الباحث القرآني

ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ﴾ ﴿إنّا لَمُغْرَمُونَ﴾ ﴿بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ﴾ وهو تَدْرِيجٌ في الإثْباتِ، وبَيانُهُ هو أنَّهُ لَمّا قالَ: ﴿أأنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أمْ نَحْنُ الزّارِعُونَ﴾ لَمْ يَبْعُدْ مِن مُعانِدٍ أنْ يَقُولَ: نَحْنُ نَحْرُثُ وهو بِنَفْسِهِ يَصِيرُ زَرْعًا، لا بِفِعْلِنا ولا بِفِعْلِ غَيْرِنا، فَقالَ تَعالى: ولَوْ سَلِمَ لَكم هَذا الباطِلُ، فَما تَقُولُونَ في سَلامَتِهِ عَنِ الآفاتِ الَّتِي تُصِيبُهُ، فَيَفْسُدُ قَبْلَ اشْتِدادِ الحَبِّ وقَبْلَ انْعِقادِهِ، أوْ قَبْلَ اشْتِدادِ الحَبِّ وقَبْلَ ظُهُورِ الحَبِّ فِيهِ، فَهَلْ تَحْفَظُونَهُ مِنها أوْ تَدْفَعُونَها عَنْهُ، أوْ هَذا الزَّرْعُ بِنَفْسِهِ يَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهِ تِلْكَ الآفاتِ، كَما تَقُولُونَ: إنَّهُ بِنَفْسِهِ يَنْبُتُ، ولا يَشُكُّ أحَدٌ أنَّ دَفْعَ الآفاتِ بِإذْنِ اللَّهِ تَعالى، وحِفْظَهُ عَنْها بِفَضْلِ اللَّهِ، وعَلى هَذا أعادَهُ لِيَذْكُرَ أُمُورًا مُرَتَّبَةً بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فَيَكُونُ الأمْرُ الأوَّلُ: لِلْمُهْتَدِينَ. والثّانِي: لِلظّالِمِينَ. والثّالِثُ: لِلْمُعانِدِينَ الضّالِّينَ، فَيَذْكُرُ الأمْرَ الَّذِي لا شَكَّ فِيهِ في آخِرِ الأمْرِ إقامَةً لِلْحُجَّةِ عَلى الضّالِّ المُعانِدِ. وفِيهِ سُؤالٌ وهو أنَّهُ تَعالى هَهُنا قالَ: ﴿لَجَعَلْناهُ﴾ بِلامِ الجَوابِ وقالَ في الماءِ: ﴿جَعَلْناهُ أُجاجًا﴾ [الواقعة: ٧٠] مِن غَيْرِ لامٍ فَما الفَرْقُ بَيْنَهُما ؟ نَقُولُ: ذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ عَنْهُ جَوابَيْنِ: أحَدُهُما: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطامًا﴾ كانَ قَرِيبَ الذِّكْرِ فاسْتَغْنى بِذِكْرِ اللّامِ فِيهِ عَنْ ذِكْرِها ثانِيًا، وهَذا ضَعِيفٌ لِأنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿ولَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أعْيُنِهِمْ﴾ [يس: ٦٦] مَعَ قَوْلِهِ: ﴿ولَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ﴾ [يس: ٦٧] أقْرَبُ مِن قَوْلِهِ: ﴿لَجَعَلْناهُ حُطامًا﴾ و﴿جَعَلْناهُ أُجاجًا﴾ اللَّهُمَّ إلّا أنْ نَقُولَ: هُناكَ أحَدُهُما قَرِيبٌ مِنَ الآخَرِ ذِكْرًا لا مَعْنًى؛ لِأنَّ الطَّمْسَ لا يَلْزَمُهُ المَسْخُ ولا بِالعَكْسِ والمَأْكُولَ مَعَهُ المَشْرُوبُ في الدَّهْرِ، فالأمْرانِ تَقارَبا لَفْظًا ومَعْنًى والجَوابُ الثّانِي: أنَّ اللّامَ يُفِيدُ نَوْعَ تَأْكِيدٍ فَذَكَرَ اللّامَ في المَأْكُولِ لِيُعْلَمَ أنَّ أمْرَ المَأْكُولِ أهَمُّ مِن أمْرِ المَشْرُوبِ وأنَّ نِعْمَتَهُ أعْظَمُ وما ذَكَرْنا أيْضًا وارِدٌ عَلَيْهِ؛ لِأنَّ أمْرَ الطَّمْسِ أهْوَنُ مِن أمْرِ المَسْخِ وأدْخَلَ فِيهِما اللّامَ، وهَهُنا جَوابٌ آخَرُ يَبِينُ بِتَقْدِيمِ بَحْثٍ عَنْ فائِدَةِ اللّامِ في جَوابِ لَوْ، فَنَقُولُ: حَرْفُ الشَّرْطِ إذا دَخَلَ عَلى الجُمْلَةِ يُخْرِجُها عَنْ كَوْنِها جُمْلَةً في المَعْنى فاحْتاجُوا إلى عَلامَةٍ تَدُلُّ عَلى المَعْنى، فَأتَوْا بِالجَزْمِ في المُسْتَقْبَلِ؛ لِأنَّ الشَّرْطَ يَقْتَضِي جَزاءً، وفِيهِ تَطْوِيلٌ فالجَزْمُ الَّذِي هو سُكُونٌ ألْيَقُ بِالمَوْضِعِ وبَيْنَهُ وبَيْنَ المَعْنى أيْضًا مُناسَبَةٌ لَكِنَّ كَلِمَةَ لَوْ مُخْتَصَّةٌ بِالدُّخُولِ عَلى الماضِي مَعْنًى فَإنَّها إذا دَخَلَتْ عَلى المُسْتَقْبَلِ جَعَلَتْهُ ماضِيًا، والتَّحْقِيقُ فِيهِ أنَّ الجُمْلَةَ الشَّرْطِيَّةَ لا تَخْرُجُ عَنْ أقْسامٍ فَإنَّها إذا ذُكِرَتْ لا بُدَّ مِن أنْ يَكُونَ الشَّرْطُ مَعْلُومَ الوُقُوعِ؛ لِأنَّ الشَّرْطَ إنْ كانَ مَعْلُومَ الوُقُوعِ فالجَزاءُ لازِمُ الوُقُوعِ فَجَعْلُ الكَلامِ جُمْلَةً شَرْطِيَّةً عُدُولٌ عَنْ جُمْلَةٍ إسْنادِيَّةٍ إلى جُمْلَةٍ تَعْلِيقِيَّةٍ وهو تَطْوِيلٌ مِن غَيْرِ فائِدَةٍ فَقَوْلُ القائِلِ: آتِيكَ إنْ طَلَعَتِ الشَّمْسُ تَطْوِيلٌ والأوْلى أنْ يَقُولَ: آتِيكَ جَزْمًا مِن غَيْرِ شَرْطٍ فَإذا عُلِمَ هَذا فَحالُ الشَّرْطِ لا يَخْلُو مِن أنْ يَكُونَ مَعْلُومَ العَدَمِ أوْ مَشْكُوكًا فِيهِ فالشَّرْطُ إذا وقَعَ عَلى قِسْمَيْنِ فَلا بُدَّ لَهُما مِن لَفْظَيْنِ وهُما إنْ ولَوْ، واخْتَصَّتْ إنْ بِالشُّكُوكِ، ولَوْ بِمَعْلُومٍ لِأمْرٍ بَيَّنّاهُ في مَوْضِعٍ آخَرَ، لَكِنْ ما عُلِمَ عَدَمُهُ يَكُونُ الآخَرُ فَقَدْ أثْبَتَ مِنهُ فَهو ماضٍ أوْ في حُكْمِهِ؛ لِأنَّ العِلْمَ بِالأُمُورِ يَكُونُ بَعْدَ وُقُوعِها وما يُشَكُّ فِيهِ فَهو مُسْتَقْبَلٌ أوْ في مَعْناهُ لِأنَّنا نَشُكُّ في الأُمُورِ المُسْتَقْبَلَةِ أنَّها تَكُونُ أوْ لا تَكُونُ والماضِي خَرَجَ عَنِ التَّرَدُّدِ، (p-١٥٩)وإذا ثَبَتَ هَذا، فَنَقُولُ: لَمّا دَخَلَ لَوْ عَلى الماضِي وما اخْتَلَفَ آخَرُ بِالعامِلِ لَمْ يَتَبَيَّنْ فِيهِ إعْرابٌ، وإنْ لَمّا دَخَلَ عَلى المُسْتَقْبَلِ بانَ فِيهِ الإعْرابُ، ثُمَّ إنَّ الجَزاءَ عَلى حَسَبِ الشَّرْطِ وكانَ الجَزاءُ في بابِ لَوْ ماضِيًا فَلَمْ يَتَبَيَّنْ فِيهِ الحالُ بِحَرَكَةٍ ولا سُكُونٍ، فَيُضافُ لَهُ حَرْفٌ يَدُلُّ عَلى خُرُوجِهِ عَنْ كَوْنِهِ جُمْلَةً ودُخُولِهِ في كَوْنِهِ جُزْءَ جُمْلَةٍ، إذا ثَبَتَ هَذا فَنَقُولُ: عِنْدَما يَكُونُ الجَزاءُ ظاهِرًا يَسْتَغْنِي عَنِ الحَرْفِ الصّارِفِ، لَكِنَّ كَوْنَ الماءِ المَذْكُورِ في الآيَةِ، وهو الماءُ المَشْرُوبُ المُنَزَّلُ مِنَ المُزْنِ أُجاجًا لَيْسَ أمْرًا واقِعًا يُظَنُّ أنَّهُ خَبَرٌ مُسْتَقِلٌّ، ويُقَوِّيهِ أنَّهُ تَعالى يَقُولُ: ﴿جَعَلْناهُ أُجاجًا﴾ عَلى طَرِيقَةِ الإخْبارِ، والحَرْثُ والزَّرْعُ كَثِيرًا ما وقَعَ كَوْنُهُ حُطامًا فَلَوْ قالَ: جَعَلْناهُ حُطامًا، كانَ يُتَوَهَّمُ مِنهُ الإخْبارُ، فَقالَ هُناكَ: ﴿لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ﴾ لِيُخْرِجَهُ عَمّا هو صالِحٌ لَهُ في الواقِعِ، وهو الحُطامِيَّةُ، وقالَ: الماءُ المُنَزَّلُ المَشْرُوبُ مِنَ المُزْنِ جَعَلْناهُ أُجاجًا؛ لِأنَّهُ لا يُتَوَهَّمُ ذَلِكَ فاسْتَغْنى عَنِ اللّامِ، وفِيهِ لَطِيفَةٌ أُخْرى نَحْوِيَّةٌ، وهي أنَّ في القُرْآنِ إسْقاطَ اللّامِ عَنْ جَزاءِ لَوْ حَيْثُ كانَتْ لَوْ داخِلَةً عَلى مُسْتَقْبَلٍ لَفْظًا، وأمّا إذا كانَ ما دَخَلَ عَلَيْهِ لَوْ ماضِيًا، وكانَ الجَزاءُ مُوجَبًا فَلا كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولَوْ شِئْنا لَآتَيْنا﴾ [السجدة: ١٣] ﴿لَوْ هَدانا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ﴾ [إبراهيم: ٢١] وذَلِكَ لِأنَّ لَوْ إذا دَخَلَتْ عَلى فِعْلٍ مُسْتَقْبَلٍ كَما في قَوْلِهِ: ﴿لَوْ نَشاءُ﴾ فَقَدْ أُخْرِجَتْ عَنْ حَيِّزِها لَفْظًا؛ لِأنَّ لَوْ لِلْماضِي فَإذا خَرَجَ الشَّرْطُ عَنْ حَيِّزِهِ جازَ في الجَزاءِ الإخْراجُ عَنْ حَيِّزِهِ لَفْظًا وإسْقاطُ اللّامِ عَنْهُ؛ لِأنَّ إنْ كانَ حَيِّزُها المُسْتَقْبَلَ وتَدْخُلُ عَلى المُسْتَقْبَلِ، فَإذا جُعِلَ ما دَخَلَ إنْ عَلَيْهِ ماضِيًا كَقَوْلِكَ: إنْ جِئْتَنِي، جازَ في الخَبَرِ الإخْراجُ عَنْ حَيِّزِهِ وتَرْكُ الجَزْمِ فَنَقُولُ: أُكْرِمُكَ بِالرَّفْعِ، وأُكْرِمْكَ بِالجَزْمِ، كَما تَقُولُ في: ﴿لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ﴾ وفي: ﴿لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ﴾ وما ذَكَرْناهُ مِنَ الجَوابِ في قَوْلِهِ: ﴿أنُطْعِمُ مَن لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أطْعَمَهُ﴾ [يس: ٤٧] إذا نَظَرْتَ إلَيْهِ تَجِدُهُ مُسْتَقِيمًا، وحَيْثُ لَمْ يَقُلْ: لَوْ شاءَ اللَّهُ أطْعَمَهُ، عُلِمَ أنَّ الآخَرَ جَزاءٌ ولَمْ يَبْقَ فِيهِ تَوَهُّمٌ؛ لِأنَّهُ إمّا أنْ يَكُونَ عِنْدَ المُتَكَلِّمِ، وذَلِكَ غَيْرُ جائِزٍ؛ لِأنَّ المُتَكَلِّمَ عالِمٌ بِحَقِيقَةِ كَلامِهِ، وإمّا أنْ يَكُونَ عِنْدَهم وذَلِكَ غَيْرُ جائِزٍ هَهُنا؛ لِأنَّ قَوْلَهم: لَوْ شاءَ اللَّهُ أطْعَمَهُ رَدٌّ عَلى المُؤْمِنِينَ في زَعْمِهِمْ يَعْنِي أنْتُمْ تَقُولُونَ: إنَّ اللَّهَ لَوْ شاءَ فِعْلًا فَلا نُطْعِمُ مِن لَوْ شاءَ اللَّهُ أطْعَمَهُ عَلى زَعْمِكم، فَلَمّا كانَ أطْعَمَهُ جَزاءً مَعْلُومًا عِنْدَ السّامِعِ والمُتَكَلِّمِ اسْتَغْنى عَنِ اللّامِ، والحُطامُ كالفُتاتِ والجُذاذِ وهو مِنَ الحَطْمِ كَما أنَّ الفُتاتَ والجُذاذَ مِنَ الفَتِّ والجَذِّ، والفُعالُ في أكْثَرِ الأمْرِ يَدُلُّ عَلى مَكْرُوهٍ أوْ مُنْكَرٍ، إمّا في المَعانِي: فَكالسُّباتِ والفُواقِ والزُّكامِ والدُّوارِ والصُّداعِ لِأمْراضٍ وآفاتٍ في النّاسِ والنَّباتِ. وإمّا في الأعْيانِ: فَكالجُذاذِ والحُطامِ والفُتاتِ وكَذا إذا لَحِقَتْهُ الهاءُ كالبُرادَةِ والسُّحالَةِ، وفِيهِ زِيادَةُ بَيانٍ، وهو أنَّ ضَمَّ الفاءِ مِنَ الكَلِمَةِ يَدُلُّ عَلى ما ذَكَرْنا في الأفْعالِ، فَإنّا نَقُولُ: فُعِلَ لِما لَمْ يُسَمَّ فاعِلُهُ وكانَ السَّبَبُ أنَّ أوائِلَ الكَلِمِ لَمّا لَمْ يَكُنْ فِيهِ التَّخْفِيفُ المُطْلَقُ وهو السُّكُونُ لَمْ يَثْبُتِ التَّثْقِيلُ المُطْلَقُ وهو الضَّمُّ، فَإذا ثَبَتَ فَهو لِعارِضٍ، إنْ عُلِمَ كَما ذَكَرْنا فَلا كَلامَ، وإنْ لَمْ يُعْلَمْ كَما في بُرْدٍ وقُفْلٍ فالأمْرُ خَفِيٌّ يَطُولُ ذِكْرُهُ، والوَضْعُ يَدُلُّ عَلَيْهِ في الثُّلاثِيِّ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنّا لَمُغْرَمُونَ﴾ ﴿بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ﴾ [الواقعة: ٦٦ - ٦٧] وفِيهِ وجْهانِ: أمّا عَلى الوَجْهِ الأوَّلِ: كَأنَّما هو كَلامٌ مُقَدَّرٌ عَنْهم كَأنَّهُ يَقُولُ: وحِينَئِذٍ يَحِقُّ أنْ تَقُولُوا: إنّا لَمُعَذَّبُونَ دائِمُونَ في العَذابِ. وأمّا عَلى الوَجْهِ الثّانِي: فَيَقُولُونَ: إنّا لَمُعَذَّبُونَ ومَحْرُومُونَ عَنْ إعادَةِ الزَّرْعِ مَرَّةً أُخْرى، يَقُولُونَ: إنّا لَمُعَذَّبُونَ بِالجُوعِ بِهَلاكِ الزَّرْعِ ومَحْرُومُونَ عَنْ دَفْعِهِ بِغَيْرِ الزَّرْعِ لِفَواتِ الماءِ. والوَجْهُ الثّانِي: في الغُرْمِ إنّا لَمُكْرَهُونَ بِالغَرامَةِ مِن غَرِمَ الرَّجُلُ وأصْلُ الغُرْمِ والغَرامِ لُزُومُ المَكْرُوهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب