الباحث القرآني
واعْلَمْ أنَّ المَلِكَ الحَقَّ هو الَّذِي يَسْتَغْنِي في ذاتِهِ، وفي جَمِيعِ صِفاتِهِ عَنْ كُلِّ ما عَداهُ، ويَحْتاجُ كُلُّ ما عَداهُ إلَيْهِ في ذَواتِهِمْ وفي صِفاتِهِمْ، والمَوْصُوفُ بِهَذَيْنِ الأمْرَيْنِ لَيْسَ إلّا هو سُبْحانَهُ. أمّا أنَّهُ مُسْتَغْنٍ في ذاتِهِ وفي جَمِيعِ صِفاتِهِ عَنْ كُلِّ ما عَداهُ فَلِأنَّهُ لَوِ افْتَقَرَ في ذاتِهِ إلى الغَيْرِ؛ لَكانَ مُمْكِنًا لِذاتِهِ فَكانَ مُحْدَثًا، فَلَمْ يَكُنْ واجِبَ الوُجُودِ، وأمّا أنَّهُ مُسْتَغْنٍ في جَمِيعِ صِفاتِهِ السَّلْبِيَّةِ والإضافِيَّةِ عَنْ كُلِّ ما عَداهُ، فَلِأنَّ كُلَّ ما يَفْرِضُ صِفَةٌ لَهُ، فَإمّا أنْ تَكُونَ هُوِيَّتَهُ سُبْحانَهُ كافِيَةً في تَحَقُّقِ تِلْكَ الصِّفَةِ سَواءٌ كانَتِ الصِّفَةُ سَلْبًا أوْ إيجابًا أوْ لا تَكُونُ كافِيَةً في ذَلِكَ، فَإنْ كانَتْ هُوِيَّتَهُ كافِيَةً في ذَلِكَ مِن دَوامِ تِلْكَ الهُوِيَّةِ دَوامَ تِلْكَ الصِّفَةِ سَلْبًا كانَتِ الصِّفَةُ أوْ إيجابًا، وإنْ لَمْ تَكُنْ تِلْكَ لَزِمَ الهُوِيَّةَ كافِيَةٌ، فَحِينَئِذٍ تَكُونُ تِلْكَ الهُوِيَّةُ مُمْتَنِعَةَ الِانْفِكاكِ عَنْ ثُبُوتِ تِلْكَ الصِّفَةِ وعَنْ سَلْبِها، ثُمَّ ثُبُوتُ تِلْكَ الصِّفَةِ وسَلْبُها، يَكُونُ مُتَوَقِّفًا عَلى ثُبُوتِ أمْرٍ آخَرَ وسَلْبِهِ، والمَوْقُوفُ عَلى المَوْقُوفِ عَلى الشَّيْءِ مَوْقُوفٌ عَلى ذَلِكَ الشَّيْءِ، فَهُوِيَّتُهُ سُبْحانَهُ تَكُونُ مَوْقُوفَةَ التَّحَقُّقِ عَلى تَحَقُّقِ عِلَّةِ ثُبُوتِ تِلْكَ الصِّفَةِ أوْ عِلَّةِ سَلْبِها، والمَوْقُوفُ عَلى الغَيْرِ مُمْكِنٌ لِذاتِهِ فَواجِبُ الوُجُودِ لِذاتِهِ مُمْكِنُ الوُجُودِ لِذاتِهِ، وهَذا خُلْفٌ، فَثَبَتَ أنَّهُ سُبْحانَهُ غَيْرُ مُفْتَقِرٍ لا في ذاتِهِ، ولا في شَيْءٍ مِن صِفاتِهِ السَّلْبِيَّةِ ولا الثُّبُوتِيَّةِ إلى غَيْرِهِ، وأمّا أنَّ كَلَّ ما عَداهُ مُفْتَقِرٌ إلَيْهِ فَلِأنَّ كُلَّ ما عَداهُ مُمْكِنٌ؛ لِأنَّ واجِبَ الوُجُودِ لا يَكُونُ أكْثَرَ مِن واحِدٍ والمُمْكِنُ لا بُدَّ لَهُ مِن مُؤَثِّرٍ، ولا واجِبَ إلّا هَذا الواحِدُ فَإذَنْ كُلُّ ما عَداهُ فَهو مُفْتَقِرٌ إلَيْهِ سَواءٌ كانَ جَوْهَرًا أوْ عَرَضًا، وسَواءٌ كانَ الجَوْهَرُ رُوحانِيًّا أوْ جُسْمانِيًّا، وذَهَبَ جَمْعٌ مِنَ العُقَلاءِ إلى أنَّ تَأْثِيرَ واجِبِ الوُجُودِ في إعْطاءِ الوُجُودِ لا في الماهِيّاتِ، فَواجِبُ الوُجُودِ يَجْعَلُ السَّوادَ مَوْجُودًا، أمّا أنَّهُ يَسْتَحِيلُ أنْ يَجْعَلَ السَّوادَ سَوادًا، قالُوا: لِأنَّهُ لَوْ كانَ كَوْنُ السَّوادِ سَوادًا بِالفاعِلِ، لَكانَ يَلْزَمُ مِن فَرْضِ عَدَمِ ذَلِكَ الفاعِلِ أنْ لا يَبْقى السَّوادُ سَوادًا وهَذا مُحالٌ، فَيُقالُ لَهم: يَلْزَمُكم عَلى هَذا التَّقْدِيرِ أنْ لا يَكُونَ الوُجُودُ أيْضًا بِالفاعِلِ، وإلّا لَزِمَ مِن فَرْضِ عَدَمِ ذَلِكَ الفاعِلِ أنْ لا يَكُونَ الوُجُودُ وُجُودًا، فَإنْ قالُوا: تَأْثِيرُ الفاعِلِ لَيْسَ في الوُجُودِ بَلْ في جَعْلِ الماهِيَّةِ مَوْصُوفَةً بِالوُجُودِ، قُلْنا: هَذا مَدْفُوعٌ مِن وجْهَيْنِ:
الأوَّلُ: أنَّ مَوْصُوفِيَّةَ الماهِيَّةِ بِالوُجُودِ لَيْسَ أمْرًا ثُبُوتِيًّا، إذْ لَوْ (p-١٨٢)كانَ أمْرًا ثُبُوتِيًّا لَكانَتْ لَهُ ماهِيَّةٌ ووُجُودٌ، فَحِينَئِذٍ تَكُونُ مَوْصُوفِيَّةُ تِلْكَ الماهِيَّةِ بِالوُجُودِ زائِدَةً عَلَيْهِ ولَزِمَ التَّسَلْسُلُ وهو مُحالٌ، وإذا كانَ مَوْصُوفِيَّةُ الماهِيَّةِ بِالوُجُوهِ لَيْسَ أمْرًا ثُبُوتِيًّا، اسْتَحالَ أنْ يُقالَ: لا تَأْثِيرَ لِلْفاعِلِ في الماهِيَّةِ ولا في الوُجُودِ بَلْ تَأْثِيرُهُ في مَوْصُوفِيَّةِ الماهِيَّةِ بِالوُجُودِ.
الثّانِي: أنَّ بِتَقْدِيرِ أنْ تَكُونَ تِلْكَ المَوْصُوفِيَّةُ أمْرًا ثُبُوتِيًّا، اسْتَحالَ أيْضًا جَعَلُها أثَرًا لِلْفاعِلِ، وإلّا لَزِمَ عِنْدَ فَرْضِ عَدَمِ ذَلِكَ الفاعِلِ أنْ تَبْقى المَوْصُوفِيَّةُ مَوْصُوفِيَّةً، فَظَهَرَ أنَّ الشُّبْهَةَ الَّتِي ذَكَرُوها لَوْ تَمَّتْ واسْتَقَرَّتْ يَلْزَمُ نَفْيُ التَّأْثِيرِ والمُؤَثِّرِ أصْلًا، بَلْ كَما أنَّ الماهِيّاتِ إنَّما صارَتْ مَوْجُودَةً بِتَأْثِيرِ واجِبِ الوُجُودِ، فَكَذا أيْضًا الماهِيّاتُ إنَّما صارَتْ ماهِيّاتٍ بِتَأْثِيرِ واجِبِ الوُجُودِ، وإذا لاحَتْ هَذِهِ الحَقائِقُ ظَهَرَ بِالبُرْهانِ العَقْلِيِّ صِدْقُ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ والأرْضِ﴾ بَلْ مُلْكُ السَّماواتِ والأرْضِ بِالنِّسْبَةِ إلى كَمالِ مُلْكِهِ أقَلُّ مِنَ الذَّرَّةِ، بَلْ لا نِسْبَةَ لَهُ إلى كَمالِ مُلْكِهِ أصْلًا؛ لِأنَّ مُلْكَ السَّماواتِ والأرْضِ مُلْكٌ مُتَناهٍ، وكَمالُ مُلْكِهِ غَيْرُ مُتَناهٍ، والمُتَناهِي لا نِسْبَةَ لَهُ البَتَّةَ إلى غَيْرِ المُتَناهِي، لَكِنَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى ذَكَرَ مُلْكَ السَّماواتِ والأرْضِ؛ لِأنَّهُ شَيْءٌ مُشاهَدٌ مَحْسُوسٌ، وأكْثَرُ الخَلْقِ عُقُولُهم ضَعِيفَةٌ قَلَّما يُمْكِنُهُمُ التَّرَقِّيَ مِنَ المَحْسُوسِ إلى المَعْقُولِ.
* * ثُمَّ إنَّهُ سُبْحانَهُ لَمّا ذَكَرَ مِن دَلائِلِ الآفاقِ مُلْكَ السَّماواتِ والأرْضِ ذَكَرَ بَعْدَهُ دَلائِلَ الأنْفُسِ فَقالَ: ﴿يُحْيِي ويُمِيتُ وهو عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ وفِيهِ مَسْألَتانِ:
المَسْألَةُ الأُولى: ذَكَرَ المُفَسِّرُونَ فِيهِ وجْهَيْنِ:
أحَدُهُما: يُحْيِي الأمْواتَ لِلْبَعْثِ، ويُمِيتُ الأحْياءَ في الدُّنْيا.
والثّانِي: قالَ الزَّجّاجُ: يُحْيِي النُّطَفَ فَيَجْعَلُها أشْخاصًا عُقَلاءَ فاهِمِينَ ناطِقِينَ، ويُمِيتُ. وعِنْدِي فِيهِ وجْهٌ ثالِثٌ وهو أنَّهُ لَيْسَ المُرادُ مِن تَخْصِيصِ الإحْياءِ والإماتَةِ بِزَمانٍ مُعَيَّنٍ وبِأشْخاصٍ مُعَيَّنِينَ، بَلْ مَعْناهُ أنَّهُ هو القادِرُ عَلى خَلْقِ الحَياةِ والمَوْتِ، كَما قالَ في سُورَةِ المُلْكِ: ﴿الَّذِي خَلَقَ المَوْتَ والحَياةَ﴾ [الملك: ٢] والمَقْصُودُ مِنهُ كَوْنُهُ سُبْحانَهُ هو المُنْفَرِدُ بِإيجادِ هاتَيْنِ الماهِيَّتَيْنِ عَلى الإطْلاقِ، لا يَمْنَعُهُ عَنْهُما مانِعٌ ولا يَرُدُّهُ عَنْهُما رادٌّ، وحِينَئِذٍ يَدْخُلُ فِيهِ الوَجْهانِ اللَّذانِ ذَكَرَهُما المُفَسِّرُونَ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: مَوْضِعُ ﴿يُحْيِي ويُمِيتُ﴾ رَفْعٌ عَلى مَعْنى هو يُحْيِي ويُمِيتُ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ نَصْبًا عَلى مَعْنى: لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ والأرْضِ حالَ كَوْنِهِ مُحْيِيًا ومُمِيتًا. واعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا ذَكَرَ دَلائِلَ الآفاقِ أوَّلًا: ودَلائِلَ الأنْفُسِ ثانِيًا: ذَكَرَ لَفْظًا يَتَناوَلُ الكُلَّ فَقالَ: ﴿وهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ وفَوائِدُ هَذِهِ الآيَةِ مَذْكُورَةٌ في أوَّلِ سُورَةِ المُلْكِ.
{"ayah":"لَهُۥ مُلۡكُ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ یُحۡیِۦ وَیُمِیتُۖ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءࣲ قَدِیرٌ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق