الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿هُوَ الأوَّلُ والآخِرُ والظّاهِرُ والباطِنُ وهو بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ وفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أنَّهُ قالَ في تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ: «إنَّهُ الأوَّلُ لَيْسَ قَبْلَهُ شَيْءٌ والآخِرُ لَيْسَ بَعْدَهُ شَيْءٌ» واعْلَمْ أنَّ هَذا المَقامَ مَقامٌ مَهِيبٌ غامِضٌ عَمِيقٌ، والبَحْثُ فِيهِ مِن وُجُوهٍ: الأوَّلُ: أنَّ تَقَدُّمَ (p-١٨٣)الشَّيْءِ عَلى الشَّيْءِ يُعْقَلُ عَلى وُجُوهٍ: أحَدُها: التَّقَدُّمُ بِالتَّأْثِيرِ فَإنّا نَعْقِلُ أنَّ لِحَرَكَةِ الأُصْبُعِ تَقَدُّمًا عَلى حَرَكَةِ الخاتَمِ، والمُرادُ مِن هَذا التَّقَدُّمِ كَوْنُ المُتَقَدِّمِ مُؤَثِّرًا في المُتَأخِّرِ. وثانِيها: التَّقَدُّمُ بِالحاجَةِ لا بِالتَّأْثِيرِ، لِأنّا نَعْقِلُ احْتِياجَ الِاثْنَيْنِ إلى الواحِدِ وإنْ كُنّا نَعْلَمُ أنَّ الواحِدَ لَيْسَ عِلَّةً لِلِاثْنَيْنِ. وثالِثُها: التَّقَدُّمُ بِالشَّرَفِ كَتَقَدُّمِ أبِي بَكْرٍ عَلى عُمَرَ. ورابِعُها: التَّقَدُّمُ بِالرُّتْبَةِ، وهو إمّا مِن مَبْدَأٍ مَحْسُوسٍ كَتَقَدُّمِ الإمامِ عَلى المَأْمُومِ، أوْ مِن مَبْدَأٍ مَعْقُولٍ، وذَلِكَ كَما إذا جَعَلْنا المَبْدَأ هو الجِنْسَ العالِيَ، فَإنَّهُ كُلَّما كانَ النَّوْعُ أشَدَّ تَسَفُّلًا كانَ أشَدَّ تَأخُّرًا، ولَوْ قَلَبْناهُ انْقَلَبَ الأمْرُ. وخامِسُها: التَّقَدُّمُ بِالزَّمانِ، وهو أنَّ المَوْجُودَ في الزَّمانِ المُتَقَدِّمِ، مُتَقَدِّمٌ عَلى المَوْجُودِ في الزَّمانِ المُتَأخِّرِ، فَهَذا ما حَصَّلَهُ أرْبابُ العُقُولِ مِن أقْسامِ القَبْلِيَّةِ والتَّقَدُّمِ، وعِنْدِي أنَّ هَهُنا قِسْمًا سادِسًا، وهو مِثْلُ تَقَدُّمِ بَعْضِ أجْزاءِ الزَّمانِ عَلى البَعْضِ، فَإنَّ ذَلِكَ التَّقَدُّمَ لَيْسَ تَقَدُّمًا بِالزَّمانِ، وإلّا وجَبَ أنْ يَكُونَ الزَّمانُ مُحِيطًا بِزَمانٍ آخَرَ، ثُمَّ الكَلامُ في ذَلِكَ المُحِيطِ كالكَلامِ في المُحاطِ بِهِ، فَيَلْزَمُ أنْ يُحِيطَ بِكُلِّ زَمانٍ زَمانٌ آخَرُ لا إلى نِهايَةٍ بِحَيْثُ تَكُونُ كُلُّها حاضِرَةً في هَذا الآنِ، فَلا يَكُونُ هَذا الآنُ الحاضِرُ واحِدًا، بَلْ يَكُونُ كُلُّ حاضِرٍ في حاضِرٍ آخَرَ لا إلى نِهايَةٍ وذَلِكَ غَيْرُ مَعْقُولٍ، وأيْضًا فَلِأنَّ مَجْمُوعَ تِلْكَ الآناتِ الحاضِرَةِ مُتَأخِّرٌ عَنْ مَجْمُوعِ الآناتِ الماضِيَةِ، فَلِمَجْمُوعِ الأزْمِنَةِ زَمانٌ آخَرُ مُحِيطٌ بِها لَكِنَّ ذَلِكَ مُحالٌ؛ لِأنَّهُ لَمّا كانَ زَمانًا كانَ داخِلًا في مَجْمُوعِ الأزْمِنَةِ، فَإذًا ذَلِكَ الزَّمانُ داخِلٌ في ذَلِكَ المَجْمُوعِ وخارِجٌ عَنْهُ وهو مُحالٌ، فَظَهَرَ بِهَذا البُرْهانِ الظّاهِرِ أنَّ تَقَدُّمَ بَعْضِ أجْزاءِ الزَّمانِ عَلى البَعْضِ لَيْسَ بِالزَّمانِ، وظاهِرٌ أنَّهُ لَيْسَ بِالعِلَّةِ ولا بِالحاجَةِ، وإلّا لَوُجِدا مَعًا، كَما أنَّ العِلَّةَ والمَعْلُولَ يُوجِدانِ مَعًا، والواحِدَ والِاثْنَيْنِ يُوجِدانِ مَعًا، ولَيْسَ أيْضًا بِالشَّرَفِ ولا بِالمَكانِ، فَثَبَتَ أنَّ تَقَدُّمَ بَعْضِ أجْزاءِ الزَّمانِ عَلى البَعْضِ قِسْمٌ سادِسٌ غَيْرُ الأقْسامِ الخَمْسَةِ المَذْكُورَةِ، وإذا عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ: إنَّ القُرْآنَ دَلَّ عَلى أنَّهُ تَعالى أوَّلٌ لِكُلِّ ما عَداهُ، والبُرْهانُ دَلَّ أيْضًا عَلى هَذا المَعْنى، لِأنّا نَقُولُ: كُلُّ ما عَدا الواجِبَ مُمْكِنٌ، وكُلُّ مُمْكِنٍ مُحْدَثٌ، فَكُلُّ ما عَدا الواجِبَ فَهو مُحْدَثٌ، وذَلِكَ الواجِبُ أوَّلٌ لِكُلِّ ما عَداهُ، إنَّما قُلْنا: أنَّ ما عَدا الواجِبَ مُمْكِنٌ؛ لِأنَّهُ لَوْ وُجِدَ شَيْئانِ واجِبانِ لِذاتِهِما لاشْتَرَكا في الواجِبِ الذّاتِيِّ، ولَتَبايَنا بِالتَّعَيُّنِ وما بِهِ المُشارَكَةُ غَيْرُ ما بِهِ المُمايَزَةُ، فَيَكُونُ كُلُّ واحِدٍ مِنهُما مُرَكَّبًا، ثُمَّ كَلُّ واحِدٍ مِن جُزْأيْهِ إنْ كانَ واجِبًا فَقَدِ اشْتَرَكَ الجُزْآنِ في الوُجُوبِ وتَبايَنا بِالخُصُوصِيَّةِ، فَيَكُونُ كُلُّ واحِدٍ مِن ذَيْنِكَ الجُزْأيْنِ أيْضًا مُرَكَّبًا ولَزِمَ التَّسَلْسُلُ، وإنْ لَمْ يَكُونا واجِبَيْنِ أوْ لَمْ يَكُنْ أحَدُهُما واجِبًا، كانَ الكُلُّ المُتَقَوِّمُ بِهِ أوْلى بِأنْ لا يَكُونَ واجِبًا، فَثَبَتَ أنَّ كُلَّ ما عَدا الواجِبَ مُمْكِنٌ، وكُلُّ مُمْكِنٍ مُحْدَثٌ؛ لِأنَّ كُلَّ مُمْكِنٍ مُفْتَقِرٌ إلى المُؤَثِّرِ، وذَلِكَ الِافْتِقارُ إمّا حالَ الوُجُودِ أوْ حالَ العَدَمِ، فَإذا كانَ حالَ الوُجُودِ، فَإمّا حالَ البَقاءِ وهو مُحالٌ؛ لِأنَّهُ يَقْتَضِي إيجادَ المَوْجُودِ وتَحْصِيلَ الحاصِلِ وهو مُحالٌ، فَإنَّ تِلْكَ الحاجَةَ إمّا حالَ الحُدُوثِ أوْ حالَ العَدَمِ، وعَلى التَّقْدِيرَيْنِ فَيَلْزَمُ أنْ يَكُونَ كُلُّ مُمْكِنٍ مُحْدَثًا، فَثَبَتَ أنَّ كُلَّ ما عَدا ذَلِكَ الواجِبَ فَهو مُحْدَثٌ مُحْتاجٌ إلى ذَلِكَ الواجِبِ، فَإذًا ذَلِكَ الواجِبُ يَكُونُ قَبْلَ كُلِّ ما عَداهُ، ثُمَّ طَلَبَ العَقْلُ كَيْفِيَّةَ تِلْكَ القَبْلِيَّةِ فَقُلْنا: لا يَجُوزُ أنْ تَكُونَ تِلْكَ القَبْلِيَّةُ بِالتَّأْثِيرِ؛ لِأنَّ المُؤَثِّرَ مِن حَيْثُ هو مُؤَثِّرٌ مُضافٌ إلى الأثَرِ مِن حَيْثُ هو أثَرٌ والمُضافانِ مَعًا، والمَعُ لا يَكُونُ قَبْلَ، ولا يَجُوزُ أنْ تَكُونَ لِمُجَرَّدِ الحاجَةِ؛ لِأنَّ المُحْتاجَ والمُحْتاجَ إلَيْهِ لا يَمْتَنِعُ أنْ يُوجِدا مَعًا، وقَدْ بَيَّنّا أنَّ تِلْكَ المَعِيَّةَ هَهُنا مُمْتَنِعَةٌ، ولا يَجُوزُ أنْ تَكُونَ لِمَحْضِ الشَّرَفِ فَإنَّهُ لَيْسَ المَطْلُوبُ مِن هَذِهِ القَبْلِيَّةِ هَهُنا مُجَرَّدَ أنَّهُ تَعالى أشْرَفُ مِنَ المُمْكِناتِ، وأمّا القَبْلِيَّةُ المَكانِيَّةُ فَباطِلَةٌ، وبِتَقْدِيرِ ثُبُوتِها فَتَقَدُّمُ المُحْدِثِ عَلى (p-١٨٤)المُحْدَثِ أمْرٌ زائِدٌ آخَرُ وراءَ كَوْنِ أحَدِهِما فَوْقَ الآخَرِ بِالجِهَةِ، وأمّا التَّقَدُّمُ الزَّمانِيُّ فَباطِلٌ؛ لِأنَّ الزَّمانَ أيْضًا مُمْكِنٌ ومُحْدَثٌ، أمّا أوَّلًا فَلِما بَيَّنّا أنَّ واجِبَ الوُجُودِ لا يَكُونُ أكْثَرَ مِن واحِدٍ، وأما ثانِيًا فَلِأنَّ أمارَةَ الإمْكانِ والحُدُوثِ فِيهِ أظْهَرُ كَما في غَيْرِهِ؛ لِأنَّ جَمِيعَ أجْزائِهِ مُتَعاقِبَةٌ، وكُلُّ ما وُجِدَ بَعْدَ العَدَمِ وعُدِمَ بَعْدَ الوُجُودِ فَلا شَكَّ أنَّهُ مُمْكِنُ المُحْدِثِ، وإذا كانَ جَمِيعُ أجْزاءِ الزَّمانِ مُمْكِنًا ومُحْدَثًا والكُلُّ مُتَقَوِّمٌ بِالأجْزاءِ فالمُفْتَقِرُ إلى المُمْكِنِ المُحْدَثِ أوْلى بِالإمْكانِ والحُدُوثِ، فَإذَنِ الزَّمانُ بِمَجْمُوعِهِ وبِأجْزائِهِ مُمْكِنٌ ومُحْدَثٌ، فَتَقَدُّمُ مُوجِدِهِ عَلَيْهِ لا يَكُونُ بِالزَّمانِ؛ لِأنَّ المُتَقَدِّمَ عَلى جَمِيعِ الأزْمِنَةِ لا يَكُونُ بِالزَّمانِ، وإلّا فَيَلْزَمُ في ذَلِكَ الزَّمانِ أنْ يَكُونَ داخِلًا في مَجْمُوعِ الأزْمِنَةِ؛ لِأنَّهُ زَمانٌ، وأنْ يَكُونَ خارِجًا عَنْها؛ لِأنَّهُ ظَرْفُها، والظَّرْفُ مُغايِرٌ لِلْمَظْرُوفِ لا مُحالٌ، لَكِنَّ كَوْنَ الشَّيْءِ الواحِدِ داخِلًا في شَيْءٍ وخارِجًا عَنْهُ مُحالٌ، وأمّا ثالِثًا: فَلِأنَّ الزَّمانَ ماهِيَّتُهُ تَقْتَضِي السَّيَلانَ والتَّجَدُّدَ، وذَلِكَ يَقْتَضِي المَسْبُوقِيَّةَ بِالغَيْرِ والأزَلُ يُنافِي المَسْبُوقِيَّةَ بِالغَيْرِ، فالجَمْعُ بَيْنَهُما مُحالٌ، فَثَبَتَ أنَّ تَقَدُّمَ الصّانِعِ عَلى كُلِّ ما عَداهُ لَيْسَ بِالزَّمانِ البَتَّةَ، فَإذَنِ الَّذِي عِنْدَ العَقْلِ أنَّهُ مُتَقَدِّمٌ عَلى كُلِّ ما عَداهُ، أنَّهُ لَيْسَ ذَلِكَ التَّقَدُّمَ عَلى أحَدِ هَذِهِ الوُجُوهِ الخَمْسَةِ، فَبَقِيَ أنَّهُ نَوْعٌ آخَرُ مِنَ التَّقَدُّمِ يُغايِرُ هَذِهِ الأقْسامَ الخَمْسَةَ، فَأمّا كَيْفِيَّةُ ذَلِكَ التَّقَدُّمِ فَلَيْسَ عِنْدَ العَقْلِ مِنها خَبَرٌ؛ لِأنَّ كُلَّ ما يَخْطُرُ بِبالِ العَقْلِ فَإنَّهُ لا بُدَّ وأنْ يَقْتَرِنَ بِهِ حالٌ مِنَ الزَّمانِ، وقَدْ دَلَّ الدَّلِيلُ عَلى أنَّ كُلَّ ذَلِكَ مُحالٌ، فَإذَنْ كَوْنُهُ تَعالى أوَّلًا مَعْلُومٌ عَلى سَبِيلِ الإجْمالِ، فَأمّا عَلى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ والإحاطَةِ بِحَقِيقَةِ تِلْكَ الأوَّلِيَّةِ، فَلَيْسَ عِنْدَ عُقُولِ الخَلْقِ مِنهُ أثَرٌ. النَّوْعُ الثّانِي: مِن غَوامِضِ هَذا المَوْضِعِ، وهو أنَّ الأزَلَ مُتَقَدِّمٌ عَلى اللّا يَزالُ، ولَيْسَ الأزَلُ شَيْئًا سِوى الحَقِّ، فَتَقَدُّمُ الأزَلِ عَلى اللّا يَزالُ، يَسْتَدْعِي الِامْتِيازَ بَيْنَ الأزَلِ وبَيْنَ اللّا يَزالُ، فَهَذا يَقْتَضِي أنْ يَكُونَ اللّا يَزالُ لَهُ مَبْدَأٌ وطَرَفٌ، حَتّى يَحْصُلَ هَذا الِامْتِيازُ، لَكِنَّ فَرْضَ هَذا الطَّرَفِ مُحالٌ؛ لِأنَّ كُلَّ مَبْدَأٍ فَرَضْتَهُ، فَإنَّ اللّا يَزالُ، كانَ حاصِلًا قَبْلَهُ؛ لِأنَّ المَبْدَأ الَّذِي يُفْرَضُ قَبْلَ ذَلِكَ الطَّرَفِ المَفْرُوضِ بِزِيادَةِ مِائَةِ سَنَةٍ، يَكُونُ مِن جُمْلَةِ اللّا يَزالُ، لا مِن جُمْلَةِ الأزَلِ، فَقَدْ كانَ مَعْنى اللّا يَزالُ مَوْجُودًا قَبْلَ أنْ كانَ مَوْجُودًا وذَلِكَ مُحالٌ. النَّوْعُ الثّالِثُ: مِن غَوامِضِ هَذا المَوْضُوعِ، أنَّ امْتِيازَ الأزَلِ عَنِ اللّا يَزالُ، يَسْتَدْعِي انْقِضاءَ حَقِيقَةِ الأزَلِ، وانْقِضاءُ حَقِيقَةِ الأزَلِ مُحالٌ؛ لِأنَّ ما لا أوَّلَ لَهُ يَمْتَنِعُ انْقِضاؤُهُ، وإذا امْتَنَعَ انْقِضاؤُهُ امْتَنَعَ أنْ يَحْصُلَ عَقِيبَهُ ماهِيَّةُ اللّا يَزالُ، فَإذَنْ يَمْتَنِعُ امْتِيازُ الأزَلِ عَنِ اللّا يَزالُ، وامْتِيازُ اللّا يَزالُ عَنِ الأزَلِ، وإذا امْتَنَعَ حُصُولُ هَذا الِامْتِيازِ امْتَنَعَ حُصُولُ التَّقَدُّمِ والتَّأخُّرِ، فَهَذِهِ أبْحاثٌ غامِضَةٌ في حَقِيقَةِ التَّقَدُّمِ والأوَّلِيَّةِ والأزَلِيَّةِ، وما هي إلّا بِسَبَبِ حَيْرَةِ العُقُولِ البَشَرِيَّةِ في نُورِ جَلالِ ماهِيَّةِ الأزَلِيَّةِ والأوَّلِيَّةِ، فَإنَّ العَقْلَ إنَّما يَعْرِفُ الشَّيْءَ إذا أحاطَ بِهِ، وكُلُّ ما اسْتَحْضَرَهُ العَقْلُ ووَقَفَ عَلَيْهِ فَذاكَ يَصِيرُ مُحاطًا بِهِ، والمُحاطُ يَكُونُ مُتَناهِيًا، والأزَلِيَّةُ تَكُونُ خارِجَةً عَنْهُ، فَهو سُبْحانُهُ ظاهِرٌ باطِنٌ في كَوْنِهِ أوَّلًا؛ لِأنَّ العُقُولَ شاهِدَةٌ بِإسْنادِ المُحْدَثاتِ إلى مُوجِدٍ مُتَقَدِّمٍ عَلَيْها فَكَوْنُهُ تَعالى أوَّلًا أظْهَرُ مِن كُلِّ ظاهِرٍ مِن هَذِهِ الجِهَةِ، ثُمَّ إذا أرَدْتَ أنْ تَعْرِفَ حَقِيقَةَ تِلْكَ الأوَّلِيَّةِ عَجَزْتَ؛ لِأنَّ كُلَّ ما أحاطَ بِهِ عَقْلُكَ وعِلْمُكَ فَهو مَحْدُودُ عَقْلِكَ ومُحاطُ عِلْمِكَ، فَيَكُونُ مُتَناهِيًا، فَتَكُونُ الأوَّلِيَّةُ خارِجَةً عَنّا، فَكَوْنُهُ تَعالى أوَّلًا إذا اعْتَبَرْتَهُ مِن هَذِهِ الجِهَةِ كانَ أبْطَنَ مِن كُلِّ باطِنٍ، فَهَذا هو البَحْثُ عَنْ كَوْنِهِ تَعالى أوَّلًا. أمّا البَحْثُ عَنْ كَوْنِهِ آخِرًا، فَمِنَ النّاسِ مَن قالَ: هَذا مُحالٌ لِأنَّهُ تَعالى إنَّما يَكُونُ آخِرًا لِكُلِّ ما عَداهُ، لَوْ بَقِيَ هو مَعَ عَدَمِ كُلِّ ما عَداهُ لَكِنَّ عَدَمَ ما عَداهُ إنَّما يَكُونُ بَعْدَ وُجُودِهِ، وتِلْكَ البَعْدِيَّةُ، زَمانِيَّةٌ، فَإذَنْ لا يُمْكِنُ (p-١٨٥)فَرْضُ عَدَمِ كُلِّ ما عَداهُ إلّا مَعَ وُجُودِ الزَّمانِ الَّذِي بِهِ تَتَحَقَّقُ تِلْكَ البَعْدِيَّةُ، فَإذَنْ حالُ ما فُرِضَ عَدَمُ كُلِّ ما عَداهُ، أنْ لا يُعْدَمَ كُلُّ ما عَداهُ، فَهَذا خُلْفٌ، فَإذَنْ فَرْضُ بَقائِهِ مَعَ عَدَمِ كُلِّ ما عَداهُ مُحالٌ، وهَذِهِ الشُّبْهَةُ مَبْنِيَّةٌ أيْضًا عَلى أنَّ التَّقَدُّمَ والتَّأخُّرَ لا يَتَقَرَّرانِ إلّا بِالزَّمانِ، وقَدْ دَلَّلْنا عَلى فَسادِ هَذِهِ المُقَدِّمَةِ فَبَطَلَتْ هَذِهِ الشُّبْهَةُ، وأمّا الَّذِينَ سَلَّمُوا إمْكانَ عَدَمِ كُلِّ ما عَداهُ مَعَ بَقائِهِ، فَمِنهم مَن أوْجَبَ ذَلِكَ حَتّى يَتَقَرَّرَ كَوْنُهُ تَعالى آخِرًا لِلْكُلِّ، وهَذا مَذْهَبُ جَهْمٍ، فَإنَّهُ زَعَمَ أنَّهُ سُبْحانَهُ يُوصِلُ الثَّوابَ إلى أهْلِ الثَّوابِ، ويُوصِلُ العِقابَ إلى أهْلِ العِقابِ، ثُمَّ يُفْنِي الجَنَّةَ وأهْلَها، والنّارَ وأهْلَها، والعَرْشَ والكُرْسِيَّ والمَلَكَ والفَلَكَ، ولا يَبْقى مَعَ اللَّهِ شَيْءٌ أصْلًا، فَكَما أنَّهُ كانَ مَوْجُودًا في الأزَلِ ولا شَيْءَ يَبْقى مَوْجُودًا في اللّا يَزالُ أبَدَ الآبادِ ولا شَيْءَ، واحْتُجَّ عَلَيْهِ بِوُجُوهٍ: أوَّلُها: قَوْلُهُ هو الآخِرُ، يَكُونُ آخِرًا إلّا عِنْدَ فَناءِ الكُلِّ. وثانِيها: أنَّهُ تَعالى إمّا أنْ يَكُونَ عالِمًا بِعَدَدِ حَرَكاتِ أهْلِ الجَنَّةِ والنّارِ، أوْ لا يَكُونُ عالِمًا بِها، فَإنْ كانَ عالِمًا بِها كانَ عالِمًا بِكَمِّيَّتِها، وكُلُّ ما لَهُ عَدَدٌ مُعَيَّنٌ فَهو مُتَناهٍ، فَإذَنْ حَرَكاتُ أهْلِ الجَنَّةِ مُتَناهِيَةٌ، فَإذَنْ لا بُدَّ وأنْ يَحْصُلَ بَعْدَها عَدَمٌ أبَدِيٌّ غَيْرُ مُنْقَضٍّ وإذا لَمْ يَكُنْ عالِمًا بِها كانَ جاهِلًا بِها، والجَهْلُ عَلى اللَّهِ مُحالٌ. وثالِثُها: أنَّ الحَوادِثَ المُسْتَقْبَلَةَ قابِلَةٌ لِلزِّيادَةِ والنُّقْصانِ، وكُلُّ ما كانَ كَذَلِكَ فَهو مُتَناهٍ. والجَوابُ: أنَّ إمْكانَ اسْتِمْرارِ هَذِهِ الأشْياءِ حاصِلٌ إلى الأبَدِ، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ هو أنَّ هَذِهِ الماهِيّاتِ لَوْ زالَتْ إمْكاناتُها، لَزِمَ أنْ يَنْقَلِبَ المُمْكِنُ لِذاتِهِ مُمْتَنِعًا لِذاتِهِ، ولَوِ انْقَلَبَتْ قُدْرَةُ اللَّهِ مِن صَلاحِيَّةِ التَّأْثِيرِ إلى امْتِناعِ التَّأْثِيرِ، لانْقَلَبَتِ الماهِيّاتُ وذَلِكَ مُحالٌ، فَوَجَبَ أنْ يَبْقى هَذا الإمْكانُ أبَدًا، فَإذَنْ ثَبَتَ أنَّهُ يَجِبُ انْتِهاءُ هَذِهِ المُحْدَثاتِ إلى العَدَمِ الصِّرْفِ، أمّا التَّمَسُّكُ بِالآيَةِ فَسَنَذْكُرُ الجَوابَ عَنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى. وأمّا الشُّبْهَةُ الثّانِيَةُ: فَجَوابُها أنَّهُ يَعْلَمُ أنَّهُ لَيْسَ لَها عَدَدٌ مُعَيَّنٌ، وهَذا لا يَكُونُ جَهْلًا، إنَّما الجَهْلُ أنْ يَكُونَ لَهُ عَدَدٌ مُعَيَّنٌ ولا يَعْلَمُهُ، أمّا إذا لَمْ يَكُنْ لَهُ عَدَدٌ مُعَيَّنٌ وأنْتَ تَعْلَمُهُ عَلى الوَجْهِ فَهَذا لا يَكُونُ جَهْلًا بَلْ عِلْمًا. وأمّا الشُّبْهَةُ الثّالِثَةُ: فَجَوابُها أنَّ الخارِجَ مِنهُ إلى الوُجُودِ أبَدًا لا يَكُونُ مُتَناهِيًا، ثُمَّ إنَّ المُتَكَلِّمِينَ لَمّا أثْبَتُوا إمْكانَ بَقاءِ العالَمِ أبَدًا عَوَّلُوا في بَقاءِ الجَنَّةِ والنّارِ أبَدًا، عَلى إجْماعِ المُسْلِمِينَ وظَواهِرِ الآياتِ، ولا يَخْفى تَقْرِيرُها، وأمّا جُمْهُورُ المُسْلِمِينَ الَّذِينَ سَلَّمُوا بَقاءَ الجَنَّةِ والنّارِ أبَدًا، فَقَدِ اخْتَلَفُوا في مَعْنى كَوْنِهِ تَعالى آخِرًا عَلى وُجُوهٍ: أحَدُها: أنَّهُ تَعالى يُفْنِي جَمِيعَ العالَمِ والمُمْكِناتِ فَيَتَحَقَّقُ كَوْنُهُ آخِرًا، ثُمَّ إنَّهُ يُوجِدُها ويُبْقِيها أبَدًا. وثانِيها: أنَّ المَوْجُودَ الَّذِي يَصِحُّ في العَقْلِ أنْ يَكُونَ آخِرًا لِكُلِّ الأشْياءِ لَيْسَ إلّا هو، فَلَمّا كانَتْ صِحَّةُ آخِرِيَّةِ كُلِّ الأشْياءِ مُخْتَصَّةٌ بِهِ سُبْحانَهُ، لا جَرَمَ وُصِفَ بِكَوْنِهِ آخِرًا. وثالِثُها: أنَّ الوُجُودَ مِنهُ تَعالى يَبْتَدِئُ، ولا يَزالُ يَنْزِلُ ويَنْزِلُ حَتّى يَنْتَهِيَ إلى المَوْجُودِ الأخِيرِ، الَّذِي يَكُونُ هو مُسَبِّبًا لِكُلِّ ما عَداهُ، ولا يَكُونُ سَبَبًا لِشَيْءٍ آخَرَ، فَبِهَذا الِاعْتِبارِ يَكُونُ الحَقُّ سُبْحانَهُ أوَّلًا، ثُمَّ إذا انْتَهى أخَذَ يَتَرَقّى مِن هَذا المَوْجُودِ الأخِيرِ دَرَجَةً فَدَرَجَةً حَتّى يَنْتَهِيَ إلى آخِرِ التَّرَقِّي، فَهُناكَ وُجُودُ الحَقِّ سُبْحانَهُ، فَهو سُبْحانُهُ أوَّلٌ في نُزُولِ الوُجُودِ مِنهُ إلى المُمْكِناتِ، آخِرٌ عِنْدَ الصُّعُودِ مِنَ المُمْكِناتِ إلَيْهِ. ورابِعُها: أنَّهُ يُمِيتُ الخَلْقَ ويَبْقى بَعْدَهم، فَهو سُبْحانُهُ آخِرٌ بِهَذا الِاعْتِبارِ. وخامِسُها: أنَّهُ أوَّلٌ في الوُجُودِ وآخِرٌ في الِاسْتِدْلالِ؛ لِأنَّ المَقْصُودَ مِن جَمِيعِ الِاسْتِدْلالاتِ مَعْرِفَةُ الصّانِعِ، وأمّا سائِرُ الِاسْتِدْلالاتِ الَّتِي لا يُرادُ مِنها مَعْرِفَةُ الصّانِعِ فَهي حَقِيرَةٌ خَسِيسَةٌ، أمّا كَوْنُهُ تَعالى ظاهِرًا وباطِنًا، فاعْلَمْ أنَّهُ ظاهِرٌ بِحَسَبِ الوُجُودِ، فَإنَّكَ لا تَرى شَيْئًا مِنَ الكائِناتِ والمُمْكِناتِ إلّا ويَكُونُ دَلِيلًا عَلى وُجُودِهِ وثُبُوتِهِ وحَقِيقَتِهِ وبَراءَتِهِ عَنْ جِهاتِ التَّغَيُّرِ عَلى ما قَرَّرْناهُ، وأمّا كَوْنُهُ تَعالى باطِنًا فَمِن وُجُوهٍ: الأوَّلُ: أنَّ كَمالَ كَوْنِهِ ظاهِرًا سَبَبٌ لِكَوْنِهِ باطِنًا، فَإنَّ هَذِهِ الشَّمْسَ لَوْ دامَتْ عَلى الفَلَكِ لَما كُنّا نَعْرِفُ أنَّ هَذا الضَّوْءَ (p-١٨٦)إنَّما حَصَلَ بِسَبَبِها، بَلْ رُبَّما كُنّا نَظُنُّ أنَّ الأشْياءَ مُضِيئَةٌ لِذَواتِها إلّا أنَّها لَمّا كانَتْ بِحَيْثُ تَغْرُبُ ثُمَّ تَرى أنَّها مَتى غَرَبَتْ أُبْطِلَتِ الأنْوارُ وزالَتِ الأضْواءُ عَنْ هَذا العالَمِ، عَلِمْنا حِينَئِذٍ أنَّ هَذِهِ الأضْواءَ مِنَ الشَّمْسِ، فَهَهُنا لَوْ أمْكَنَ انْقِطاعُ وُجُودِ اللَّهِ عَنْ هَذِهِ المُمْكِناتِ لَظَهَرَ حِينَئِذٍ أنَّ وُجُودَ هَذِهِ المُمْكِناتِ مِن وُجُودِ اللَّهِ تَعالى، لَكِنَّهُ لَمّا دامَ ذَلِكَ الجُودُ ولَمْ يَنْقَطِعْ صارَ دَوامُهُ وكَمالُهُ سَبَبًا لِوُقُوعِ الشُّبْهَةِ، حَتّى إنَّهُ رُبَّما يَظُنُّ أنَّ نُورَ الوُجُودِ لَيْسَ مِنهُ بَلْ وُجُودُ كُلِّ شَيْءٍ لَهُ مِن ذاتِهِ، فَظَهَرَ أنَّ هَذا الِاسْتِتارَ إنَّما وقَعَ مِن كَمالِ وجُودِهِ، ومِن دَوامِ جُودِهِ، فَسُبْحانَ مَنِ اخْتَفى عَنِ العُقُولِ لِشِدَّةِ ظُهُورِهِ، واحْتَجَبَ عَنْها بِكَمالِ نُورِهِ. الوَجْهُ الثّانِي: أنَّ ماهِيَّتَهُ غَيْرُ مَعْقُولَةٍ لِلْبَشَرِ البَتَّةَ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ أنَّ الإنْسانَ لا يَتَصَوَّرُ ماهِيَّةَ الشَّيْءِ إلّا إذا أدْرَكَهُ مِن نَفْسِهِ عَلى سَبِيلِ الوِجْدانِ كالألَمِ واللَّذَّةِ وغَيْرِهِما أوْ أدْرَكَهُ بِحِسِّهِ كالألْوانِ والطُّعُومِ وسائِرِ المَحْسُوساتِ، فَأمّا ما لا يَكُونُ كَذَلِكَ فَيَتَعَذَّرُ عَلى الإنْسانِ أنْ يَتَصَوَّرَ ماهِيَّتَهُ البَتَّةَ، وهُوِيَّتَهُ المَخْصُوصَةَ جَلَّ جَلالُهُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ فَلا تَكُونُ مَعْقُولَةً لِلْبَشَرِ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ أيْضًا أنَّ المَعْلُومَ مِنهُ عِنْدَ الخَلْقِ، إمّا الوُجُودُ وإمّا السُّلُوبُ، وهو أنَّهُ لَيْسَ بِجِسْمٍ ولا جَوْهَرٍ، وإمّا الإضافَةُ، وهو أنَّهُ الأمْرُ الَّذِي مِن شَأْنِهِ كَذا وكَذا، والحَقِيقَةُ المَخْصُوصَةُ مُغايِرَةٌ لِهَذِهِ الأُمُورِ فَهي غَيْرُ مَعْقُولَةٍ ويَدُلُّ عَلَيْهِ أنَّ أظْهَرَ الأشْياءِ مِنهُ عِنْدَ العَقْلِ كَوْنُهُ خالِقًا لِهَذِهِ المَخْلُوقاتِ، ومُتَقَدِّمًا عَلَيْها، وقَدْ عَرَفْتَ حَيْرَةَ العَقْلِ ودَهْشَتَهُ في مَعْرِفَةِ هَذِهِ الأوَّلِيَّةِ، فَقَدْ ظَهَرَ بِما قَدَّمْناهُ أنَّهُ سُبْحانَهُ هو الأوَّلُ وهو الآخِرُ، وهو الظّاهِرُ وهو الباطِنُ، وسَمِعْتُ والِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ: إنَّهُ كانَ يُرْوى أنَّهُ لَمّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ أقْبَلَ المُشْرِكُونَ نَحْوَ البَيْتِ وسَجَدُوا. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: احْتَجَّ كَثِيرٌ مِنَ العُلَماءِ في إثْباتِ أنَّ الإلَهَ واحِدٌ بِقَوْلِهِ: ﴿هُوَ الأوَّلُ﴾ قالُوا الأوَّلُ هو الفَرْدُ السّابِقُ، ولِهَذا المَعْنى لَوْ قالَ: أوَّلُ مَمْلُوكٍ اشْتَرَيْتُهُ فَهو حُرٌّ، ثُمَّ اشْتَرى عَبْدَيْنِ لَمْ يُعْتَقا؛ لِأنَّ شَرْطَ كَوْنِهِ أوَّلًا حُصُولُ الفَرْدِيَّةِ، وهَهُنا لَمْ تَحْصُلْ، فَلَوِ اشْتَرى بَعْدَ ذَلِكَ عَبْدًا واحِدًا لَمْ يُعْتِقْ؛ لِأنَّ شَرْطَ الأوَّلِيَّةِ كَوْنُهُ سابِقًا وهَهُنا لَمْ يَحْصُلْ، فَثَبَتَ أنَّ الشَّرْطَ في كَوْنِهِ أوَّلًا أنْ يَكُونَ فَرْدًا، فَكانَتِ الآيَةُ دالَّةً عَلى أنَّ صانِعَ العالَمِ فَرَدٌ. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: أكْثَرُ المُفَسِّرِينَ قالُوا: إنَّهُ أوَّلٌ لِأنَّهُ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ، وإنَّهُ آخِرٌ لِأنَّهُ بَعْدَ كُلِّ شَيْءٍ، وإنَّهُ ظاهِرٌ بِحَسَبِ الدَّلائِلِ، وإنَّهُ باطِنٌ عَنِ الحَواسِّ مُحْتَجِبٌ عَنِ الأبْصارِ، وأنَّ جَماعَةً لَمّا عَجَزُوا عَنْ جَوابِ جَهْمٍ قالُوا: مَعْنى هَذِهِ الألْفاظِ مِثْلُ قَوْلِ القائِلِ: فُلانٌ هو أوَّلُ هَذا الأمْرِ وآخِرُهُ وظاهِرُهُ وباطِنُهُ، أيْ عَلَيْهِ يَدُورُ، وبِهِ يَتِمُّ. واعْلَمْ أنَّهُ لَمّا أمْكَنَ حَمْلُ الآيَةِ عَلى الوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْناها مَعَ أنَّهُ يَسْقُطُ بِها اسْتِدْلالُ جَهْمٍ لَمْ يَكُنْ بِنا إلى حَمْلِ الآيَةِ عَلى هَذا المَجازِ حاجَةٌ، وذَكَرُوا في الظّاهِرِ والباطِنِ أنَّ الظّاهِرَ هو الغالِبُ العالِي عَلى كُلِّ شَيْءٍ، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَأصْبَحُوا ظاهِرِينَ﴾ [الصف: ١٤] أيْ غالِبِينَ عالِينَ، مِن قَوْلِكَ: ظَهَرْتُ عَلى فُلانٍ أيْ عَلَوْتُهُ، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿عَلَيْها يَظْهَرُونَ﴾ [الزخرف: ٣٣] وهَذا مَعْنى ما رُوِيَ في الحَدِيثِ: «وأنْتَ الظّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ» وأمّا الباطِنُ فَقالَ الزَّجّاجُ: إنَّهُ العالِمُ بِما بَطَنَ، كَما يَقُولُ القائِلُ: فُلانٌ يَظُنُّ أمْرَ فُلانٍ، أيْ يَعْلَمُ أحْوالَهُ الباطِنَةَ قالَ اللَّيْثُ: يُقالُ: أنْتَ أبْطَنُ بِهَذا الأمْرِ مِن فُلانٍ، أيْ أخْبَرُ بِباطِنِهِ، فَمَعْنى كَوْنِهِ باطِنًا، كَوْنُهُ عالِمًا بِبَواطِنِ الأُمُورِ، وهَذا التَّفْسِيرُ عِنْدِي فِيهِ نَظَرٌ لِأنَّ قَوْلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ: ﴿وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ يَكُونُ تَكْرارًا. أمّا عَلى التَّفْسِيرِ الأوَّلِ فَإنَّهُ يَحْسُنُ مَوْقِعُهُ؛ لِأنَّهُ يَصِيرُ التَّقْدِيرُ كَأنَّهُ قِيلَ: إنَّ أحَدًا لا يُحِيطُ بِهِ ولا يَصِلُ إلى (p-١٨٧)أسْرارِهِ، وإنَّهُ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِن أحْوالِ غَيْرِهِ، ونَظِيرُهُ: ﴿تَعْلَمُ ما في نَفْسِي ولا أعْلَمُ ما في نَفْسِكَ﴾ [المائدة: ١١٦] .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب