الباحث القرآني
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ألَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهم لِذِكْرِ اللَّهِ وما نَزَلَ مِنَ الحَقِّ ولا يَكُونُوا كالَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ مِن قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الأمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهم وكَثِيرٌ مِنهم فاسِقُونَ﴾
وفِيهِ مَسْألَتانِ:
المَسْألَةُ الأُولى: قَرَأ الحَسَنُ: ”ألَمّا يَأْنِ“، قالَ ابْنُ جِنِّي: أصْلُ لَمّا لَمْ، ثُمَّ زِيدَ عَلَيْها ما، فَـ ”لَمْ“ نَفْيٌ لِقَوْلِهِ: أفْعَلُ، ولَمّا: نَفْيٌ لِقَوْلِهِ: قَدْ يَفْعَلُ، وذَلِكَ لِأنَّهُ لَمّا زِيدَ في الإثْباتِ ”قَدْ“ لا جَرَمَ زِيدَ في نَفْيِهِ ”ما“، إلّا أنَّهم لَمّا رَكَّبُوا ”لَمْ“ مَعَ ”ما“ حَدَثَ لَها مَعْنًى ولَفْظٌ، أمّا المَعْنى فَإنَّها صارَتْ في بَعْضِ المَواضِعِ ظَرْفًا، فَقالُوا: لَمّا قُمْتَ قامَ زَيْدٌ، أيْ وقْتَ قِيامِكَ قامَ زَيْدٌ، وأمّا اللَّفْظُ فَإنَّهُ يَجُوزُ أنْ تَقِفَ عَلَيْها دُونَ مَجْزُومِها، فَيَجُوزُ أنْ تَقُولَ: جِئْتُ ولَمّا، أيْ ولَمّا يَجِئْ، ولا يَجُوزُ أنْ يَقُولَ: جِئْتُ ولَمْ.
وأمّا الَّذِينَ قَرَأُوا: ”ألَمْ يَأْنِ“ فالمَشْهُورُ ألَمْ يَأْنِ مِن أنى الأمْرُ يَأْنِي إذا جاءَ إناهُ أيْ وقْتُهُ. وقُرِئَ: ألَمْ يَئِنْ، مِن أنَّ يَئِينُ بِمَعْنى أنى يَأْنِي.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا في قَوْلِهِ: ﴿ألَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهم لِذِكْرِ اللَّهِ﴾ فَقالَ بَعْضُهم: نَزَلَ في المُنافِقِينَ الَّذِينَ أظْهَرُوا الإيمانَ وفي قُلُوبِهِمُ النِّفاقُ المُبايِنُ لِلْخُشُوعِ، والقائِلُونَ بِهَذا القَوْلِ لَعَلَّهم ذَهَبُوا إلى أنَّ المُؤْمِنَ لا يَكُونُ مُؤْمِنًا في الحَقِيقَةِ إلّا مَعَ خُشُوعِ القَلْبِ، فَلا يَجُوزُ أنْ يَقُولَ تَعالى ذَلِكَ إلّا لِمَن لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ، وقالَ آخَرُونَ: بَلِ المُرادُ مَن هو مُؤْمِنٌ عَلى الحَقِيقَةِ، لَكِنَّ المُؤْمِنَ قَدْ يَكُونُ لَهُ خُشُوعٌ وخَشْيَةٌ، وقَدْ لا يَكُونُ كَذَلِكَ، ثُمَّ عَلى هَذا القَوْلِ تَحْتَمِلُ الآيَةُ وُجُوهًا:
أحَدُها: لَعَلَّ طائِفَةً مِنَ المُؤْمِنِينَ ما كانَ فِيهِمْ مَزِيدُ خُشُوعٍ ولا رِقَّةٍ، فَحُثُّوا عَلَيْهِ بِهَذِهِ الآيَةِ.
وثانِيها: لَعَلَّ قَوْمًا كانَ فِيهِمْ خُشُوعٌ كَثِيرٌ، ثُمَّ زالَ مِنهم شِدَّةُ ذَلِكَ الخُشُوعِ، فَحُثُّوا عَلى المُعاوَدَةِ إلَيْها. عَنِ الأعْمَشِ قالَ: إنَّ الصَّحابَةَ لَمّا قَدِمُوا المَدِينَةَ أصابُوا لِينًا في العَيْشِ ورَفاهِيَةً، فَفَتَرُوا عَنْ بَعْضِ ما كانُوا عَلَيْهِ، فَعُوتِبُوا بِهَذِهِ الآيَةِ. وعَنْ أبِي بَكْرٍ: أنَّ هَذِهِ الآيَةَ قُرِئَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ وعِنْدَهُ (p-٢٠٠)قَوْمٌ مِن أهْلِ اليَمامَةِ، فَبَكَوْا بُكاءً شَدِيدًا، فَنَظَرَ إلَيْهِمْ فَقالَ: هَكَذا كُنّا حَتّى قَسَتِ القُلُوبُ، وأمّا قَوْلُهُ: ﴿لِذِكْرِ اللَّهِ﴾ فَفِيهِ قَوْلانِ:
الأوَّلُ: أنَّ تَقْدِيرَ الآيَةِ: أما حانَ لِلْمُؤْمِنِينَ أنْ تَرِقَّ قُلُوبُهم لِذِكْرِ اللَّهِ، أيْ مَواعِظِ اللَّهِ الَّتِي ذَكَرَها في القُرْآنِ، وعَلى هَذا الذِّكْرُ مُصْدَرٌ أُضِيفَ إلى الفاعِلِ.
والقَوْلُ الثّانِي: أنَّ الذِّكْرَ مُضافٌ إلى المَفْعُولِ، والمَعْنى: لِذِكْرِهِمُ اللَّهَ، أيْ يَجِبُ أنْ يُورِثَهُمُ الذِّكْرُ خُشُوعًا، ولا يَكُونُوا كَمَن ذِكْرُهُ بِالغَفْلَةِ فَلا يَخْشَعُ قَلْبُهُ لِلذِّكْرِ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وما نَزَلَ مِنَ الحَقِّ﴾ فِيهِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: ما في مَوْضِعِ جَرٍّ بِالعَطْفِ عَلى الذِّكْرِ وهو مَوْصُولٌ، والعائِدُ إلَيْهِ مَحْذُوفٌ عَلى تَقْدِيرِ: وما نَزَلَ مِنَ الحَقِّ، ثُمَّ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿وما نَزَلَ مِنَ الحَقِّ﴾ يَعْنِي القُرْآنَ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قالَ أبُو عَلِيٍّ: قَرَأ نافِعٌ وحَفْصٌ والمُفَضَّلُ عَنْ عاصِمٍ: ﴿وما نَزَلَ مِنَ الحَقِّ﴾ خَفِيفَةً، وقَرَأ الباقُونَ وأبُو بَكْرٍ عَنْ عاصِمٍ: ”وما نَزَّلَ“ مُشَدَّدَةً، وعَنْ أبِي عَمْرٍو: ”وما نُزِّلَ مِنَ الحَقِّ“مُرْتَفِعَةَ النُّونِ مَكْسُورَةَ الزّايِ، والتَّقْدِيرُ في القِراءَةِ الأُولى: أنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهم لِذِكْرِ اللَّهِ ولِما نَزَلَ مِنَ الحَقِّ، وفي القِراءَةِ الثّانِيَةِ: ولِما نَزَّلَهُ اللَّهُ مِنَ الحَقِّ، وفي القِراءَةِ الثّالِثَةِ: ولِما نُزِّلَ مِنَ الحَقِّ.
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المُرادُ مِنَ الحَقِّ هو القُرْآنَ؛ لِأنَّهُ جامِعٌ لِلْوَصْفَيْنِ؛ الذِّكْرِ والمَوْعِظَةِ، وأنَّهُ حَقٌّ نازِلٌ مِنَ السَّماءِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المُرادُ مِنَ الذِّكْرِ هو ذِكْرَ اللَّهِ مُطْلَقًا، والمُرادُ بِما نَزَلَ مِنَ الحَقِّ هو القُرْآنَ، وإنَّما قُدِّمَ الخُشُوعُ بِالذِّكْرِ عَلى الخُشُوعِ بِما نَزَلَ مِنَ القُرْآنِ؛ لِأنَّ الخُشُوعَ والخَوْفَ والخَشْيَةَ لا تَحْصُلُ إلّا عِنْدَ ذِكْرِ اللَّهِ، فَأمّا حُصُولُها عِنْدَ سَماعِ القُرْآنِ فَذاكَ لِأجْلِ اشْتِمالِ القُرْآنِ عَلى ذِكْرِ اللَّهِ، ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ولا يَكُونُوا﴾ قالَ الفَرّاءُ: هو في مَوْضِعِ نَصْبٍ، مَعْناهُ: ألَمْ يَأْنِ أنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهم، وأنْ لا يَكُونُوا، قالَ: ولَوْ كانَ جَزْمًا عَلى النَّهْيِ كانَ صَوابًا، ويَدُلُّ عَلى هَذا الوَجْهِ قِراءَةُ مَن قَرَأ بِالتّاءِ عَلى سَبِيلِ الِالتِفاتِ، ثُمَّ قالَ: ﴿كالَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ مِن قَبْلُ﴾ يُرِيدُ اليَهُودَ والنَّصارى: ﴿فَطالَ عَلَيْهِمُ الأمَدُ﴾ وفِيهِ مَسْألَتانِ:
المَسْألَةُ الأُولى: ذَكَرُوا في تَفْسِيرِ طُولِ الأمَدِ وُجُوهًا:
أحَدُها: طالَتِ المُدَّةُ بَيْنَهم وبَيْنَ أنْبِيائِهِمْ فَقَسَتْ قُلُوبُهم.
وثانِيها: قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: مالُوا إلى الدُّنْيا وأعْرَضُوا عَنْ مَواعِظِ اللَّهِ.
وثالِثُها: طالَتْ أعْمارُهم في الغَفْلَةِ، فَحَصَلَتِ القَسْوَةُ في قُلُوبِهِمْ بِذَلِكَ السَّبَبِ.
ورابِعُها: قالَ ابْنُ حِبانٍ: الأمَدُ هَهُنا الأمَلُ البَعِيدُ، والمَعْنى عَلى هَذا: طالَ عَلَيْهِمُ الأمَدُ بِطُولِ الأمَلِ، أيْ لَمّا طالَتْ آمالُهم لا جَرَمَ قَسَتْ قُلُوبُهم.
وخامِسُها: قالَ مُقاتِلُ بْنُ سُلَيْمانَ: طالَ عَلَيْهِمْ أمَدُ خُرُوجِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلامُ.
وسادِسُها: طالَ عَهْدُهم بِسَماعِ التَّوْراةِ والإنْجِيلِ فَزالَ وقْعُهُما عَنْ قُلُوبِهِمْ، فَلا جَرَمَ قَسَتْ قُلُوبُهم، فَكَأنَّهُ تَعالى نَهى المُؤْمِنِينَ عَنْ أنْ يَكُونُوا كَذَلِكَ، قالَهُ القُرَظِيُّ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قُرِئَ: ”الأمَدُّ“ بِالتَّشْدِيدِ، أيِ الوَقْتُ الأطْوَلُ، ثُمَّ قالَ: ﴿وكَثِيرٌ مِنهم فاسِقُونَ﴾ أيْ خارِجُونَ عَنْ دِينِهِمْ رافِضُونَ لِما في الكِتابَيْنِ، وكَأنَّهُ إشارَةٌ إلى أنَّ عَدَمَ الخُشُوعِ في أوَّلِ الأمْرِ يُفْضِي إلى الفِسْقِ في آخِرِ الأمْرِ.
{"ayah":"۞ أَلَمۡ یَأۡنِ لِلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ أَن تَخۡشَعَ قُلُوبُهُمۡ لِذِكۡرِ ٱللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ ٱلۡحَقِّ وَلَا یَكُونُوا۟ كَٱلَّذِینَ أُوتُوا۟ ٱلۡكِتَـٰبَ مِن قَبۡلُ فَطَالَ عَلَیۡهِمُ ٱلۡأَمَدُ فَقَسَتۡ قُلُوبُهُمۡۖ وَكَثِیرࣱ مِّنۡهُمۡ فَـٰسِقُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











