الباحث القرآني

ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ﴾ أيْ لَمْ نَفْرِضْها نَحْنُ عَلَيْهِمْ. أمّا قَوْلُهُ: ﴿إلّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ﴾ فَفِيهِ قَوْلانِ: أحَدُهُما: أنَّهُ اسْتِثْناءٌ مُنْقَطِعٌ. أيْ ولَكِنَّهُمُ ابْتَدَعُوها ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ. الثّانِي: أنَّهُ اسْتِثْناءٌ مُتَّصِلٌ، والمَعْنى أنّا ما تَعَبَّدْناهم بِها إلّا عَلى وجْهِ ابْتِغاءِ مَرْضاةِ اللَّهِ تَعالى، والمُرادُ أنَّها لَيْسَتْ واجِبَةً، فَإنَّ المَقْصُودَ مِن فِعْلِ الواجِبِ دَفْعُ العِقابِ وتَحْصِيلُ رِضا اللَّهِ، أمّا المَندُوبُ فَلَيْسَ المَقْصُودُ مِن فِعْلِهِ دَفْعُ العِقابِ، بَلِ المَقْصُودُ مِنهُ لَيْسَ إلّا تَحْصِيلَ مَرْضاةِ اللَّهِ تَعالى. أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنا الَّذِينَ آمَنُوا مِنهم أجْرَهم وكَثِيرٌ مِنهم فاسِقُونَ﴾ فَفِيهِ أقْوالٌ: أحَدُها: أنَّ هَؤُلاءِ الَّذِينَ ابْتَدَعُوا هَذِهِ الرَّهْبانِيَّةَ ما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها، بَلْ ضَمُّوا إلَيْها التَّثْلِيثَ والِاتِّحادَ، وأقامَ أُناسٌ مِنهم عَلى دِينِ عِيسى حَتّى أدْرَكُوا مُحَمَّدًا -عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ -فَآمَنُوا بِهِ، فَهو قَوْلُهُ: ﴿فَآتَيْنا الَّذِينَ آمَنُوا مِنهم أجْرَهم وكَثِيرٌ مِنهم فاسِقُونَ﴾ . وثانِيها: أنّا ما كَتَبْنا عَلَيْهِمْ تِلْكَ الرَّهْبانِيَّةَ إلّا لِيَتَوَسَّلُوا بِها إلى مَرْضاةِ اللَّهِ تَعالى، ثُمَّ إنَّهم أتَوْا بِتِلْكَ الأفْعالِ، لَكِنْ لا لِهَذا الوَجْهِ، بَلْ لِوَجْهٍ آخَرَ، وهو طَلَبُ الدُّنْيا والرِّياءِ والسُّمْعَةِ. وثالِثُها: أنّا لَمّا كَتَبْناها عَلَيْهِمْ تَرَكُوها، فَيَكُونُ ذَلِكَ ذَمًّا لَهم مِن حَيْثُ إنَّهم تَرَكُوا الواجِبَ. (p-٢١٥)ورابِعُها: أنَّ الَّذِينَ لَمْ يَرْعَوْها حَقَّ رِعايَتِها هُمُ الَّذِينَ أدْرَكُوا مُحَمَّدًا -عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - ولَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ، وقَوْلُهُ: ﴿فَآتَيْنا الَّذِينَ آمَنُوا مِنهم أجْرَهُمْ﴾ أيِ الَّذِينَ آمَنُوا بِمُحَمَّدٍ ﴿وكَثِيرٌ مِنهم فاسِقُونَ﴾ يَعْنِي الَّذِينَ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ، ويَدُلُّ عَلى هَذا ما رُوِيَ أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ قالَ: ”«مَن آمَنَ بِي وصَدَّقَنِي واتَّبَعَنِي فَقَدْ رَعاها حَقَّ رِعايَتِها، ومَن لَمْ يُؤْمِن بِي فَأُولَئِكَ هُمُ الهالِكُونَ» “ . وخامِسُها: أنَّ الصّالِحِينَ مِن قَوْمِ عِيسى -عَلَيْهِ السَّلامُ -ابْتَدَعُوا الرَّهْبانِيَّةَ وانْقَرَضُوا عَلَيْها، ثُمَّ جاءَ بَعْدَهم قَوْمٌ اقْتَدَوْا بِهِمْ في اللِّسانِ، وما كانُوا مُقْتَدِينَ بِهِمْ في العَمَلِ، فَهُمُ الَّذِينَ ما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها، قالَ عَطاءٌ: لَمْ يَرْعَوْها كَما رَعاها الحَوارِيُّونَ، ثُمَّ قالَ: ﴿وكَثِيرٌ مِنهم فاسِقُونَ﴾ والمَعْنى أنَّ بَعْضَهم قامَ بِرِعايَتِها وكَثِيرٌ مِنهم أظْهَرَ الفِسْقَ وتَرَكَ تِلْكَ الطَّرِيقَةَ ظاهِرًا وباطِنًا. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكم كِفْلَيْنِ مِن رَحْمَتِهِ ويَجْعَلْ لَكم نُورًا تَمْشُونَ بِهِ ويَغْفِرْ لَكم واللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ اعْلَمْ أنَّهُ لَمّا قالَ في الآيَةِ الأُولى: ﴿فَآتَيْنا الَّذِينَ آمَنُوا مِنهُمْ﴾ أيْ مِن قَوْمِ عِيسى: ﴿أجْرَهُمْ﴾ قالَ في هَذِهِ الآيَةِ: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا﴾ والمُرادُ بِهِ أُولَئِكَ، فَأمَرَهم أنْ يَتَّقُوا اللَّهَ ويُؤْمِنُوا بِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ ثُمَّ قالَ: ﴿يُؤْتِكم كِفْلَيْنِ﴾ أيْ نَصِيبَيْنِ مِن رَحْمَتِهِ لِإيمانِكم أوَّلًا بِعِيسى، وثانِيًا بِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أجْرَهم مَرَّتَيْنِ﴾ [القصص: ٥٤] . عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ نَزَلَ في قَوْمٍ جاءُوا مِنَ اليَمَنِ مِن أهْلِ الكِتابِ إلى الرَّسُولِ وأسْلَمُوا، فَجَعَلَ اللَّهُ لَهم أجْرَيْنِ. وهَهُنا سُؤالانِ: السُّؤالُ الأوَّلُ: ما الكِفْلُ في اللُّغَةِ ؟ (الجَوابُ) قالَ المُؤَرِّجُ: الكِفْلُ: النَّصِيبُ بِلُغَةِ هُذَيْلٍ، وقالَ غَيْرُهُ: بَلْ هَذِهِ لُغَةُ الحَبَشَةِ، وقالَ المُفَضَّلُ بْنُ مَسْلَمَةَ: الكِفْلُ كِساءٌ يُدِيرُهُ الرّاكِبُ حَوْلَ السَّنامِ حَتّى يَتَمَكَّنَ مِنَ القُعُودِ عَلى البَعِيرِ. السُّؤالُ الثّانِي: أنَّهُ تَعالى لَمّا آتاهم كِفْلَيْنِ وأعْطى المُؤْمِنِينَ كِفْلًا واحِدًا كانَ حالُهم أعْظَمَ (والجَوابُ) رُوِيَ أنَّ أهْلَ الكِتابِ افْتَخَرُوا بِهَذا السَّبَبِ عَلى المُسْلِمِينَ. وهو ضَعِيفٌ؛ لِأنَّهُ لا يَبْعُدُ أنْ يَكُونَ النَّصِيبُ الواحِدُ أزْيَدَ قَدْرًا مِنَ النَّصِيبَيْنِ، فَإنَّ المالَ إذا قُسِّمَ بِنِصْفَيْنِ كانَ الكِفْلُ الواحِدُ نِصْفًا، وإذا قُسِّمَ بِمِائَةِ قِسْمٍ كانَ الكِفْلُ الواحِدُ جُزْءًا مِن مِائَةِ جُزْءٍ، فالنَّصِيبُ الواحِدُ مِنَ القِسْمَةِ الأُولى أزْيَدُ مِن عِشْرِينَ نَصِيبًا مِنَ القِسْمَةِ الثّانِيَةِ، فَكَذا هَهُنا، ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ويَجْعَلْ لَكُمْ﴾ أيْ يَوْمَ القِيامَةِ ﴿نُورًا تَمْشُونَ بِهِ﴾ وهو النُّورُ المَذْكُورُ في قَوْلِهِ: ﴿يَسْعى نُورُهُمْ﴾ [الحديد: ١٢] ﴿ويَغْفِرْ لَكُمْ﴾ ما أسْلَفْتُمْ مِنَ المَعاصِي ﴿واللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب