمُ اللَّهُ تَعالى بِأنْ يَتَعاطَفُوا ويَتَحَمَّلُوا المَكْرُوهَ، وكانَ فِيهِمْ مَن يَكْرَهُ أنْ يَمَسَّهُ الفُقَراءُ، وكانَ أهْلُ الصُّفَّةِ يَلْبَسُونَ الصُّوفَ ولَهم رَوائِحُ.
القَوْلُ الثّانِي: وهو اخْتِيارُ الحَسَنِ أنَّ المُرادَ تَفَسَّحُوا في مَجالِسِ القِتالِ؛ وهو كَقَوْلِهِ: ﴿مَقاعِدَ لِلْقِتالِ﴾ [آل عمران: ١٢١] وكانَ الرَّجُلُ يَأْتِي الصَّفَّ فَيَقُولُ: تَفَسَّحُوا، فَيَأْبَوْنَ لِحِرْصِهِمْ عَلى الشَّهادَةِ.
والقَوْلُ الثّالِثُ: أنَّ المُرادَ جَمِيعُ المَجالِسِ والمَجامِعِ، قالَ القاضِي: والأقْرَبُ أنَّ المُرادَ مِنهُ مَجْلِسُ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلامُ؛ لِأنَّهُ تَعالى ذَكَرَ المَجْلِسَ عَلى وجْهٍ يَقْتَضِي كَوْنَهُ مَعْهُودًا، والمَعْهُودُ في زَمانِ نُزُولِ الآيَةِ لَيْسَ إلّا مَجْلِسُ الرَّسُولِ -ﷺ -الَّذِي يَعْظُمُ التَّنافُسُ عَلَيْهِ، ومَعْلُومٌ أنَّ لِلْقُرْبِ مِنهُ مَزِيَّةٌ عَظِيمَةٌ لِما فِيهِ مِن سَماعِ حَدِيثِهِ، ولِما فِيهِ مِنَ المَنزِلَةِ، ولِذَلِكَ قالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: «لِيَلِيَنِي مِنكم أُولُو الأحْلامِ والنُّهى» ولِذَلِكَ كانَ يُقَدِّمُ الأفاضِلَ مِن أصْحابِهِ، وكانُوا لِكَثْرَتِهِمْ يَتَضايَقُونَ، فَأُمِرُوا بِالتَّفَسُّحِ إذا أمْكَنَ، لِأنَّ ذَلِكَ أدْخَلُ في التَّحَبُّبِ، وفي الِاشْتِراكِ في سَماعِ ما لا بُدَّ مِنهُ في الدِّينِ، وإذا صَحَّ ذَلِكَ في مَجْلِسِهِ، فَحالَ الجِهادُ يَنْبَغِي أنْ يَكُونَ مِثْلَهُ، بَلْ رُبَّما كانَ أوْلى، لِأنَّ الشَّدِيدَ البَأْسِ قَدْ يَكُونُ مُتَأخِّرًا عَنِ الصَّفِّ الأوَّلِ، والحاجَةُ إلى تَقَدُّمِهِ ماسَّةٌ فَلا بُدَّ مِنَ التَّفَسُّحِ، ثُمَّ يُقاسُ عَلى هَذا سائِرُ مَجالِسِ العِلْمِ والذِّكْرِ.
أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ﴾ فَهو مُطْلَقٌ في كُلِّ ما يَطْلُبُ النّاسُ الفُسْحَةَ فِيهِ مِنَ المَكانِ والرِّزْقِ والصَّدْرِ والقَبْرِ والجَنَّةِ.
واعْلَمْ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ دَلَّتْ عَلى أنَّ كُلَّ مَن وسَّعَ عَلى عِبادِ اللَّهِ أبْوابَ الخَيْرِ والرّاحَةِ وسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ خَيْراتِ الدُّنْيا والآخِرَةِ، ولا يَنْبَغِي لِلْعاقِلِ أنْ يُقَيِّدَ الآيَةَ بِالتَّفَسُّحِ في المَجْلِسِ، بَلِ المُرادُ مِنهُ إيصالُ الخَيْرِ إلى المُسْلِمِ، وإدْخالُ السُّرُورِ في قَلْبِهِ؛ ولِذَلِكَ قالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: «لا يَزالُ اللَّهُ في عَوْنِ العَبْدِ ما زالَ العَبْدُ في عَوْنِ أخِيهِ المُسْلِمِ» .
{"ayah":"إِنَّمَا ٱلنَّجۡوَىٰ مِنَ ٱلشَّیۡطَـٰنِ لِیَحۡزُنَ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَلَیۡسَ بِضَاۤرِّهِمۡ شَیۡـًٔا إِلَّا بِإِذۡنِ ٱللَّهِۚ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلۡیَتَوَكَّلِ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











