الباحث القرآني

ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ثُمَّ إنَّكم أيُّها الضّالُّونَ المُكَذِّبُونَ﴾ ﴿لَآكِلُونَ مِن شَجَرٍ مِن زَقُّومٍ﴾ ﴿فَمالِئُونَ مِنها البُطُونَ﴾ ﴿فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الحَمِيمِ﴾ ﴿فَشارِبُونَ شُرْبَ الهِيمِ﴾ . فِي تَفْسِيرِ الآياتِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: الخِطابُ مَعَ مَن ؟ نَقُولُ: قالَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ مَعَ أهْلِ مَكَّةَ، والظّاهِرُ أنَّهُ عامٌّ مَعَ كُلِّ ضالٍّ مُكَذِّبٍ وقَدْ تَقَدَّمَ مِثْلُ هَذا في مَواضِعَ، وهو تَمامُ كَلامِ النَّبِيِّ ﷺ كَأنَّهُ تَعالى قالَ لِنَبِيِّهِ: قُلْ إنَّ الأوَّلِينَ والآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ ثُمَّ إنَّكم تُعَذَّبُونَ بِهَذِهِ الأنْواعِ مِنَ العَذابِ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قالَ هَهُنا: ﴿الضّالُّونَ المُكَذِّبُونَ﴾ بِتَقْدِيمِ الضّالِّ وقالَ في آخِرِ السُّورَةِ: ﴿وأمّا إنْ كانَ مِنَ المُكَذِّبِينَ الضّالِّينَ﴾ [الواقعة: ٩٢] بِتَقْدِيمِ المُكَذِّبِينَ، فَهَلْ بَيْنَهُما فَرْقٌ ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، وذَلِكَ أنَّ المُرادَ مِنَ الضّالِّينَ هَهُنا هُمُ الَّذِينَ صَدَرَ مِنهُمُ الإصْرارُ عَلى الحِنْثِ العَظِيمِ، فَضَلُّوا في سَبِيلِ اللَّهِ ولَمْ يَصِلُوا إلَيْهِ ولَمْ (p-١٥٢)يُوَحِّدُوهُ، وذَلِكَ ضَلالٌ عَظِيمٌ، ثُمَّ كَذَّبُوا رُسُلَهُ وقالُوا: ﴿أئِذا مِتْنا﴾ فَكَذَّبُوا بِالحَشْرِ، فَقالَ: ﴿أيُّها الضّالُّونَ﴾ الَّذِينَ أشْرَكْتُمْ ﴿المُكَذِّبُونَ﴾ الَّذِينَ أنْكَرْتُمُ الحَشْرَ لَتَأْكُلُونَ ما تَكْرَهُونَ، وأمّا هُناكَ فَقالَ لَهم: أيُّها المُكَذِّبُونَ الَّذِينَ كَذَّبْتُمْ بِالحَشْرِ، ﴿الضّالُّونَ﴾ في طَرِيقِ الخَلاصِ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ إلى النَّعِيمِ، وفِيهِ وجْهٌ آخَرُ وهو أنَّ الخِطابَ هُنا مَعَ الكُفّارِ فَقالَ: يا أيُّها الَّذِينَ ضَلَلْتُمْ أوَّلًا وكَذَّبْتُمْ ثانِيًا، والخِطابُ في آخِرِ السُّورَةِ مَعَ مُحَمَّدٍ ﷺ يُبَيِّنُ لَهُ حالَ الأزْواجِ الثَّلاثَةِ. فَقالَ: المُقَرَّبُونَ في رَوْحٍ ورَيْحانٍ وجَنَّةِ نَعِيمٍ، وأصْحابُ اليَمِينِ في سَلامٍ، وأمّا المُكَذِّبُونَ الَّذِينَ كَذَّبُوا فَقَدْ ضَلُّوا فَقَدَّمَ تَكْذِيبَهم إشارَةً إلى كَرامَةِ مُحَمَّدٍ ﷺ حَيْثُ بَيَّنَ أنَّ أقْوى سَبَبٍ في عِقابِهِمْ تَكْذِيبُهم والَّذِي يَدُلُّ عَلى أنَّ الكَلامَ هُناكَ مَعَ مُحَمَّدٍ ﷺ قَوْلُهُ: ﴿فَسَلامٌ لَكَ مِن أصْحابِ اليَمِينِ﴾ [الواقعة: ٩١] . المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: ما الزَّقُّومُ ؟ نَقُولُ: قَدْ بَيَّنّاهُ في مَوْضِعٍ آخَرَ واخْتَلَفَ فِيهِ أقْوالُ النّاسِ ومَآلُ الأقْوالِ إلى كَوْنِ ذَلِكَ في الطَّعْمِ مُرًّا وفي اللَّمْسِ حارًّا، وفي الرّائِحَةِ مُنْتِنًا، وفي المَنظَرِ أسْوَدَ لا يَكادُ آكِلُهُ يُسِيغُهُ فَيُكْرَهُ عَلى ابْتِلاعِهِ، والتَّحْقِيقُ اللُّغَوِيُّ فِيهِ أنَّ الزَّقُّومَ لُغَيَّةٌ عَرَبِيَّةٌ دَلَّنا تَرْكِيبُهُ عَلى قُبْحِهِ، وذَلِكَ لِأنَّ ”ز ق“ لَمْ يَجْتَمِعْ إلّا في مُهْمَلٍ أوْ في مَكْرُوهٍ مِنهُ مَزَقَ، ومِنهُ زَمَقَ شَعْرُهُ إذا نَتَفَهُ، ومِنهُ القَزْمُ لِلدَّناءَةِ، وأقْوى مِن هَذا أنَّ القافَ مَعَ كُلِّ حَرْفٍ مِنَ الحَرْفَيْنِ الباقِيَيْنِ يَدُلُّ عَلى المَكْرُوهِ في أكْثَرِ الأمْرِ، فالقافُ مَعَ المِيمِ قُمامَةٌ وقُمْقُمَةٌ، وبِالعَكْسِ مُقامِقٌ الغَلِيظُ الصَّوْتِ والقُمْقُمَةُ هو السُّورُ، وأمّا القافُ مَعَ الزّايِ فالزَّقُّ رَمْيُ الطّائِرِ بِذَرْقِهِ، والزَّقْزَقَةُ الخِفَّةُ، وبِالعَكْسِ القَزْنُوبُ، فَيَنْفِرُ الطَّبْعُ مِن تَرْكِيبِ الكَلِمَةِ مِن حُرُوفٍ اجْتِماعُها دَلِيلُ الكَراهَةِ والقُبْحِ، ثُمَّ قُرِنَ بِالأكْلِ فَدَلَّ عَلى أنَّهُ طَعامٌ ذُو غُصَّةٍ، وأمّا ما يُقالُ بِأنَّ العَرَبَ تَقُولُ: زَقَمْتَنِي بِمَعْنى أطْعَمْتَنِي الزُّبْدَ والعَسَلَ واللَّبَنَ، فَذَلِكَ لِلْمَجانَةِ كَقَوْلِهِمْ: أرْشَقَنِي بِثَوْبٍ حَسَنٍ، وأرْجَمَنِي بِكِيسٍ مِن ذَهَبٍ، وقَوْلُهُ: ﴿مِن شَجَرٍ﴾ لِابْتِداءِ الغايَةِ أيْ تَناوُلُكم مِنهُ، وقَوْلُهُ: ﴿فَمالِئُونَ مِنها﴾ زِيادَةٌ في بَيانِ العَذابِ أيْ لا يُكْتَفى مِنكم بِنَفْسٍ كَما الأكْلُ يَكْتَفِي مَن يَأْكُلُ الشَّيْءَ لِتَحِلَّةِ القَسَمِ، بَلْ يُلْزَمُونَ بِأنْ تَمْلَئُوا مِنها البُطُونَ والهاءُ عائِدَةٌ إلى الشَّجَرَةِ، والبُطُونُ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المُرادُ مِنهُ مُقابَلَةَ الجَمْعِ بِالجَمْعِ أيْ يَمْلَأُ كُلُّ واحِدٍ مِنكم بَطْنَهُ ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المُرادُ أنَّ كُلَّ واحِدٍ مِنكم يَمْلَأُ البُطُونَ، والبُطُونُ حِينَئِذٍ تَكُونُ بُطُونَ الأمْعاءِ، لِتَخَيُّلِ وصْفِ المِعى في باطِنِ الإنْسانِ لَهُ، كَيَأْكُلُ في سَبْعَةِ أمْعاءٍ، فَيَمْلَئُونَ بُطُونَ الأمْعاءِ وغَيْرِها، والأوَّلُ أظْهَرُ، والثّانِي أدْخَلُ في التَّعْذِيبِ والوَعِيدِ، قَوْلُهُ: ﴿فَشارِبُونَ عَلَيْهِ﴾ أيْ عَقِيبَ الأكْلِ تَجُرُّ مَرارَتُهُ وحَرارَتُهُ إلى شُرْبِ الماءِ فَيَشْرَبُونَ عَلى ذَلِكَ المَأْكُولِ وعَلى ذَلِكَ الزَّقُّومِ مِنَ الماءِ الحارِّ، وقَدْ تَقَدَّمَ بَيانُ الحَمِيمِ، وقَوْلُهُ: ﴿فَشارِبُونَ شُرْبَ الهِيمِ﴾ بَيانٌ أيْضًا لِزِيادَةِ العَذابِ أيْ لا يَكُونُ أمْرُكم أمْرَ مَن شَرِبَ ماءً حارًّا مُنْتِنًا فَيُمْسِكُ عَنْهُ بَلْ يَلْزَمُكم أنْ تَشْرَبُوا مِنهُ مِثْلَ ما تَشْرَبُ الهِيمُ وهي الجِمالُ الَّتِي أصابَها العَطَشُ فَتَشْرَبُ ولا تَرْوى، وهَذا البَيانُ في الشُّرْبِ لِزِيادَةِ العَذابِ، وقَوْلُهُ: ﴿فَمالِئُونَ مِنها﴾ في الأكْلِ، فَإنْ قِيلَ: الأهْيَمُ إذا شَرِبَ الماءَ الكَثِيرَ يَضُرُّهُ ولَكِنْ في الحالِ يَلْتَذُّ بِهِ، فَهَلْ لِأهْلِ الجَحِيمِ مِن شُرْبِ الحَمِيمِ الحارِّ في النّارِ لَذَّةٌ ؟ قُلْنا: لا، وإنَّما ذَلِكَ لِبَيانِ زِيادَةِ العَذابِ، ووَجْهُهُ أنْ يُقالَ: يُلْزَمُونَ بِشُرْبِ الحَمِيمِ ولا يُكْتَفى مِنهم بِذَلِكَ الشُّرْبِ بَلْ يُلْزَمُونَ أنْ يَشْرَبُوا كَما يَشْرَبُ الجَمَلُ الأهْيَمُ الَّذِي بِهِ الهُيامُ، أوْ هم إذا شَرِبُوا تَزْدادُ حَرارَةُ الزَّقُّومِ في جَوْفِهِمْ فَيَظُنُّونَ أنَّهُ مِنَ الزَّقُّومِ لا مِنَ الحَمِيمِ فَيَشْرَبُونَ مِنهُ شَيْئًا كَثِيرًا بِناءً عَلى وهْمِ الرِّيِّ، والقَوْلُ في الهِيمِ كالقَوْلِ في البِيضِ، أصْلُهُ هُومٌ، وهَذا مِن هامَ يَهِيمُ كَأنَّهُ مِنَ العَطَشِ يَهِيمُ، والهُيامُ ذَلِكَ الدّاءُ الَّذِي يَجْعَلُهُ كالهائِمِ مِنَ العَطَشِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب