الباحث القرآني

ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ والأرْضِ وإلى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ﴾ أيْ إلى حَيْثُ لا مالِكَ سِواهُ، ودَلَّ بِهَذا القَوْلِ عَلى إثْباتِ المَعادِ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿يُولِجُ اللَّيْلَ في النَّهارِ ويُولِجُ النَّهارَ في اللَّيْلِ وهو عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ﴾ وهَذِهِ الآياتُ قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُها في سائِرِ السُّوَرِ، وهي جامِعَةٌ بَيْنَ الدَّلالَةِ عَلى قُدْرَتِهِ، وبَيْنَ إظْهارِ نِعَمِهِ، والمَقْصُودُ مِن إعادَتِها البَعْثُ عَلى النَّظَرِ والتَّأمُّلِ، ثُمَّ الِاشْتِغالُ بِالشُّكْرِ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿آمِنُوا بِاللَّهِ ورَسُولِهِ﴾ اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا ذَكَرَ أنْواعًا مِنَ الدَّلائِلِ عَلى التَّوْحِيدِ والعِلْمِ والقُدْرَةِ، أتْبَعَها بِالتَّكالِيفِ، وبَدَأ بِالأمْرِ بِالإيمانِ بِاللَّهِ ورَسُولِهِ، فَإنْ قِيلَ قَوْلُهُ: ﴿آمِنُوا﴾ خِطابٌ مَعَ مَن عَرَفَ اللَّهَ، أوْ مَعَ مَن لَمْ يَعْرِفِ اللَّهَ ؟ فَإنْ كانَ الأوَّلَ كانَ ذَلِكَ أمْرًا بِأنْ يَعْرِفَهُ مَن عَرَفَ، فَيَكُونُ ذَلِكَ أمْرًا بِتَحْصِيلِ الحاصِلِ وهو مُحالٌ، وإنْ كانَ الثّانِيَ، كانَ الخِطابُ مُتَوَجِّهًا عَلى مَن لَمْ يَكُنْ عارِفًا بِهِ، ومَن لَمْ يَكُنْ عارِفًا بِهِ اسْتَحالَ أنْ يَكُونَ عارِفًا بِأمْرِهِ، فَيَكُونُ الأمْرُ مُتَوَجِّهًا عَلى مَن يَسْتَحِيلُ أنْ يَعْرِفَ كَوْنَهُ مَأْمُورًا بِذَلِكَ الأمْرِ، وهَذا تَكْلِيفُ ما لا يُطاقُ، والجَوابُ: مِنَ النّاسِ مَن قالَ: مَعْرِفَةُ وُجُودِ الصّانِعِ حاصِلَةٌ لِلْكُلِّ، وإنَّما المَقْصُودُ مِن هَذا الأمْرِ مَعْرِفَةُ الصِّفاتِ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿آمِنُوا بِاللَّهِ ورَسُولِهِ وأنْفِقُوا مِمّا جَعَلَكم مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فالَّذِينَ آمَنُوا مِنكم وأنْفَقُوا﴾ في هَذِهِ الآيَةِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: اعْلَمْ أنَّهُ أمَرَ النّاسَ أوَّلًا بِأنْ يَشْتَغِلُوا بِطاعَةِ اللَّهِ، ثُمَّ أمَرَهم ثانِيًا بِتَرْكِ الدُّنْيا والإعْراضِ عَنْها وإنْفاقِها في سَبِيلِ اللَّهِ، كَما قالَ: ﴿قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ﴾، فَقَوْلُهُ: ﴿قُلِ اللَّهُ﴾ هو المُرادُ هَهُنا مِن قَوْلِهِ: ﴿آمِنُوا بِاللَّهِ ورَسُولِهِ﴾ وقَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ ذَرْهُمْ﴾ [الأنْعامِ: ٩١ ] هو المُرادُ هَهُنا مِن قَوْلِهِ: ﴿وأنْفِقُوا مِمّا جَعَلَكم مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ﴾ . المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: في الآيَةِ وجْهانِ: الأوَّلُ: أنَّ الأمْوالَ الَّتِي في أيْدِيكم إنَّما هي أمْوالُ اللَّهِ بِخَلْقِهِ وإنْشائِهِ لَها، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى جَعَلَها تَحْتَ يَدِ المُكَلَّفِ، وتَحْتَ تَصَرُّفِهِ لِيَنْتَفِعَ بِها عَلى وفْقِ إذَنِ الشَّرْعِ، فالمُكَلَّفُ في تَصَرُّفِهِ في هَذِهِ الأمْوالِ بِمَنزِلَةِ الوَكِيلِ والنّائِبِ والخَلِيفَةِ، فَوَجَبَ أنْ يَسْهُلَ عَلَيْكُمُ الإنْفاقُ مِن تِلْكَ الأمْوالِ، كَما يَسْهُلُ عَلى الرَّجُلِ النَّفَقَةُ مِن مالِ غَيْرِهِ إذا أذِنَ لَهُ فِيهِ. الثّانِي: أنَّهُ جَعَلَكم مُسْتَخْلَفِينَ مِمَّنْ كانَ قَبْلَكم، لِأجْلِ أنَّهُ نَقَلَ أمْوالَهم إلَيْكم عَلى سَبِيلِ الإرْثِ، فاعْتَبِرُوا بِحالِهِمْ، فَإنَّها كَما انْتَقَلَتْ مِنهم إلَيْكم فَسَتَنْتَقِلُ مِنكم إلى غَيْرِكم فَلا تَبْخَلُوا بِها. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا في هَذا الإنْفاقِ، فَقالَ بَعْضُهم: هو الزَّكاةُ الواجِبَةُ، وقالَ آخَرُونَ: بَلْ يَدْخُلُ فِيهِ التَّطَوُّعُ، ولا يَمْتَنِعُ أنْ يَكُونَ عامًّا في جَمِيعِ وُجُوهِ البِرِّ، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى ضَمِنَ لِمَن فَعَلَ ذَلِكَ أجْرًا كَبِيرًا فَقالَ: (p-١٨٩)﴿فالَّذِينَ آمَنُوا مِنكم وأنْفَقُوا لَهم أجْرٌ كَبِيرٌ﴾ قالَ القاضِي: هَذِهِ الآيَةُ تَدُلُّ عَلى أنَّ هَذا الأجْرَ لا يَحْصُلُ بِالإيمانِ المُنْفَرِدِ حَتّى يَنْضافَ هَذا الإنْفاقُ إلَيْهِ، فَمِن هَذا الوَجْهِ يَدُلُّ عَلى أنَّ مَن أخَلَّ بِالواجِبِ مِن زَكاةٍ وغَيْرِها فَلا أجْرَ لَهُ. واعْلَمْ أنَّ هَذا الِاسْتِدْلالَ ضَعِيفٌ، وذَلِكَ لِأنَّ الآيَةَ تَدُلُّ عَلى أنَّ مَن أخَلَّ بِالزَّكاةِ الواجِبَةِ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ ذَلِكَ الأجْرُ الكَبِيرُ، فَلِمَ قُلْتُمْ: إنَّها تَدُلُّ عَلى أنَّهُ لا أجْرَ لَهُ أصْلًا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب