الباحث القرآني

ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿فَمِنهم مُهْتَدٍ وكَثِيرٌ مِنهم فاسِقُونَ﴾ وفِيهِ مَسائِلُ: (p-٢١٣)المَسْألَةُ الأُولى: فَمِنهم مُهْتَدٍ، أيْ فَمِنَ الذُّرِّيَّةِ أوْ مِنَ المُرْسَلِ إلَيْهِمْ، وقَدْ دَلَّ عَلَيْهِمْ ذِكْرُ الإرْسالِ والمُرْسَلِينَ، والمَعْنى أنَّ مِنهم مُهْتَدٍ ومِنهم فاسِقٌ، والغَلَبَةُ لِلْفُسّاقِ، وفي الفاسِقِ هَهُنا قَوْلانِ: الأوَّلُ: أنَّهُ الَّذِي ارْتَكَبَ الكَبِيرَةَ سَواءٌ كانَ كافِرًا أوْ لَمْ يَكُنْ؛ لِأنَّ هَذا الِاسْمَ يُطْلَقُ عَلى الكافِرِ وعَلى مَن لا يَكُونُ، كَذَلِكَ إذا كانَ مُرْتَكِبًا لِلْكَبِيرَةِ. والثّانِي: أنَّ المُرادَ بِالفاسِقِ هَهُنا الكافِرُ؛ لِأنَّ الآيَةَ دَلَّتْ عَلى أنَّهُ تَعالى جَعَلَ الفُسّاقَ بِالضِّدِّ مِنَ المُهْتَدِينَ، فَكَأنَّ المُرادَ أنَّ فِيهِمْ مَن قَبِلَ الدِّينَ واهْتَدى، ومِنهم مَن لَمْ يَقْبَلْ ولَمْ يَهْتَدِ، ومَعْلُومٌ أنَّ مَن كانَ كَذَلِكَ كانَ كافِرًا، وهَذا ضَعِيفٌ؛ لِأنَّ المُسْلِمَ الَّذِي عَصى قَدْ يُقالُ فِيهِ: إنَّهُ لَمْ يَهْتَدِ إلى وجْهِ رُشْدِهِ ودِينِهِ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وقَفَّيْنا بِعِيسى ابْنِ مَرْيَمَ وآتَيْناهُ الإنْجِيلَ﴾ وفِيهِ مَسْألَتانِ: المَسْألَةُ الأُولى: مَعْنى قَفّاهُ: أتْبَعَهُ بَعْدَ أنْ مَضى، والمُرادُ أنَّهُ تَعالى أرْسَلَ بَعْضَهم بَعْدَ بَعْضٍ إلى أنِ انْتَهى إلى أيّامِ عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ، فَأرْسَلَهُ اللَّهُ تَعالى بَعْدَهم وآتاهُ الإنْجِيلَ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قالَ ابْنُ جِنِّي: قَرَأ الحَسَنُ: ”وآتَيْناهُ الأنْجِيلَ“ بِفَتْحِ الهَمْزَةِ، ثُمَّ قالَ: هَذا مِثالٌ لا نَظِيرَ لَهُ؛ لِأنَّ أفْعِيلَ وهو عِنْدَهم مِن نَجَلْتُ الشَّيْءَ إذا اسْتَخْرَجْتَهُ؛ لِأنَّهُ يُسْتَخْرَجُ بِهِ الأحْكامُ، والتَّوْراةُ فَوْعَلَةٌ مِن ورى الزَّنْدُ يَرى إذا أخْرَجَ النّارَ، ومِثْلُهُ الفُرْقانُ وهو فُعْلانٌ مِن فَرَّقْتُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ، فَعَلى هَذا لا يَجُوزُ فَتْحُ الهَمْزَةِ؛ لِأنَّهُ لا نَظِيرَ لَهُ، وغالِبُ الظَّنِّ أنَّهُ ما قَرَأهُ إلّا عَنْ سَماعٍ ولَهُ وجْهانِ: أحَدُهُما: أنَّهُ شاذٌّ كَما حَكى بَعْضُهم في البَرْطِيلِ. وثانِيهِما: أنَّهُ ظَنَّ الإنْجِيلَ أعْجَمِيًّا فَحَرَّفَ مِثالَهُ تَنْبِيهًا عَلى كَوْنِهِ أعْجَمِيًّا. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وجَعَلْنا في قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً ورَحْمَةً ورَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها﴾ وفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: احْتَجَّ أصْحابُنا بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى أنَّ فِعْلَ العَبْدِ خَلْقٌ لِلَّهِ تَعالى وكَسْبٌ لِلْعَبْدِ، قالُوا: لِأنَّهُ تَعالى حَكَمَ بِأنَّ هَذِهِ الأشْياءَ مَجْعُولَةٌ لِلَّهِ تَعالى، وحَكَمَ بِأنَّهُمُ ابْتَدَعُوا تِلْكَ الرَّهْبانِيَّةَ، قالَ القاضِي: المُرادُ بِذَلِكَ أنَّهُ تَعالى لَطَفَ بِهِمْ حَتّى قَوِيَتْ دَواعِيهِمْ إلى الرَّهْبانِيَّةِ الَّتِي هي تَحَمُّلُ الكُلْفَةِ الزّائِدَةِ عَلى ما يَجِبُ مِنَ الخَلْوَةِ واللِّباسِ الخَشِنِ. (والجَوابُ) أنَّ هَذا تَرْكٌ لِلظّاهِرِ مِن غَيْرِ دَلِيلٍ، عَلى أنّا وإنْ سَلَّمْنا ذَلِكَ فَهو يُحَصِّلُ مَقْصُودَنا أيْضًا؛ وذَلِكَ لِأنَّ حالَ الِاسْتِواءِ يَمْتَنِعُ حُصُولُ الرُّجْحانِ، وإلّا فَقَدَ حَصَلَ الرُّجْحانُ عِنْدَ الِاسْتِواءِ، والجَمْعُ بَيْنَهُما مُتَناقِضٌ، وإذا كانَ الحُصُولُ عِنْدَ الِاسْتِواءِ مُمْتَنِعًا، كانَ عِنْدَ المَرْجُوحِيَّةِ أوْلى أنْ يَصِيرَ مُمْتَنِعًا، وإذا امْتَنَعَ المَرْجُوحُ وجَبَ الرّاجِحُ ضَرُورَةَ أنَّهُ لا خُرُوجَ عَنْ طَرَفَيِ النَّقِيضِ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قالَ مُقاتِلٌ: المُرادُ مِنَ الرَّأْفَةِ والرَّحْمَةِ هو أنَّهم كانُوا مُتَوادِّينَ بَعْضُهم مَعَ بَعْضٍ، كَما وصَفَ اللَّهُ أصْحابَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بِذَلِكَ في قَوْلِهِ: ﴿رُحَماءُ بَيْنَهُمْ﴾ [الفتح: ٢٩] . المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: قالَ صاحِبُ الكَشّافِ: قُرِئَ ”رَآفَةً“ عَلى فَعالَةٍ. المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: الرَّهْبانِيَّةُ مَعْناها الفِعْلَةُ المَنسُوبَةُ إلى الرُّهْبانِ، وهو الخائِفُ، فَعْلانٌ مِن رَهَبَ، كَخَشْيانَ مِن خَشِيَ، وقُرِئَ: ”ورُهْبانِيَّةً“ بِالضَّمِّ كَأنَّها نِسْبَةٌ إلى الرُّهْبانِ، وهو جَمْعُ راهِبٍ، كَراكِبٍ ورُكْبانٍ، (p-٢١٤)والمُرادُ مِنَ الرَّهْبانِيَّةِ تَرْهُّبُهم في الجِبالِ فارِّينَ مِنَ الفِتْنَةِ في الدِّينِ، مُخْلِصِينَ أنْفُسَهم لِلْعِبادَةِ ومُتَحَمِّلِينَ كُلَفًا زائِدَةً عَلى العِباداتِ الَّتِي كانَتْ واجِبَةً عَلَيْهِمْ مِنَ الخَلْوَةِ، واللِّباسِ الخَشِنِ، والِاعْتِزالِ عَنِ النِّساءِ، والتَّعَبُّدِ في الغِيرانِ والكُهُوفِ. عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّ في أيّامِ الفَتْرَةِ بَيْنَ عِيسى ومُحَمَّدٍ -عَلَيْهِما السَّلامُ- غَيَّرَ المُلُوكُ التَّوْراةَ والإنْجِيلَ، فَساحَ قَوْمٌ في الأرْضِ ولَبِسُوا الصُّوفَ. ورَوى ابْنُ مَسْعُودٍ أنَّهُ -عَلَيْهِ السَّلامُ - قالَ: ”«يا ابْنَ مَسْعُودٍ، أما عَلِمْتَ أنَّ بَنِي إسْرائِيلَ تَفَرَّقُوا سَبْعِينَ فِرْقَةً، كُلُّها في النّارِ إلّا ثَلاثَ فِرَقٍ، فِرْقَةٌ آمَنَتْ بِعِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ، وقاتَلُوا أعْداءَ اللَّهِ في نُصْرَتِهِ حَتّى قُتِلُوا، وفِرْقَةٌ لَمْ يَكُنْ لَها طاقَةٌ بِالقِتالِ، فَأمَرُوا بِالمَعْرُوفِ ونَهَوْا عَنِ المُنْكَرِ، وفِرْقَةٌ لَمْ يَكُنْ لَها طاقَةٌ بِالأمْرَيْنِ، فَلَبِسُوا العَباءَ، وخَرَجُوا إلى القِفارِ والفَيافِي وهو قَوْلُهُ: ﴿وجَعَلْنا في قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً﴾ إلى آخِرِ الآيَةِ» “ . المَسْألَةُ الخامِسَةُ: لَمْ يَعْنِ اللَّهُ تَعالى بِابْتَدَعُوها طَرِيقَةَ الذَّمِّ، بَلِ المُرادُ أنَّهم أحْدَثُوها مِن عِنْدِ أنْفُسِهِمْ ونَذَرُوها؛ ولِذَلِكَ قالَ تَعالى بَعْدَهُ: ﴿ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ﴾ . المَسْألَةُ السّادِسَةُ: ﴿ورَهْبانِيَّةً﴾ مَنصُوبَةٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ، يُفَسِّرُهُ الظّاهِرُ، تَقْدِيرُهُ: ابْتَدَعُوا رَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها، وقالَ أبُو عَلِيٍّ الفارِسِيُّ: الرَّهْبانِيَّةُ لا يَسْتَقِيمُ حَمْلُها عَلى (جَعَلْنا)؛ لِأنَّ ما يَبْتَدِعُونَهُ هم لا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ مَجْعُولًا لِلَّهِ تَعالى، وأقُولُ: هَذا الكَلامُ إنَّما يَتِمُّ لَوْ ثَبَتَ امْتِناعُ مَقْدُورٍ بَيْنَ قادِرَيْنِ، ومِن أيْنَ يَلِيقُ بِأبِي عَلِيٍّ أنْ يَخُوضَ في أمْثالِ هَذِهِ الأشْياءِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب