الباحث القرآني
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ﴾ ﴿وإنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ﴾ وفِيهِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: في التَّرْتِيبِ ووَجْهُهُ هو أنَّ اللَّهَ تَعالى لَمّا أرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدى ودِينِ الحَقِّ آتاهُ كُلَّ ما يَنْبَغِي لَهُ وطَهَّرَهُ عَنْ كُلِّ ما لا يَنْبَغِي لَهُ، فَآتاهُ الحِكْمَةَ وهي البَراهِينُ القاطِعَةُ واسْتِعْمالُها عَلى وُجُوهِها، والمَوْعِظَةَ الحَسَنَةَ وهي الأُمُورُ المُفِيدَةُ المُرَقِّقَةُ لِلْقُلُوبِ المُنَوِّرَةُ لِلصُّدُورِ، والمُجادَلَةَ الَّتِي هي عَلى أحْسَنِ الطُّرُقِ فَأتى بِها وعَجَزَ الكُلُّ عَنْ مُعارَضَتِهِ بِشَيْءٍ ولَمْ يُؤْمِنُوا، والَّذِي يُتْلى عَلَيْهِ كُلُّ ذَلِكَ ولا يُؤْمِنُ لا يَبْقى لَهُ غَيْرَ أنَّهُ يَقُولُ: هَذا البَيانُ لَيْسَ لِظُهُورِ المُدَّعى بَلْ لِقُوَّةِ ذِهْنِ المُدَّعِي وقُوَّتِهِ عَلى تَرْكِيبِ الأدِلَّةِ وهو يَعْلَمُ أنَّهُ يَغْلِبُ بِقُوَّةِ جِدالِهِ لا بِظُهُورِ مَقالِهِ ورُبَّما يَقُولُ أحَدُ المُناظِرَيْنِ لِلْآخَرِ عِنْدَ انْقِطاعِهِ: أنْتَ تَعْلَمُ أنَّ الحَقَّ بِيَدِي لَكِنْ تَسْتَضْعِفُنِي ولا تُنْصِفُنِي، وحِينَئِذٍ لا يَبْقى لِلْخَصْمِ جَوابٌ غَيْرَ القَسَمِ بِالأيْمانِ الَّتِي لا مَخارِجَ عَنْها أنَّهُ غَيْرُ مُكابِرٍ وأنَّهُ مُنْصِفٌ، وذَلِكَ لِأنَّهُ لَوْ أتى بِدَلِيلٍ آخَرَ لَكانَ لَهُ أنْ يَقُولَ: وهَذا الدَّلِيلُ أيْضًا غَلَبْتَنِي فِيهِ بِقُوَّتِكَ وقُدْرَتِكَ، فَكَذَلِكَ النَّبِيُّ ﷺ لَمّا آتاهُ اللَّهُ جَلَّ وعَزَّ ما يَنْبَغِي قالُوا: إنَّهُ يُرِيدُ التَّفَضُّلَ عَلَيْنا وهو يُجادِلُنا فِيما يَعْلَمُ (p-١٦٣)خِلافَهُ، فَلَمْ يَبْقَ لَهُ إلّا أنْ يُقْسِمَ فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ أنْواعًا مِنَ القَسَمِ بَعْدَ الدَّلائِلِ، ولِهَذا كَثُرَتِ الأيْمانُ في أوائِلِ التَّنْزِيلِ وفي السُّبُعِ الأخِيرِ خاصَّةً.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: في تَعَلُّقِ الباءِ، نَقُولُ: إنَّهُ لَمّا بَيَّنَ أنَّهُ خالِقُ الخَلْقِ والرِّزْقِ ولَهُ العَظَمَةُ بِالدَّلِيلِ القاطِعِ ولَمْ يُؤْمِنُوا قالَ: لَمْ يَبْقَ إلّا القَسَمُ فَأُقْسِمُ بِاللَّهِ إنِّي لَصادِقٌ.
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: ما المَعْنى مِن قَوْلِهِ: ﴿فَلا أُقْسِمُ﴾ مَعَ أنَّكَ تَقُولُ: إنَّهُ قَسَمٌ ؟ نَقُولُ: فِيهِ وُجُوهٌ مَنقُولَةٌ ومَعْقُولَةٌ غَيْرُ مُخالِفَةٍ لِلنَّقْلِ، أمّا المَنقُولُ:
فَأحَدُها: أنَّ (لا) زائِدَةٌ مِثْلُها في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿لِئَلّا يَعْلَمَ﴾ [الحديد: ٢٩] مَعْناهُ لِيَعْلَمَ.
ثانِيها: أصْلُها لَأُقْسِمُ بِلامِ التَّأْكِيدِ أُشْبِعَتْ فَتْحَتُها فَصارَتْ لا كَما في الوَقْفِ.
ثالِثُها: لا نافِيَةٌ وأصْلُهُ عَلى مَقالَتِهِمْ والقَسَمُ بَعْدَها كَأنَّهُ قالَ: لا، واللَّهِ لا صِحَّةَ لِقَوْلِ الكُفّارِ أُقْسِمُ عَلَيْهِ، أمّا المَعْقُولُ فَهو أنَّ كَلِمَةَ لا هي نافِيَةٌ عَلى مَعْناها غَيْرَ أنَّ في الكَلامِ مَجازًا تَرْكِيبِيًّا، وتَقْدِيرُهُ أنْ نَقُولَ: لا في النَّفْيِ هُنا كَهي في قَوْلِ القائِلِ: لا تَسْألْنِي عَمّا جَرى عَلَيَّ، يُشِيرُ إلى أنَّ ما جَرى عَلَيْهِ أعْظَمُ مِن أنْ يُشْرَحَ فَلا يَنْبَغِي أنْ يَسْألَهُ، فَإنَّ غَرَضَهُ مِنَ السُّؤالِ لا يَحْصُلُ ولا يَكُونُ غَرَضُهُ مِن ذَلِكَ النَّهْيِ إلّا بَيانَ عَظَمَةِ الواقِعَةِ، ويَصِيرُ كَأنَّهُ قالَ: جَرى عَلَيَّ أمْرٌ عَظِيمٌ. ويَدُلُّ عَلَيْهِ أنَّ السّامِعَ يَقُولُ لَهُ: ماذا جَرى عَلَيْكَ ؟ ولَوْ فَهِمَ مِن حَقِيقَةِ كَلامِهِ النَّهْيَ عَنِ السُّؤالِ لَما قالَ: ماذا جَرى عَلَيْكَ، فَيَصِحُّ مِنهُ أنْ يَقُولَ: أخْطَأْتُ حَيْثُ مَنَعْتُكَ عَنِ السُّؤالِ، ثُمَّ سَألْتَنِي وكَيْفَ لا وكَثِيرًا ما يَقُولُ ذَلِكَ القائِلُ الَّذِي قالَ: لا تَسْألْنِي عِنْدَ سُكُوتِ صاحِبِهِ عَنِ السُّؤالِ، أوْ لا تَسْألْنِي، ولا تَقُولُ: ماذا جَرى عَلَيْكَ ولا يَكُونُ لِلسّامِعِ أنْ يَقُولَ: إنَّكَ مَنَعْتَنِي عَنِ السُّؤالِ كُلُّ ذَلِكَ تَقَرَّرَ في أفْهامِهِمْ أنَّ المُرادَ تَعْظِيمُ الواقِعَةِ لا النَّهْيُ، إذا عُلِمَ هَذا فَنَقُولُ في القَسَمِ مِثْلُ هَذا مَوْجُودٌ مِن أحَدِ وجْهَيْنِ:
إمّا لِكَوْنِ الواقِعَةِ في غايَةِ الظُّهُورِ، فَيَقُولُ: لا أُقْسِمُ بِأنَّهُ عَلى هَذا الأمْرِ؛ لِأنَّهُ أظْهَرُ مِن أنْ يُشْهَرَ، وأكْثَرُ مِن أنْ يُنْكَرَ، فَيَقُولُ: لا أُقْسِمُ ولا يُرِيدُ بِهِ القَسَمَ ونَفْيَهُ، وإنَّما يُرِيدُ الإعْلامَ بِأنَّ الواقِعَةَ ظاهِرَةٌ.
وإمّا لِكَوْنِ المُقْسَمِ بِهِ فَوْقَ ما يُقْسِمُ بِهِ، والمُقْسِمُ صارَ يُصَدِّقُ نَفْسَهُ فَيَقُولُ لا أُقْسِمُ يَمِينًا بَلْ ألْفَ يَمِينٍ، ولا أُقْسِمُ بِرَأْسِ الأمِيرِ بَلْ بِرَأْسِ السُّلْطانِ، ويَقُولُ: لا أُقْسِمُ بِكَذا مُرِيدًا لِكَوْنِهِ في غايَةِ الجَزْمِ.
والثّانِي: يَدُلُّ عَلَيْهِ أنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ لَمْ تَرِدْ في القُرْآنِ، والمُقْسَمُ بِهِ هو اللَّهُ تَعالى أوْ صِفَةٌ مِن صِفاتِهِ، وإنَّما جاءَتْ أُمُورٌ مَخْلُوقَةٌ والأوَّلُ لا يَرِدُ عَلَيْهِ إشْكالٌ إنْ قُلْنا إنَّ المُقْسَمَ بِهِ في جَمِيعِ المَواضِعِ رَبُّ الأشْياءِ كَما في قَوْلِهِ: ﴿والصّافّاتِ﴾ [الصافات: ١] المُرادُ مِنهُ رَبُّ الصّافّاتِ ورَبُّ القِيامَةِ ورَبُّ الشَّمْسِ إلى غَيْرِ ذَلِكَ فَإذًا قَوْلُهُ: ﴿فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ﴾ أيْ: الأمْرُ أظْهَرُ مِن أنْ يُقْسَمَ عَلَيْهِ، وأنْ يَتَطَرَّقَ الشَّكُّ إلَيْهِ.
المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: مَواقِعُ النُّجُومِ ما هي ؟ فَنَقُولُ: فِيهِ وُجُوهٌ:
الأوَّلُ: المَشارِقُ والمَغارِبُ أوِ المَغارِبُ وحْدَها، فَإنَّ عِنْدَها سُقُوطَ النُّجُومِ.
الثّانِي: هي مَواضِعُها في السَّماءِ في بُرُوجِها ومَنازِلِها.
الثّالِثُ: مَواقِعُها في اتِّباعِ الشَّياطِينِ عِنْدَ المُزاحَمَةِ.
الرّابِعُ: مَواقِعُها يَوْمَ القِيامَةِ حِينَ تَنْتَثِرُ النُّجُومُ، وأمّا مَواقِعُ نُجُومِ القُرْآنِ فَهي قُلُوبُ عِبادِهِ ومَلائِكَتِهِ ورُسُلِهِ وصالِحِي المُؤْمِنِينَ، أوْ مَعانِيها وأحْكامُها الَّتِي ورَدَتْ فِيها.
المَسْألَةُ الخامِسَةُ: هَلْ في اخْتِصاصِ مَواقِعِ النُّجُومِ لِلْقَسَمِ بِها فائِدَةٌ ؟ قُلْنا: نَعَمْ فائِدَةٌ جَلِيلَةٌ، وبَيانُها أنّا قَدْ ذَكَرْنا أنَّ القَسَمَ بِمَواقِعِها كَما هي قَسَمٌ كَذَلِكَ هي مِنَ الدَّلائِلِ، وقَدْ بَيَّنّاهُ في الذّارِياتِ، وفي الطُّورِ، وفي النَّجْمِ، وغَيْرِها، فَنَقُولُ: هي هُنا أيْضًا كَذَلِكَ، وذَلِكَ مِن حَيْثُ إنَّ اللَّهَ تَعالى لَمّا ذَكَرَ خَلْقَ الآدَمِيِّ مِنَ المَنِيِّ (p-١٦٤)ومَوْتَهُ، بَيَّنَ بِإشارَتِهِ إلى إيجادِ الضِّدَّيْنِ في الأنْفُسِ قُدْرَتِهِ واخْتِيارِهِ، ثُمَّ لَمّا ذَكَرَ دَلِيلًا مِن دَلائِلِ الأنْفُسِ ذَكَرَ مِن دَلائِلِ الآفاقِ أيْضًا قُدْرَتَهُ واخْتِيارَهُ، فَقالَ: ﴿أفَرَأيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ﴾ [الواقعة: ٦٣] ﴿أفَرَأيْتُمُ الماءَ﴾ [الواقعة: ٦٨] إلى غَيْرِ ذَلِكَ، وذَكَرَ قُدْرَتَهُ عَلى زَرْعِهِ وجَعْلِهِ حُطامًا، وخَلْقِهِ الماءَ فُراتًا عَذْبًا، وجَعْلِهِ أُجاجًا، إشارَةً إلى أنَّ القادِرَ عَلى الضِّدَّيْنِ مُخْتارٌ، ولَمْ يَكُنْ ذَكَرَ مِنَ الدَّلائِلِ السَّماوِيَّةِ شَيْئًا، فَذَكَرَ الدَّلِيلَ السَّماوِيَّ في مَعْرِضِ القَسَمِ، وقالَ: مَواقِعُ النُّجُومِ، فَإنَّها أيْضًا دَلِيلُ الِاخْتِيارِ؛ لِأنَّ كَوْنَ كُلِّ واحِدٍ في مَوْضِعٍ مِنَ السَّماءِ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ المَواضِعِ مَعَ اسْتِواءِ المَواضِعِ في الحَقِيقَةِ دَلِيلُ فاعِلٍ مُخْتارٍ، فَقالَ: ﴿بِمَواقِعِ النُّجُومِ﴾ لَيْسَ إلى البَراهِينِ النَّفْسِيَّةِ والآفاقِيَّةِ بِالذِّكْرِ كَما قالَ تَعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آياتِنا في الآفاقِ وفي أنْفُسِهِمْ﴾ [فصلت: ٥٣] وهَذا كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وفِي الأرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ﴾ ﴿وفِي أنْفُسِكم أفَلا تُبْصِرُونَ﴾ ﴿وفِي السَّماءِ رِزْقُكم وما تُوعَدُونَ﴾ [الذاريات: ٢١] حَيْثُ ذَكَرَ الأنْواعَ الثَّلاثَةَ كَذَلِكَ هُنا، ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وإنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ﴾ والضَّمِيرُ عائِدٌ إلى القَسَمِ الَّذِي يَتَضَمَّنُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَلا أُقْسِمُ﴾ فَإنَّهُ يَتَضَمَّنُ ذِكْرَ المَصْدَرِ، ولِهَذا تُوصَفُ المَصادِرُ الَّتِي لَمْ تَظْهَرُ بَعْدَ الفِعْلِ، فَيُقالُ: ضَرَبْتُهُ قَوِيًّا، وفِيهِ مَسائِلُ نَحْوِيَّةٌ ومَعْنَوِيَّةٌ، أمّا النَّحْوِيَّةُ:
فالمَسْألَةُ الأُولى: هو أنْ يُقالَ: جَوابُ ﴿لَوْ تَعْلَمُونَ﴾ ماذا ؟ ورُبَّما يَقُولُ بَعْضُ مَن لا يَعْلَمُ: إنَّ جَوابَهُ ما تَقَدَّمَ وهو فاسِدٌ في جَمِيعِ المَواضِعِ؛ لِأنَّ جَوابَ الشَّرْطِ لا يَتَقَدَّمُ، وذَلِكَ لِأنَّ عَمَلَ الحُرُوفِ في مَعْمُولاتِها لا يَكُونُ قَبْلَ وُجُودِها، فَلا يُقالُ: زَيْدًا إنْ قامَ ولا غَيْرُهُ مِنَ الحُرُوفِ والسِّرُّ فِيهِ أنَّ عَمَلَ الحُرُوفِ مُشَبَّهٌ بِعَمَلِ المَعانِي، ويُمَيِّزُ بَيْنَ الفاعِلِ والمَفْعُولِ وغَيْرِهِما، فَإذا كانَ العامِلُ مَعْنًى لا مَوْضِعَ لَهُ في الحِسِّ فَيُعْلَمُ تَقَدُّمُهُ وتَأخُّرُ مُدْرَكٍ بِالحِسِّ، جازَ أنْ يُقالَ: قائِمًا ضَرَبْتُ زَيْدًا، أوْ ضَرْبًا شَدِيدًا ضَرْبَتُهُ، وأمّا الحُرُوفُ فَلَها تَقَدُّمٌ وتَأخُّرٌ مُدْرَكٌ بِالحِسِّ فَلَمْ يُمْكِنْ بَعْدَ عِلْمِنا بِتَأخُّرِها فَرْضُ وُجُودِها مُتَقَدِّمَةً بِخِلافِ المَعانِي، إذا ثَبَتَ هَذا فَنَقُولُ: عَمَلُ حَرْفِ الشَّرْطِ في المَعْنى إخْراجُ كُلِّ واحِدَةٍ مِنَ الجُمْلَتَيْنِ عَنْ كَوْنِها جُمْلَةً مُسْتَقِلَّةً، فَإذا قُلْتَ: مَن، وإنْ، لا يُمْكِنُ إخْراجُ الجُمْلَةِ الأُولى عَنْ كَوْنِها جُمْلَةً بَعْدِ وُقُوعِها جُمَلٌ، لِيُعْلَمَ أنَّ حَرْفَها أضْعَفُ مِن عَمَلِ المَعْنى لِتَوَقُّفِهِ عَلى عَمَلِهِ مَعَ أنَّ المَعْنى أمْكَنَ فَرْضُهُ مُتَقَدِّمًا ومُتَأخِّرًا وعَمَلُ الأفْعالِ عَمَلٌ مَعْنَوِيٌّ، وعَمَلُ الحُرُوفِ عَمَلٌ مُشَبَّهٌ بِالمَعْنى، إذا ثَبَتَ هَذا فَنَقُولُ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وهَمَّ بِها لَوْلا أنْ رَأى﴾ [يوسف: ٢٤] قالَ بَعْضُ الوُعّاظِ مُتَعَلِّقٌ بِلَوْلا، فَلا يَكُونُ الهَمُّ وقَعَ مِنهُ، وهو باطِلٌ لِما ذَكَرْنا، وهُنا أدْخَلُ في البُطْلانِ؛ لِأنَّ المُتَقَدِّمَ لا يَصْلُحُ جَزاءً لِلْمُتَأخِّرِ، فَإنَّ مَن قالَ: لَوْ تَعْلَمُونَ إنَّ زَيْدًا لَقائِمٌ، لَمْ يَأْتِ بِالعَرَبِيَّةِ، إذا تَبَيَّنَ هَذا فالقَوْلُ يَحْتَمِلُ وجْهَيْنِ:
أحَدُهُما: أنْ يُقالَ: الجَوابُ مَحْذُوفٌ بِالكُلِّيَّةِ لَمْ يُقْصَدْ بِذَلِكَ جَوابٌ، وإنَّما يُرادُ نَفْيُ ما دَخَلَتْ عَلَيْهِ لَوْ، وكَأنَّهُ قالَ: وإنَّهُ لَقَسَمٌ لا تَعْلَمُونَ، وتَحْقِيقُهُ أنَّ لَوْ تُذْكَرُ لِامْتِناعِ الشَّيْءِ لِامْتِناعِ غَيْرِهِ، فَلا بُدَّ مِنَ انْتِفاءِ الأوَّلِ، فَإدْخالُ لَوْ عَلى تَعْلَمُونَ أفادَنا أنَّ عِلْمَهم مُنْتَفٍ، سَواءٌ عَلِمْنا الجَوابَ أوْ لَمْ نَعْلَمْ، وهو كَقَوْلِهِمْ في الفِعْلِ المُتَعَدِّي فُلانٌ يُعْطِي ويَمْنَعُ، حَيْثُ لا يُقْصَدُ بِهِ مَفْعُولٌ، وإنَّما يُرادُ إثْباتُ القُدْرَةِ، وعَلى هَذا إنْ قِيلَ: فَما فائِدَةُ العُدُولِ إلى غَيْرِ الحَقِيقَةِ، وتَرْكِ قَوْلِهِ: إنَّهُ لَقَسَمٌ ولا تَعْلَمُونَ ؟ فَنَقُولُ: فائِدَتُهُ تَأْكِيدُ النَّفْيِ؛ لِأنَّ مَن قالَ: لَوْ تَعْلَمُونَ كانَ ذَلِكَ دَعْوى مِنهُ، فَإذا طُولِبَ وقِيلَ: لِمَ قُلْتَ: إنّا لا نَعْلَمُ يَقُولُ: لَوْ تَعْلَمُونَ لَفَعَلْتُمْ كَذا، فَإذا قالَ في ابْتِداءِ الأمْرِ: لا تَعْلَمُونَ كانَ مُرِيدًا لِلنَّفْيِ، فَكَأنَّهُ قالَ: أقُولُ: إنَّكم لا تَعْلَمُونَ قَوْلًا مِن غَيْرِ تَعَلُّقٍ بِدَلِيلٍ وسَبَبٍ.
وثانِيهِما: أنْ يَكُونَ لَهُ جَوابٌ تَقْدِيرُهُ: لَوْ تَعْلَمُونَ لَعَظَّمْتُمُوهُ لَكِنَّكم ما عَظَّمْتُمُوهُ، فَعُلِمَ أنَّكم لا تَعْلَمُونَ، إذْ لَوْ تَعْلَمُونَ لَعَظُمَ في أعْيُنِكم، ولا تَعْظِيمَ فَلا تَعْلَمُونَ.
(p-١٦٥)المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: إنْ قِيلَ قَوْلُهُ: ﴿لَوْ تَعْلَمُونَ﴾ هَلْ لَهُ مَفْعُولٌ أمْ لا ؟ قُلْنا: عَلى الوَجْهِ الأوَّلِ لا مَفْعُولَ لَهُ، كَما في قَوْلِهِمْ: فُلانٌ يُعْطِي ويَمْنَعُ، وكَأنَّهُ قالَ: لا عِلْمَ لَكم، ويُحْتَمَلُ أنْ يُقالَ: لا عِلْمَ لَكم بِعِظَمِ القَسَمِ، فَيَكُونُ لَهُ مَفْعُولٌ، والأوَّلُ أبْلَغُ وأدْخَلُ في الحُسْنِ؛ لِأنَّهم لا يَعْلَمُونَ شَيْئًا أصْلًا؛ لِأنَّهم لَوْ عَلِمُوا لَكانَ أوْلى الأشْياءِ بِالعِلْمِ هَذِهِ الأُمُورُ الظّاهِرَةُ بِالبَراهِينِ القاطِعَةِ، فَهو كَقَوْلِهِ: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ﴾ [البقرة: ١٨] وقَوْلِهِ: ﴿كالأنْعامِ بَلْ هم أضَلُّ﴾ [الأعراف: ١٧٩] وعَلى الثّانِي أيْضًا يَحْتَمِلُ وجْهَيْنِ:
أحَدُهُما: لَوْ كانَ لَكم عِلْمٌ بِالقَسَمِ لَعَظَّمْتُمُوهُ.
وثانِيهِما: لَوْ كانَ لَكم عِلْمٌ بِعَظَمَتِهِ لَعَظَّمْتُمُوهُ.
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: كَيْفَ تَعَلَّقَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لَوْ تَعْلَمُونَ﴾ بِما قَبْلَهُ وما بَعْدَهُ ؟ فَنَقُولُ: هو كَلامُ اعْتِراضٍ في أثْناءِ الكَلامِ تَقْدِيرُهُ: وإنَّهُ لَقَسَمٌ عَظِيمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ لَصَدَّقْتُمْ، فَإنْ قِيلَ: فَما فائِدَةُ الِاعْتِراضِ ؟ نَقُولُ: الِاهْتِمامُ بِقَطْعِ اعْتِراضِ المُعْتَرِضِ؛ لِأنَّهُ لَمّا قالَ: ﴿وإنَّهُ لَقَسَمٌ﴾ أرادَ أنْ يَصِفَهُ بِالعَظَمَةِ بِقَوْلِهِ: عَظِيمٌ والكَفّارُ كانُوا يَجْهَلُونَ ذَلِكَ ويَدَّعُونَ العِلْمَ بِأُمُورِ النَّجْمِ، وكانُوا يَقُولُونَ: لَوْ كانَ كَذَلِكَ فَما بالُهُ لا يَحْصُلُ لَنا عِلْمٌ وظَنٌّ، فَقالَ: لَوْ تَعْلَمُونَ لَحَصَلَ لَكُمُ القَطْعُ، وعَلى ما ذَكَرْنا الأمْرُ أظْهَرُ مِن هَذا، وذَلِكَ لِأنّا قُلْنا: إنَّ قَوْلَهُ: ﴿فَلا أُقْسِمُ﴾ مَعْناهُ الأمْرُ واضِحٌ مِن أنْ يُصَدَّقَ بِيَمِينٍ، والكُفّارُ كانُوا يَقُولُونَ: أيْنَ الظُّهُورُ ونَحْنُ نَقْطَعُ بِعَدَمِهِ، فَقالَ: لَوْ تَعْلَمُونَ شَيْئًا لَما كانَ كَذَلِكَ، والأظْهَرُ مِنهُ أنّا بَيَّنّا أنَّ كُلَّ ما جَعَلَهُ اللَّهُ قَسَمًا فَهو في نَفْسِهِ دَلِيلٌ عَلى المَطْلُوبِ وأخْرَجَهُ مَخْرَجَ القَسَمِ، فَقَوْلُهُ: ﴿وإنَّهُ لَقَسَمٌ﴾ مَعْناهُ عِنْدَ التَّحْقِيقِ، وإنَّهُ دَلِيلٌ وبُرْهانٌ قَوِيٌّ لَوْ تَعْلَمُونَ وجْهَهُ لاعْتَرَفْتُمْ بِمَدْلُولِهِ، وهو التَّوْحِيدُ والقُدْرَةُ عَلى الحَشْرِ، وذَلِكَ لَأنَّ دَلالَةَ اخْتِصاصِ الكَواكِبِ بِمَواضِعِها في غايَةِ الظُّهُورِ ولا يَلْزَمُ الفَلاسِفَةَ دَلِيلٌ أظْهَرُ مِنهُ، وأمّا المَعْنَوِيَّةُ:
فالمَسْألَةُ الأُولى: ما المُقْسَمُ عَلَيْهِ ؟ نَقُولُ: فِيهِ وجْهانِ:
الأوَّلُ: القُرْآنُ كانُوا يَجْعَلُونَهُ تارَةً شِعْرًا وأُخْرى سِحْرًا وغَيْرَ ذَلِكَ.
وثانِيهِما: هو التَّوْحِيدُ والحَشْرُ وهو أظْهَرُ، وقَوْلُهُ: ﴿لَقُرْآنٌ﴾ ابْتِداءُ كَلامٍ وسَنُبَيِّنُ ذَلِكَ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: ما الفائِدَةُ في وصْفِهِ بِالعَظِيمِ في قَوْلِهِ: ﴿وإنَّهُ لَقَسَمٌ﴾ فَنَقُولُ: لَمّا قالَ: ﴿فَلا أُقْسِمُ﴾ وكانَ مَعْناهُ: لا أُقْسِمُ بِهَذا لِوُضُوحِ المُقْسَمِ بِهِ عَلَيْهِ. قالَ: لَسْتُ تارِكًا لِلْقَسَمِ بِهَذا؛ لِأنَّهُ لَيْسَ بِقَسَمٍ أوْ لَيْسَ بِقَسَمٍ عَظِيمٍ، بَلْ هو قَسَمٌ عَظِيمٌ ولا أُقْسِمُ بِهِ، بَلْ بِأعْظَمَ مِنهُ أُقْسِمُ لِجَزْمِي بِالأمْرِ وعِلْمِي بِحَقِيقَتِهِ.
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: اليَمِينُ في أكْثَرِ الأمْرِ تُوصَفُ بِالمُغَلَّظَةِ والعِظَمِ يُقالُ في المُقْسِمِ: حَلَفَ فُلانٌ بِالأيْمانِ العِظامِ، ثُمَّ تَقُولُ في حَقِّهِ يَمِينٌ مُغَلَّظَةٌ؛ لِأنَّ آثامَها كَبِيرَةٌ. وأمّا في حَقِّ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ فَبِالعَظِيمِ وذَلِكَ هو المُناسِبُ؛ لِأنَّ مَعْناهُ هو الَّذِي قَرُبَ قَوْلُهُ مِن كُلِّ قَلْبٍ ومَلَأ الصَّدْرَ بِالرُّعْبِ لِما بَيَّنّا أنَّ مَعْنى العَظِيمِ فِيهِ ذَلِكَ، كَما أنَّ الجِسْمَ العَظِيمَ هو الَّذِي قَرُبَ مِن أشْياءَ عَظِيمَةٍ ومَلَأ أماكِنَ كَثِيرَةً مِنَ العِظَمِ، كَذَلِكَ العَظِيمُ الَّذِي لَيْسَ بِجِسْمٍ قَرُبَ مِن أُمُورٍ كَثِيرَةٍ، ومَلَأ صُدُورًا كَثِيرَةً.
{"ayahs_start":75,"ayahs":["۞ فَلَاۤ أُقۡسِمُ بِمَوَ ٰقِعِ ٱلنُّجُومِ","وَإِنَّهُۥ لَقَسَمࣱ لَّوۡ تَعۡلَمُونَ عَظِیمٌ","إِنَّهُۥ لَقُرۡءَانࣱ كَرِیمࣱ","فِی كِتَـٰبࣲ مَّكۡنُونࣲ","لَّا یَمَسُّهُۥۤ إِلَّا ٱلۡمُطَهَّرُونَ"],"ayah":"إِنَّهُۥ لَقُرۡءَانࣱ كَرِیمࣱ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











